• مرحبًا بكم في منصة منتديات صقر الجنوب التعليمية!
    أهلا ومرحبا بكم في مجتمعنا أنت حاليا تشاهد المعهد كزائر و التي لاتعطيك سوى خيارات التصفح المحدودة الاشتراك لدينا مجاني ولايستغرق سوى لحظات قليلة حتى تتمكن من المشاركة والتفاعل معنا

من رواية فوضى الحواس " أحلام مستغنامي"

لحنــ المطــر

عضو جديد
إنضم
3 فبراير 2010
المشاركات
5,332
مستوى التفاعل
47
النقاط
0
العمر
28
الإقامة
بين بتلآت الزهور~ْ
طبعا.. الوقت عدو العشاق.
ها هوذا يفرقنا. خطوات.. ويتوارى خيال رجل يعود إلى عتمته الأولى، مرتديًا سواده.
فأعود رفقة البحر مشيا على الأقدام. أمشي وتمشي الأسئلة معي. وكأنني انتعل علامات الاستفهام.
نيتشه كان يقول "إن أعظم الأفكار، هي تلك التي تأتينا ونحن نمشي" فأمشي.
ولكن كل فكرة يأتيك بها البحر، تذهب بها الموجة القادمة.
كنت أعتقد أن الرواية هي فن التحايل، تمامًا كما أنّ الشعر هو فنّ الدهشة. ولم أفهم كيف أنّ هذا الرجل الذي لم يكن مهيّأً لدور الشاعر، ولا لدور الروائي، تمكّن من إدهاشي، والتحايل على كلّ حواسي إلى حد جعلي أمّية أمام الرجولة.
كيف دون أن يدري، كتب هذه القصة على قياسي، في هذا الكتاب الذي غيّرنا فيه أكثر من مرّة، أماكننا وأدوارنا، كيف أصبح ذلك الصديق الغائب فجأة، هو البطل الرئيسي.
فقد بدا واضحًا الآن أنه الرجل الذي جلس إلى جواري عند مشاهدتي لذلك الفيلم، وأننّي ما فتئت أعيش بمحاذاته منذ ذلك اليوم. أشتمّ عطره.. أطالع كتبه.. أستمع إلى موسيقاه، أجلس على أريكته.. أتحدّث على هاتفه.. وأقع في حب بيته!
لم أفهم، كيف بغباء مثالي وقعت في فخ كل الإشارات المزورة التي وضعها الحب في طريقي.
وإذا بي أثناء وهمي باكتشاف رجل، كنت أكتشف آخر.
لا أدري في أية محطة، أخطأت قطار الحب "الأول"، فأخذت قاطرة أوصلتني إلى حب آخر.
كسائح شارد يأخذ الميترو لأول مرة، كمغامر يكتشف قارة دون قصد. في لحظة شرود عاطفيّ. أخطأت وجهتي. وقبلي أخطأ كولومبس، فاكتشف أمريكا. ومات وهو يعتقد أنه اكتشف الهند.
يا للروائيين، كما البحارة هم يموتون دائما في لحطة جهل!
قطعا..لم تصل.


أنت المسافر في كل قطار صوب الأسئلة. من قال إنّك وصلت؟ من قال إنك تدري أين هي ذاهبة بك الأجوبة؟ ف"الأجوبة عمياء ..وحدها الأسئلة ترى".
الوقت سفر..
مراكب محملة بالأوهام عادت، وأخرى بحمولة الحلم ذاهبة.
ضحك البحر لما رآني أبحر على زورق من ورق، وأرفع الكلمات أشرعة في وجه المنطق. عساني أعرف..كيف كل هذا قد حصل.

الوقت مطر..
غيمة تغادر الهاتف. وتأتي كي تقيم في حقيبتي. وخلف نافذة الخريف، مطر خفيف.. يطرق قلبي على مهل.
الوقت قدر..
يغلق البحر قميصه. يتفقد ليلاً أزرار الذكرى. يغلقها أيضاً بإمعان، حتى لا يتسرب الملح إلى الكلمات.
ثم يرتدي صوته الأجمل. يدير أرقام هاتف.. يسأل:
وتجيب امرأة:
-ألو نعم!
الوقت ألم..
لماذا نحن نقول دائما"نعم" عندما نرد على الهاتف.. حتى عندما يكون الوقت "لا"؟
الوقت "لا"..

في بهو الحزن الفاخر، تعلّمي الاحتفاء ليلاً بالألم.. كضيف مفاجئ.
هو ألم فقط.. فلا تستعدي له كما لو كان دمعك الأول.
متأخّر هذا البكاء، لحزن جاء سابقا لأوانه، ***اع.
فالوقت وداع..
يقول الحب: ألو.. "نعم"
وتجيب الحياة: ألو "لا". والملح يتسرب عبر خط الهاتف يجتاحنا. بين استبداد الذاكرة، وحياء الوعود. تتابع الأشياء رحلتها.. دوننا.

أغادر سيدي فرج فجرًا، قبل أن يستيقظ البحر، ويستبقيني بدمعة.
له كل ذلك الموج، ولي الملح، وطائرة تنتظر.
عندما جئت إلى هنا منذ أسبوعين، كان بودلير يرافقني بتلك المقولة الجميلة، التي كانت تستبقه إلى كل سفر "الشهوة تناديني.. والحب يتوجني".
الآن، أترك عرش الحب خلفي. فالشرعيّة تناديني.. وقسنطينة تنتظرني. والحياة التي استغفلتها وخرجت على قانونها، تعيدني إلى بيت الطاعة، متوجةً ببريق الذكريات.
أعود إلى قسنطينة، متحاشيةً النظر إلى هذه المدينة.
كنت أتمنى لو أراها بعيون بورخيس عندما يرى بوينوس آيرس بعينين فاقدتي البصر. عساني أحبّها دون ذاكرة بصرية.
أحيانا يجب أن نفقد بصرنا، لنتعرّف مدناً لم نعد لفرط رؤيتها نراها.
هنا شوارع نخاف من عيون عابريها، مطاعم لا نجرؤ على ارتيادها، بيوت لا يمكن أن ندخلها معا.
هنا.. مدينة لا تعترف بالحب، إلا في أغاني "الفرقاني". لا تغادر بيتها إلا لتذهب إلى المسجد، أو إلى مقهى. لا تفتح نافذة إلا لتطل على مئذنة.
وأنا جئتها بأعراض عشقية، وكلمات اسخيليوس في مواجهة أثينا:
"يا سيدتي.. تخلي قليلا عن الآلهة. واعطيني شيئا من شقائك العظيم.."
وهل أكثر شقاءً من عاشق في قسنطينة؟

زوجي قابلني بلطف مثير للشبهات، أو ربما أنا التي كنت أبالغ في تضخيم أخطائه. بل أتربص بها، ليمكنني فيما بعد، المبالغة بعدم الشعور بالذنب تجاهه.
بدا لي سعيدا بعودتي. أو ربما كان سعيدا، لأسباب أخرى. فمذ جاء بوضياف، عاد شيء من الأمان إلى قلوب الناس. وعادت الحياة الطبيعية إلى المدينة. ومعها تلك الحمى التي تسبق الصيف دائما، وتذهب بالعائلات أفواجا إلى مروج عين الباي، وجبل الوحش.
وبدأ الناس يجرؤون أخيرا على القيام بمشاريع قريبة أو بعيدة الأمد، مراهنين على خروج البلاد من النفق.
هذه الطمأنينة المباغتة، جعلتني أتعلّم الاستكانة إلى الوقت والمكان، واثقةً بكلام ذلك الرجل.
تراني تعلمت منه التفاؤل.. أم تعلمت التريث؟ حتى إنني كثيرا ما قاومت تلك الرغبة التي تستيقظ داخلي، وتغريني بالتحري لمعرفة من يكون عبد الحق.

ماكان يربكني هو كوني حيث كنت، أواصل العيش بمحاذاته مادمت حتى هنا، أتقاسم معه المدينة نفسها.
أحياناً.. كانت تذهب بي الأحلام، فأتصور مكاناً قد يجمعنا مصادفة، قد لا يتعرف إلي، برغم أنه قرأني، بل كتبني طوال هذه القصّة مادام هو الذي أهدى تلك الرواية لصديقه وأوصله دون أن يدري.. إليّ.
وحده كتاب هنري ميشو قد يدله عليّ. لو أنا أخذته معي. أما أنا فسأستدل عليه بصمته، أو بتلك الكلمات القليلة التي كانت ميزته، والتي كعطره، سربها لصديقه.
سأسأله:
-هل عرفتني؟
وسيجيب:
-طبعاً.
أو قد يجيب:
-حتمًا.
...الكلمتين الوحيدتين اللتين قالهما يوم جلس إلى جواري في قاعة السينما.
عندها سأعترف له:
-اشتقتك.. أتدري روعة أن نشتاق إلى شخص لم نلتقِ به؟
كنت أحلم، أتصور لنا أكثر من بداية. وأتصور لي أكثر من طريقة للعثور عليه. ثم أعدل عن أفكاري، وأنا أتذكّر أنني أكرّر معه مغامرتي مع صديقه بكلّ حذافيرها.

هذه المرة أيضًا، أنا أمام رجل لا أعرف اسمه. فعبد الحق ليس اسما عائلياً، ولا يكفي للعثور على صحافي، لا أدري في أية جريدة.. ولا بأية لغة يكتب، ولا بأي اسم يوقع مقالاته، في زمن أصبح فيه لكل صحافي اسمان.
في الواقع، كان يسعدني أن يكون هذا الرجل، لا أحد.
رجل لا اسم له بالتحديد. لا أوصاف، لا صفات مميزة، ولا أوراق ثبوتية.
فقد تعلمت من تجربتي السابقة. أنّ في ما نجهله جماليّة تفوق فرحتنا بمعرفة الحقيقة.
ولذا، قرّرت أن أترك موعدي مع عبد الحقّ للحياة، تتدبره كما تشاء. حتى لا أفقد عنصر المفاجأة.. وحتى لا أستعجل الخاتمة.
فعندما نعثر على الشيء الذي بحثنا دائما عنه، تكون بداية النهاية.
أما السبب الأهم لعدولي عن البحث عنه، فهو كوني كنت أجد في انشغالي الدائم واللاشعوري به، شيئًا من الخيانة المستترة، لذلك الرجل الذي قضى موعدنا الأخير، في إقناعي بالإخلاص، وكأنه كان يستبق الأحداث، أو كأنه كان يعرف عني في كتابٍ، ما يكفي ليحذر نزعتي لحبّ صديقين في الوقت نفسه.
ألهذا أعطاني من شراسة الحب وتقلباته، كما لو كان أكثر من رجل. وقال وهو يودعني على الهاتف ذلك الاعتراف الذي ألمني: "لا أملك إلا الحبّ.. لأردّ عنك خطره".
ما كدت أذكره، بذلك القدر من التفاصيل، حتى عاودتني حالة من الاشتهاء له، حاولت أن أهرب منها إلى الكتابة. ولكن..
لليد ذاكرة لا تنفك تطاردك بالسؤال عن جسد الفقدان. وأنا ما زلت لا أفهم، كيف أن جسده الذي لم يكن الأجمل.. أصبح الأشهى إلى حدّ إرباك سكينتي، ومنعي لأيام من الكتابة.

مر شهران..
كنت خلالهما أكتفي بوجبات الأحلام، ورشفات حبر سريعة، وأترك للآخرين ولائم الضجر.. وقهوة النميمة.
فمنذ الأزل، كانت عقدة النار، كيف التوحّد مع الماء. وأنا لم أتقن يوماً، فنّ هدر الوقت والجلوس إلى النساء. كنت سيدة الحزن، وكنّ خادمات لدى الفرح.
وأذكر الآن، تلك المقولة الجميلة "إن عظمة النار في كونها تحرق..وتحترق".وأفهم لماذا، كنت منذ الأزل، لا أجالس غير الرجال.
فمع النساء لم أكن أحرق سوى أعصابي..!
وبرغم ذلك، قبلت يومها، حضور دعوة لدى إحدى القريبات، احتفالا بنجاح ابنتها في امتحان ما.
كنا في نهاية حزيران. وكانت النساء من حولي يتبادلن أحاديث حول قهوة.. وأصناف من الحلوى. وكنت أهرب من ثرثرتهن، وأسترق النظر أحيانا إلى جهاز التلفزيون الذي كان مفتوحا.. لمزيد من الضجيج.
رحت أتابع بين حين وآخر، خطاب بوضياف الذي كان التلفزيون ينقله مباشرة، من دار الثقافة في عنابة. ولكن،لم يكن يصلني منه الكثير فاكتفيت بتأمّله، لأوّل مرة، دون أن أدري أنني أتأمل ذلك الرجل في حضوره الأخير.
حتى دون صوت، كان بوضياف يخترقك بعينين حزينتين، لهما ذلك الحزن الغامض، الذي يجبرك على أن تثق بما يقوله.
عينان تعرفان تدرّب الوطن على الغدر منذ الأزل. عينان تغفران وتنسيان، مذ داهمهما حزن المنافي، وإحساس عميق بخيانة الرفاق.
فلم يعد يغادرهما حزنهما ولا عادتا تقويان على الضحك.
وكان بو ضياف في وقفته الأخيرة تلك موليا ظهره إلى ستار القدر.. أو "ستار الغدر".
يبدو واثقاً وساذجاً وشجاعاً، وبريئًا.
فكيف لا يحصل له..كل الذي حصل؟
لا أدري عن أي شيء كان يتحدث لحظتها. أذكر أن آخر كلمة قالها كانت "الإسلام..".
وقبل أن ينهي جملته، كان أحدهم، من المسؤولين عن أمنه، يخرج إلى المنصة من وراء الستار الموجود على بعد خطوة من ظهره، ويلقي قنبلة تمويهية.. جعل دويّها الحضور ينبطحون جميعهم أرضًا .
ثم راح يفرغ سلاحه في جسد بوضياف، هكذا مباشرة أمام أعين المشاهدين، ويغادر المنصة من الستار نفسه.
كنا في التاسع والعشرين من حزيران.
كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة وسبع وعشرين دقيقة.
وكانت الجزائر.. تتفرج مباشرة على اغتيال أحلامها.
كان الجميع ينتظر سيارة الإسعاف التي لم تأت.
وكان علم الجزائر الموجود على المنبر، قد أصبح مصادفة غطاء لرجل ينام أرضاً. جاء ليرفع رؤوسنا.. فجعلنا أحلامه تنحني في بركة دم.
ذلك كان قدر بوضياف مع حزيران الوطن.
منذ أربعين سنة، في الشهر نفسه، اقتاده رفاقه إلى سجون الصحراء.
ثم جاء به الوطن, كي يحكمه 166 يوما. وها هو يكافئه ذات حزيران.. بكفن!

وابل من الرصاص، مقابل خمسة أشهر من الحكم.
لم يمهلوه سبعة أيام فقط. كل ما كان يلزمه كي يصل به العمر حتى 5 يوليو عيد الاستقلال الذي كان يريد أن يهدي فيه إلى الجزائر، خطابه المنتظر.
فجأة، توقف بنا القدر، كما تتوقف عجلات سيارة في الوحل، وهي في طريقها إلى مشوار جميل.
فقد كان كل شيء جاهزا كي لا يخلف بوضياف هذه المرة موعده مع الموت، بما في ذلك سيارة الإسعاف التي أضاعت طريقها إلى المستشفى وهي تنقله.. فكان آخر من يصل من المصابين.
يوم موت بومدين، قال بوضياف "لقد كنت دائما على خلاف مع بومدين في كثير من القضايا. ولكن عندما شاهدت جنازته شعرت بأنني ظلمته. فلا يمكن لرجل يشيعه شعبه بهذا القدر من الفجيعة.. أن يكون قد أخطأ في حق الوطن".
أولئك الذين كانوا يطلقون الزغاريد من الشرفات عند سماع الخبر ويعلنون دون خجل أمام التلفزيون شماتتهم بموته، ويتسابقون إلى المساجد متصدقين بولائم "الكسكسى" احتفالا بدمه المسفوك.
والأربعون حرامياً، الذين كانوا يسعدون سرا.. أمام جثمانه، ويفركون أيديهم فرحا بغنائم، يمكنهم مواصلة التناوب على السطو عليها لسنوات أخرى، أولئك الذين ظنوا أن جثمانه قد يمر سهوا في غفلة من الوطن، أن موته قد يكون حادثا لا حدثا في تاريخ الجزائر.
تراهم توقعوا له.. جنازة كتلك؟

انهيار صاعق للأشياء.
وطن يغمى عليه، يدخل حالة من الهستيريا، يبكي رجاله كالأطفال في الشوارع. يهتفون "إنا هنا". تخرج نساؤه ملتحفات بالأعلام الوطنية، حاملات مع موتاهنّ صورة رجل، لم يحكم كي تغطي صوره الشوارع... إنما كي تغطي صورة الجزائر صور القتلى الذين يملئون صفحات الجرائد.
رجل لم يمش يوما باطمئنان على تراب الوطن، تحمله القلوب، أمواجا بشرية نحو التراب.
رجل يمضي.. ويتركنا من جديد ليتمنا. نردّد خلفه.. امضِ "إنّا هنا". فيواصل التاريخ بعدنا:
"نم.. ولا تهتم أبو ناصر.. إنهم هنا"

لم أغادر يومها البيت كي أشارك في تشييعه. كان حزني أكبر من أن أتقاسمه مع أحد .
ولكن في مكان ما من أعماقي، كنت سعيدة من أجله.
هذا الوطن الذي لم يهدِ إليه حياةً على قياس أحلامه، أهدى إليه جنازة على قياس حياته.
جنازة لرجل عبر الحكم مشيا على الأقدام.. 166 يوما لا غير. ولكنها جنازة ليس في متناول أولئك الذين حكموا أوطانا ربع قرن بجيش من المخبرين، متسلطين على شعوب طحنها الذل الأزلي.
هؤلاء الواثقون من ولاء الدبابات لهم، عليهم أن يجربوا الموت مرة ليختبروا رصيدهم في جنازة.. فيذهلو
* * *

أسبوعًا بعد آخر، موتًا بعد آخر، كنت أعي أنني أعيش عمراً قيد الإعداد. تصنعه تارة أحداث كيرى، وتارة أحداث هامشيّة أخرى.
في كل لحظة، لأيّ سببٍ كان، يمكن لقدري أن يأخذ مجرى آخر.
فأنا امرأة تعيش بين رجال ثلاثة، حياتهم معلقة برصاصة القدر.
ويتصرف بأعمارهم وأقدارهم أولئك الذين يهندسون الموت والرعب كل يوم في هذا الوطن.. ولا أدري متى سيسقط أحدهم قتيلا بتهمة، أو يسقط الآخر بنقيضها.
ولذا أصبحت مسكونة دائما بهاجس الصدمة، مهووسة بهذا الموت المباغت الذي أراه يحوم حول كل من يحيطون بي.
بين أخي الأصولي الذي تطارده السلطة، وزوجي العسكري الذي يتربص به الأصوليون، وذلك الصحفي الذي أحب، والذي يصفي الاثنان حساباتهما وخلافاتهما بدمه، كيف يمكنني أن أعيش خارج دائرة الذعر؟
منذ سقط بوضياف قتيلا مباشرة على شاشة التلفزيون أمام ملايين الناس، كان واضحا أن موسم الصيد قد فتح، وأصبح السؤال بعد كل موت.. من سيكون دوره الآن؟
كنت أحاول أن أستعين على الخوف بالكتابة، وغالبا بالحب، أستعيد كل ما قاله لي ذلك الرجل وهو يهيئني لزمن كهذا.
ولكنه هو نفسه لم يعد هنا ليؤكد لي ذلك. منذ اغتيال محمد بو ضياف وأنا أحاول الاتصال به دون جدوى.
كان مجرد طلبه هاتفيا من قسنطينه أمرا فيه كثير من المجازفة، وهو ما جعلني أحاول الاتصال به كلما وجدتني عند إحدى القريبات، نظرا إلى كون هاتفي مراقبا.. بحكم أنه هاتف عسكري. وهاتف أمي كذلك بنية التجسس على أخبار ناصر وتنقلاته. وهاتف ذلك الرجل أيضا موضوع تحت التصنت.. لكونه صحافيًا وعضوا في المجلس الاستشاري. وهو الأمر الذي زاد من وحدتي وشعوري بأنني أعيش قدرا مضادا للحب. ليس الجانب البوليسي سوى أحد أوجهه المخفيّة والمخيفة.
ذات صباح استيقظت، وبي رغبة للتحرش بالذاكرة. كنت قد تعبت من جثة الوقت بيننا، بعد أربعة أشهر من الترقب. ولم أجد لي سوى مكان واحد قد يوصلني إليه، أو إلى عبد الحق.
وهكذا أخذت أكثر قراراتي جنونًا. لبست أكثر ثيابي احتشاما. وغادرت البيت دون زينة.. ودون السائق. ولا شي في حقيبة يدي سوى كتاب هنري ميشو "أعمدة الزاوية"، الذي أخذته معي كي أحتمي به من نظرات الفضول وأستعين به على انتظار قد يطول. وربما أيضا لأجعل ذلك الرجل يتعرف عليّ إذا ما حضر إلى المقهى، ورآني أطالع كتابه الشخصي. وهو ما سيوفر علي ارتباك مبادرته بالكلام.
مشيت خطوات على قدمي. كدت أتوقف لأشتري جريدة بعد أن أصبحت قراءة الجرائد إحدى عاداتي السيئة مثلي مثل كل الجزائريين الذين يهجمون كل صباح على الجرائد عن ضجر أو عن ذعر. وكأن شيئا ما حدث أو سيحدث.
ولكن هذه المرة عدلت عن الفكرة، تفاديا لما قد يلحقني من شبهات أخرى.. إن أنا رحت أطالعها في مقهى وظن البعض أنني صحفية.
سعدت وأنا أوفّق على بعد شارع من بيتي، بسائق أجرة. فطلبت منه بكثير من التودد إيصالي إلى مقهى الموعد. شعرت أن عليّ أن أثبت براءتي لكل من يصادفني.. بدءًا من السائق. فقد كنت أعي تماما أنني أقوم بعمل جنوني آخر.
في الواقع كنت أملك احتياطيا كافيا من الجنون يبدو أمامه رصيدي من العقل هزيلا، ورصيدي من الصبر معدوما. وكنت سعيدة أن تكون ثروتي لا تتعدى روايات أكتبها لنفسي لا تدر عليّ أي دخل.. ولكن يتدخل أبطالها في حياتي.. حد احتمال إيصالي إلى حتفي.
في ذلك الطابق العلوي للمقهى، جلست أمام أمكنة الحب الشاغرة. أترقب رجلاً.. تعوّدت أن أنتظره بصمتي. أعبر إلى الوقت من غيابه. أتأمل طاولة في الزاوية اليمنى، مستعيدة جمالية ألغام الرغبة، لحظة لقاء أول.
أكنت أنتظره حقا؟.. من الأرجح أنني كنت أنتظر صديقه بحجة أنه الرجل الذي سيزودني بأخباره.. أو سيوصلني إلى عبد الحق.
حتما.. كنت موجودة هناك من أجل عبد الحق. ولذا وضعت كتاب هنري ميشو على الطاولة.. عسى يلحظه إن هو حضر.
كان في الطابق السفليّ صخب يخفي حزن الناس، ويأتي حتى طاولتي ليدخل الرعب إلى قلبي. كيف لا عقل يحرسني من طيش رغبات صباح بارد، ولماذا بي افتتان برجال مجبولين بالعصيان.. وبأقدار يتعذر الإمساك بها؟
رحت أحاول تشخيص حالة حبّ، تسبقها دائمًا أعراض كتابة، وتليها دائما فجيعة ما.
ما الذي جاء بي هنا؟ وأي إحساس قادني هذا الصباح في هيئة لا تصلح للقاء، وأجلسني في مناطق منزوعة الرغبة، مقابلة لطاولة منزوعة الشهوات؟
إنها حتما حاستي الكتابية السادسة، تلك التي لا تخطئ.. والتي تعدني اليوم بمفاجأةٍ ما.
كانت الأصوات الرجالية التي تصلني بأعداد أكثر كلما تقدم الوقت، تزيد رعبي، ولا يقيني منها سوى وجود امرأة ورجل يتحدثان في زاوية قريبة مني. ولكن هما نفسهما لم يكونا على قدر من الطمأنينة، فقد كانا مرتبكين.. وعصبيين.
ذلك الرعب أصبح فجأة عدوى جماعية قابلة للانتقال من شخص إلى آخر، ومشهدا عاديا قابلا للتضخم يوما بعد آخر. وأنت تصغر أمامه حتى تصبح في حجم حشرة لا تدري في جوف أي فريق ستنتهي، وفي أية وجبة سيتم أكلك. وبأية تهمة سيكون قتلك. إنه المنطق العبثي والعشوائي للموت، في زمن الحروب غير المعلنة، تلك العبثية الموجعة التي اختصرها خليل حاوي في ذلك البيت الجميل:
"كل ما أعرفه أني أموت
مضغة تافهة في جوف حوت"

لم يكن في المقهى ما يمكن أن يثير فضولي.
فرحت أتأمل بين الحين والآخر، شابًا في مقتبل العمر بهيئة بسيطة، يجلس على بعد طاولة مني، يطالع جريدة.
بدا لي أصغر من أن يكون عبد الحق. وبرغم ذلك رحت أسترق النظر إليه عن ضجر. رافعة أحيانا كتاب هنري ميشو تمويها، أو إشعارا لغريب قد يحضر. ثمّ فجأة، هممت بمغادرة المكان عن يأس، أو بالأحرى عن خوف، وأفكار بوليسية تباغتني، خاصة وأنا أتنبه لوجودي في مقهى يرتاده الصحافيون.
ماذا لو كان هذا الشاب الجالس على بعد خطوة مني يخفي مسدسا، ويختفي خلف جريدة تربصا بأحد ما؟ فمعظم الاغتيالات ارتكبها شبان في العشرين يرتادون المقاهي، أو يقفون متكئين على جدار وهم يطالعون جريدة.. في انتظار ضحيتهم.
كنت أجمع أشيائي مذعورة، وأترك ثمن قهوتي على الطاولة قبل مغادرة المكان، عندما رأيته يفتح الجريدة على صفحة داخلية ويغرق في قراءة شيء ما.
وإذ بي ألمح في الصفحة الأولى من تلك الجريدة التي كان يرفعها، صورة كبيرة، أعرف تماما ملامح صاحبها، وفوقها كلمتان بالفرنسية مكتوبتان بخط أسود كبير..
كلمتان جعلتاني أتسمّر في مكاني ذهولاً.

كنت أتوقع من الموت كلّ شيء.
تقريبا كل شيء، من نوع تلك المفاجآت الدنيئة، التي وحده يتقنها.
ولكن هذا الصباح، كانت الجريدة التي لم أشترها. تنقل لي الموت الوحيد الذي لم أتوقعه.
فالبارحة فتح ذلك الحوت فكيه، وابتلع لوجبته المسائية من جملة من ابتلع - عبد الحق!
أي قناص سادي هو القدر؟ يتخذ له زاوية منسية في حياتنا، ثم يأخذ في إطلاق النار كيفما اتفق على من أحببنا، دون شعور بالألم.
قطعًا، لم أتوقع أن تكون لي مع عبد الحق، مفاجأتان، الأولى موته، والثانية صورته. وكأنه كان لا بد أن يموت ليصبح أخيرا رجلا حقيقيا باسم كامل، ووجه، وملامح، وقصة حياة.. وقصة موت.
بالنسبة إلي كانت القصة تبدأ من صورته. فأنا لم أنس هذه الملامح التي قضيت وقتا طويلا ذات يوم في تأملها، بإعجاب سري في هذا المكان نفسه.
أكنت قد جئت إذن هنا، لأن الحياة كانت تهيئني هذا الصباح لمفاجآت قدرية ظالمة.. في هذا المكان الذي رأيته فيه لأول مرة؟
أجئت أشهد غيابه، وأتأمل طاولته الشاغرة دونه، لأكمل بحضوري دورة الفراق.. في قصة لم يكن فيها سوى لقاء.. وكثير من صمت الغياب.

أثناء تفكيري، جاء أحدهم وطلب من ذلك الشاب الحضور معه.. لأنهم يحتاجونه في المطبعة.
كان المسكين صحافيا إذن.. أو موظفا في جريدة. كدت احتضنه وأجهش بالبكاء، لو كنّا بمفردنا. ولكنني لم أجد في صوتي شجاعة سوى لطلب تلك الجريدة منه.. فناولني إياها.. ومضى.
لم تكن قدماي قادرتين على حملي. فعدت وجلست مكاني.
هذه المرة.. لم أكن أجالس وهما.. وإنما ألماً.
مهملا كان الحزن في ركن من هذا المقهى.. حيث طاولة مغلقة على سرها كبيانو تنتظر رجلا تعود أن تأتيها ليكتب. وهي الآن صامتة دونه. وحدها تشاركني الحداد عليه. وتسأل.. لماذا اختارها هي دون غيرها؟

أفتح الجريدة على صورته. فتؤلمني الكلمتان على بساطتها “adieu abdelhak”.
أيكفي أن تضيف كلمة "وداعا" إلى أي اسم.. ليثير فيك كل هذا الألم؟

إنه عبد الحق إذن..
الرجل الذي كان يجلس بقميص وبنطلون أبيض على هذه الطاولة إياها.. في ذلك اليوم الذي..
أذكر.. كان لا يتوقف عن الكتابة والتدخين. وطوال جلوسه وحيدا لنصف ساعة تقريبا، لم يبادلني سوى الصمت، ولحظات من الشرود.
ثم جاء صديقه، في زيّ أسود. سلم علي من بعيد، وكأنه يعرفني. تحدثا طويلاً. كنت أتساءل طوال الوقت، أيّهما ذلك الرجل الذي..
ثمّ فجأة، نهض اللون الأسود. ناولني صحنا من السكر، كنت سأطلبه من النادل.
أذكر، فاجأني عطره. أعادني إلى ذلك العطر الذي..
فرحت أختبره بكلمات اعتذار. وإذ به يجيبني بتلك الكلمات الصغيرة التي..
ولحظتها.. أفلتت حواسي مني. وأخذته مأخذ وهمي به.
لم أكن أدري أن الحب كان يسخر مني، مسربا كلمة السر نفسها لأكثر من رجل.
الآن أعي أنني يومها أخلفت، بفرق كلمة ولون، قطار الحب الذي كنت سآخذه.
فلحقت في لحظة من فوضى الحواس، بذلك اللون الأسود، وأخطأت وجهتي.
هو قال: "أجمل حبّ، هو الذي نعثر عليه أثناء بحثنا عن شيء آخر".
وكيف لي أن أعرف الآن، إذا كان ما عشته معه هو أجمل حقًا مما كان مفترضا أن أعيشه، لو أنني لحقت باللّون الآخر.
ولكن، أكان ثمة حقا.. لون آخر؟
لقد أصابني الحب يومها بعمى الألوان. وأربك فيّ أيضا حاسة النظر.
وأذكر أنني سألت اللون الأسود في أول لقاء لنا:
-قبلك لم أر رجلاً يلبس الأسود في هذه المدينة. حتى لو كان ذلك حدادًا.
فأجاب:
-وأيّ لون توقعت أن أرتدي؟
قلت:
-لا أدري.. ولكن الناس هنا، يرتدون ثيابا لا لون لها.
ثم واصلت بعد شيء من التفكير:
-صديقك أيضا يبدو غريبا عن هذه المدينة..
رد ضاحكا:
-لماذا..؟ ألأنه يرتدي الأبيض باستفزازية الفرح.. في مدينة تلبس التقوى بياضا؟
ثم واصل ساخرا :
-صديقي.. فرحه إشاعة. إنه باذخ الحزن لا أكثر، والأبيض عنده، لون مطابق للأسود تماما.
لقد كنت في النهاية، أمام رجلين يرتديان، بطريقة مختلفة، اللون نفسه.
ويبدو واضحا الآن، أنه لم يحدث للحبّ أن سخر إلى هذا الحد، من امرأة كانت واثقة من نفسها إلى ذلك الحد.
قطعًا..
الحبّ ليس سوى حالة ارتياب.
فكيف لك أن تكون على يقين من إحساس مبني أصلا على فوضى الحواس، وعلى حالة متبادلة من سوء الفهم، يتوقع فيها كلّ واحد أنه يعرف عن الآخر ما يكفي ليحبّه.

في الواقع، هو لا يعرف عنه أكثر مما أراد له الحبّ أن يعرف. ولا يرى منه أكثر مما حدث له أن أحب، في حب سابق.
ولذا نكتشف في نهاية كلّ حبّ، أننّا في البدء.. كنّا نحبّ شخصًا آخر!

من بين كلّ الميتات، جاء اغتيال عبد الحقّ، الأكثر صدمة لي.
هل أكثر ألماً من أن تدخل حياة أحد، وهو على وشك أن يغادر الحياة؟
هذا الرجل الذي لا أعرفه، وأعرف كلّ شيء عنه، ماذا يمكن للجرائد أن تضيف إلى معرفتي به سوى تفاصيل موته، التي لا أريد أن أعرفها، والتي نشرتها كلّ الصحافة الوطنية في صفحاتها الأولى، بصورة كبيرة له، وتحتها الكلمات نفسها، بلغة أو بأخرى "وداعًا.. عبد الحقّ"
تعوّد الصحافيون هنا إنزال صور موتاهم، بالأحجام نفسها، ورثاء أنفسهم مسبقًا مع سقوط كلّ صحافيّ جديد.
وعبد الحقّ نفسه لم يخالف القاعدة. ولذا لم يجدوا في الجريدة التي كان يكتب فيها، أجمل من أن ينشروا في الصفحة الأولى جوار صورته الكبيرة، تلك القصيدة نفسها التي كتبها غداة اغتيال صديقه الصحافي والشاعر الطاهر جعوط، وكأنه كان يرثي نفسه بها.
إذ كلّ التفاصيل التي تميّز موت عبد الحقّ عن موت صديقه، تبدو مجرد تفاصيل.
ولم يعد مهمًا أن يكون الطاهر جعوط، قد اغتيل داخل سيّارته حاملاً أوراق مقاله الأخير، إلى الجريدة، عندما باغته قاتلوه من الخلف وأطلقوا رصاصتين على رأسه، بينما اختطف عبد الحق من أمام مسكن والدته في سيدي المبروك، وكان قد حضر سرًا ليودعها قبل سفرها إلى "العمرة" أوّل أمس. وعثروا على جثته البارحة، مقتولاً برصاصة في الصدر.. وأخرى في جبينه.
أي أنّه شاهد قاتليه وهم يطلقون النار عليه، دون أن يتمكن من الدفاع عن نفسه، لأنه قتل وهو مغلول اليدين: ربطت يده اليمنى بحزام بنطلونه، واليد الثانية بسلك حديديّ، متصل بالحزام أيضًا. ووجد منكبًا على وجهه على حافة الطريق.
ربّما يكون قد استعاد لحظتها، تلك الكلمات الأخيرة التي لفظها شي غيفارا وهو يرى جلاّده قد صوّب رصاصه نحوه، غير مصدّق أن يكون ذلك الرمز قد أصبح في متناول مسدسه، وهو ما جعل "غيفارا" يصيح به "أطلق النار أيها الجبان.. إنك تقتل إنسانًا!".
وهي المقولة التي وضعها عبد الحقّ منذ شهرين عنوانًا لزاويته اليوميّة، عند رثائه لصديقه الصحافيّ "سعيد مقبل" الذي لم يتردد قاتله في إطلاق ا لنار عليه وجهًا لوجه وهو يتناول غداءه..
في النهاية، قضى عبد الحقّ الأشهر الأخيرة، في ابتكار ستّ وثلاثين طريقة، لرثاء نفسه. وهي عدد أصدقائه ورفاقه في مهنة المتاعب المصائب.. والموت، الذين سبقوه إلى تلك النهاية. ولذا لم يعد ممكنًا للموت أن يباغته على الأقلّ في هذا المجال. فأيّةً كانت الطريقة التي سيأتيه بها، فقد استبقه ووصفها. وأيّةً كانت الجهة التي سيأتي منها القتلة فقد استبقهم.. وشتمهم.. وتحدّاهم بما يكفي ليعجّل موته، حاملاً الرقم "37" في قائمة الاغتيالات التي لا أحد يعلم أين تنتهي.
عدت إلى البيت محملة بأكثر من جريدة باللغتين.
ها هوذا عبد الحقّ إذن..! أصبح بإمكاني الآن أن أطالع الجرائد.. وأعرف من هو.
"هذا السارق الذي يتسلل في الليل بمحاذاة الجدران عائدًا إلى بيته، إنه هو.
هذا الرجل الذي أمنيته أن لا يموت مذبوحًا. إنه هو. هذه الجثة التي يخيطون عليها رأسًا مقطوعًا. إنه هو.
هذا الذي لا يعرف ما يفعل بيديه.. سوى كتاباته الصغيرة.
هو الذي يتمسك بالأمل، ضد كلّ شيء؛ ألا تنبت الورود فوق أكوام القاذورات؟
هو الذي كلّ هذا.. وليس سوى صحافيّ".

كنت أحاول أن أكتشف حياته الأخرى باندهاش متأخر، كمن أحبت رجلا بالمراسلة، فعرفت كلّ شيء عنه، ولم تمنحها الحياة فرصة التعرف إليه عن قرب. وها هي تطالع الآن الجريدة كآلاف القرّاء المجهولين الذين يكتشفون هذا الصباح موت رجل لم يلتقوا به. أمّا هو فلن يعرفها أبدًا.
تلك المرأة التي كان لها في حياته دائمًا، ذلك الحضور السريّ النكرة، كيف له أن يدري ماذا فعل بها موته؟ هي التي عاشت في بيته، ونامت في سريره مع صديقه، وتحدّثت مع رجل غيره على هاتفه، وطالعت دون علمه، كتابًا كان يحمل هواجسه، واستعملت عطرًا كان له، وتقاسمت معه في عتمة قاعة سينما، اشتعالاً مباغتًا للرغبة، ولحظة بكاء، وتبادلت معه على بعد طاولة في مقهى، ذبذبات حديث لا يقال إلا صمتًا!
كلّ هذا، دون أن يتوقع وجودها في عالمه الحميميّ، على الطرف الآخر من حياته.
أنحتاج إلى موتنا كي نحبّ.. ونعرف أنّ ثمة من أحبونا؟!

في ذلك المساء، حاولت أن لا أطيل النظر إلى صورته. كي لا أكتشف على شفتيه، آثار أخر امرأة قبّلها، فأحزن لها، أو تلك التي كان يمكن أن يقبّلها لو لم يمت، فأحزن له.
تحاشيت عينيه اللّتين تنظران الآن إلى مكان واحد يراه، وشاربيه اللّذين كأحلامه، يرفضان أن يتواضعا حتّى بعد موته.
وبرغم ذلك، وجدتني، بحركة تلقائية، أقتطع تلك الصورة، وأخفيها بين أوراقي.
في البدء، كنت أردت أن أقتطع تلك القصيدة، وأحتفظ بها في الدفتر الأسود نفسه، الذي يعرف الكثير عن ذلك الرجل، عندما فاجأني إحساس قديم ومربك. فقد أعادتني تلك الحركة إلى طفولتي البعيدة، إلى ذلك اليوم الذي اقتطعت فيه صورة أبي من الجريدة، يوم تصدّرت منذ ثلاثين سنة الصفحات الأولى للجرائد، بهذا الحجم نفسه، ولكن في حرب كان الغرباء فيها هم القتلة، وكان للموت فيها تسمية أجمل من الجريمة.
أجل "كل حرب تغير لبعض الوقت تعريف الموت، وبهذا تفصل بشرخ سري بين الأجيال".
هيَذي تلك الصورة، في اصفرارها، معلقة أمامي مذ عثرت عليها، منذ بضعة أشهر، كما توقّفت عندها نظرة أبي إلى الأبد، يفصلني عنها.. زجاج الوقت.
ويفصلها عن الوقت، تسمية جديدة للموت.
وجوارها صورة عبد الناصر ذاتها، تلك التي رافقت وجودها في بيتنا دائمًا، صورة أبي، ولكن بحجم أكبر دائمًا. وكأنها تلخص في انكسار عنفوانها موتًا أكبر من كلّ الميتات.. الموت قهرًا.
لقد كانتا حتى الآن، تختصران في حضورهما الصامت، صور كلّ الشهداء، وكلّ القضايا، التي آمنت بها منذ طفولتي الأولى، دون أن أسأل نفسي لماذا.
تمامًا، كتلك المعتقدات التي نتربّى عليها، ولا نجرؤ على التشكيك فيها.
ولا يعنيني أن لم تعد الناصرية إلا في خانة المشاعر، أو في أسماء جيل حمل، لمصادفةٍ تاريخيةٍ، اسم آخر محارب عربي.. بروح شاعر.
هل أجمل من أن يكون أبي قد أعطى لابنه الوحيد اسم "ناصر"، قبل أن يستشهد، وأن يكون اسم الابن البكر لمحمد بوضياف، أيضًا "ناصر".. وأن يكون في مكتبة هذا الرجل كتب عن عبد الناصر، وأن يترك لنا كلّ الذين يرحلون في فجيعة وطنيّة.. شيئًا من وهم القوميّة؟
كانت تراودني كلّ هذه الأفكار، بينما كانت يدي تفكّ إطار صورة. وتضع خلفها بطريقة مستترة، صورة أخرى، بعد أن وجدت أنّه الطريقة الفضلى للاحتفاظ بها حاضرة وغائبة في الوقت نفسه، كما كان صاحبها، وتفاديًا أيضًا لما قد يثيره وجودها في مكتبي من أسئلة.
كنت أستعين بأبي، لأخفي خلفه رجلاً أحببته. فقد كنت أدري أنه وحده هو سيتفهم هذا. فطالما جاءني الرّجال متنكرين فيه.
كنت أخبئ موتًا.. بآخر. وأغطي وطنًا بآخر. وأخفي تهمة حبّ خلف حبّ آخر.
وبإمكاني الآن أن أقول، وأنا أرى صورة أبي على مقربة مني، إنّ رجلا قد يخفي رجلاً ثانيًا.. وربما أيضًا رجلاً ثالثًا.. وإني وحدي أعرف ذلك!

في اليوم التالي، استيقظت باكرًا على غير عادتي. والأرجح أنّني لم أنم.
كنت أبحث عن طريقة أعيش بها ذلك اليوم، بما يناسبه من جماليّة الألم.
حاولت أن أكتب، فلم أستطع.
كان ذلك الرجل الذي اختفى منذ شهرين، قد فرش لي حقولاً من الألغام في كلّ الطرق المؤدية بي إلى الكتابة، ونجح في إقناعي بأنّ البياض هو الحدّ الأقصى لأية مساحة روائية، وأنه الإنجاز الوحيد في أي كتاب، وأن كل رواية لا بد أن تنتهي باحتمالات البياض.
فماذا أفعل إذن؟ وكيف أواجه هذا "الخراب الجميل" دون قلم؟ وأذكر أنه قال، يوم موت صديقه:
"في زمن النهايات المباغتة، والموت الاستعجاليّ والحروب البشعة الصغيرة التي لا اسم لها، والتي قد تموت فيها دون أن تكون معنيًا بمعاركها، الجنس هو كلّ ما نملك لننسى أنفسنا".
سألته يومها:
-والكتابة؟
ضحك وأجاب:
-الكتابة؟ إنها وهمنا الكبير بأن الآخرين لن ينسونا!
فماذا أفعل اليوم بحزني؟
هل أمارس الحبّ إذن؟ ومع من؟ وكيف لي أن آتي المتعة بذريعة موت رجل تمنّيت أن أكون له يومًا.. ولم أكن؟
تلك الرجولة التي جَلَسَتْ باستفزاز صامت بمحاذاة أنوثتي، تلك التي أردتها ولو لمرة واحدة.. استكثرتها عليّ الحياة، وقدمتها وليمة للديدان.
وذلك الجسد الذي اشتهت شفتاي أن تغطياه قُبَلاً، بعد حين سيغطيه التراب. ولم يعد بإمكاني أن أشعله ولو وهمًا.. لقد دخل عالم الصقيع.
و.."القبر بارد يا أمي.. أرسلي لي قميصًا من الصوف".

كنت أفضّل لو أن لقائي مع هذا الرجل، كان في يوم آخر، على انفراد، بعيدًا عن البكاء والدعاء والصلوات. لو كان فيه شيء من الحميميّة، والشاعريّة، برغم ما بيني وبينه الآن، من مسافة ترابيّة.
ولكن.. لابدّ أن أكون هناك، كي أواصل كامرأة نكرة، حضوري السريّ، في آخر مشهد من قصة حبّ جئت أشيع فيها عن بعدٍ رجلاً أعرفه ولا يعرفني، وأبحث عن آخر يعرفني.. وما زلت لا أعرفه.
ولذا وصلت تلك المقبرة، بتوقيت يكون معه الآخرون قد انتهوا من مراسيم الدفن، دون أن يكونوا قد غادروا المقبرة تمامًا، عساني أعثر بينهم على ذلك الرجل.

قطعًا..جنازته لم تكن سبب حضوري.
فأنا سأشاهدها في نشرة الأخبار المسائية، مفصّلة، مطوّلة، ومؤثّرة دائمًا.. كما جرت العادة.
فثمّة من لم يعنهم يومًا اغتيال الآخرين إلا بقدر ما يمكنهم في مناسبة كهذه، التذكير بوحشية الطرف الآخر.. وساديته.
وبين لعبة الطرفين، كانت الأقلام تسقط رأسًا بعد آخر، ضحية الموت الإشهاري.
ألأنني توهمت دائمًا أن الحالة الإبداعية تجعل الموت مختلفًا، ذهبت إلى ذلك المأتم كما نذهب إلى موعد عاطفيّ؟
وكما كليوباترا –التي وضعت كلّ زينتها، وتعطرت، وارتدت استعدادا لموتها، ذلك الثوب الذي رآها فيه أنطونيو لأول مرة، كي يتعرف عليها هناك.. حيث سيلتقيان بين ملايين البشر- مثلها، تجملت، وضعت عطر ذلك الرجل نفسه، الذي بدأت به هذه القصة، وارتديت ذلك الفستان الأسود نفسه ذا الأزرار الذهبية الكبيرة، التي تمتد على طوله من الأمام، والذي تعودت أن أترك زرّه الأخير مفتوحًا، وأضع معه زنّارا أسود يشدّ الخصر ويرسم استدارات الأنوثة، وهو ما كان يمنحني هيأة "ممثلة إيطالية" حسب وصف ذلك الرجل الذي كان يحبّ هذا الفستان بالذات.. ويقول كلما رآني به:"الأسود يليق بك".
فأجيبه بنبرة غائبة:
-جميل قولك هذا.. إنه يصلح عنونًا لرواية قادمة!
قطعًا، لم أكن أرتدي الأسود حدادًا. كنت باذخة الحزن لا أكثر، باذخة الإغراء، مفرطة التحدي.
لم أذهب إليه متنكرة في عباءة العفة: حماقة أن نواجه الموت في مثل هذا الثوب.
فقد اخترت هيأتي بنية إغراء رجلين، رأيتهما معًا لأول مرة في ذلك المقهى، وأنا أرتدي هذا الفستان نفسه.
أحدهما لو حضر ليشيع الثاني، للمحني حتمًا حيثما كان، ولتعرف إليّ في هذا الفستان، فأراه أخيرًا.
أمّا الثاني..
فلا يهمني أن أراه، بقدر ما يهمني أن يراني. وكأنثى لا أريد أن أبدو أمامه أقلّ تألقًا ممّا يجب أن أكون في موعد أوّل.
يسعدني حقًا أن ألفت نظره، وأشغله عن موته بمفاجأة حضوري. أتوقع أن يلمحني. فوحدي أحمل في يدي دفترًا، في مكان تأتيه النساء عادة محملات بالأرغفة، والتمر للصدقة.
وحدي أيضًا فكرت في أن أحضر له علبة سجائر لليلته الأولى. بعد ذلك، سيكون عليه أن يتوقف عن التدخين، لا لأن التدخين يضرّ بالصحة، وإنما لأنه لن يكون بإمكاني أن أزوده بالسجائر دائمًا.
عندما توقفت في طريقي لأشتري هذه العلبة منذ قليل، نظر إليّ البائع شزرًا، حتّى توقعت أن يطردني من محله.
امرأة تجرؤ على اشتراء سجائر في قسنطينة، لابدّ أنها على قدر من سوء الأخلاق.. أو على قدر من الجنون.
وبرغم كوني لم أدخن سيجارة في حياتي، وجدت من الحماقة أن أتبرأ من تلك التهمة، وأشرح له أن علبة السجائر ليست لي.. وإنما لرجل سيدفن بعد قليل.. وسيحتاجها إذا أراد أن يكتب شيئًا هذا المساء. فأنا أتوقع أن لا يستطيع اليوم بالذات.. أن يمتنع عن الكتابة.

في الواقع، أحببت دائمًا الكتّاب الذين تكمن عظمتهم، في كونهم يقولون لنا الأشياء الأكثر ألمًا وجدية.. باستخفاف يذهلنا.
تمنيت دائمًا أن أشبههم، أولئك الرائعين، الذين يأخذون كلّ شيء مأخذ عكسه، فيتصرفون هم وأبطالهم بطريقة تصدم منطقنا في التعامل مع الموت والحبّ.. والخيانة.. والنجاح.. والفشل.. والفجائع..والمكاسب..والخسارة. ولذا أحببت زوربا، الذي راح يرقص، عندما كان عليه أن يبكي.
وأحببت ذلك البطل في رواية "الغريب" لألبير كامو، الذي حكم عليه القاضي بالإعدام، لأنه لم يستطع أن يبرر عدم بكائه، عند دفن أمه. بل إنه يوم مأتمها، ذهب ليشاهد فيلمًا.. ويمارس الحبّ رفقة صديقة جديدة.
وربّما كنت، منذ البدء، أبحث عن مناسبة كهذه، تمنحني فيها الحياة فرصة الذهاب بجنوني عكس المنطق، وتهدي إليّ إمكانية فريدة لأن أجرب في الحياة بعض المشاهد التي تمنيت بجنون الكتابة أن أعيشها.. لمتعة كتابتها بعد ذلك.
لسبب أجهله، ليس الحزن هو الذي كان يسكنني يومها، وإنّما شعور عارم بالتحدي، لم تكن زينتي وأناقتي سوى بعض مظاهره الخارجية.
لا أظن أنني ذهبت كذلك لأتحدى الموت. الموت قدر من الله نتساوى أمامه جميعًا. ولا أظن أيضًا.. أنني كنت امرأة بطلة؛ فقط.. كنت أتحدى القتلة، شاهرة التهمتين اللتين جمعتهما: تهمة الأنوثة وتهمة الكتابة، تلك التي كانت تحديًا صامتًا في يدي، ودفترا مغلفا على قصة، الكتابة فيها هي البطل الرئيسي.
في الواقع، في مواجهة الموت، الأنوثة كما الكتابة، ليست عزاءً على الإطلاق. لأنهما تذكير دائم به. ولكن في مواجهة الجريمة.. ماذا يملك الكاتب عدا كلماته.. وتلك الحياة التي مذ بدأ الكتابة.. لم تعد في جميع الحالات حياته؟
تمنّيت أن أقول كلّ هذا صمتًا، لذلك الرجل لو أنه جاء. أو ربما، تمنيت أن يأتي.. كي نواصل كتابة هذه القصة هنا..
هو الذي أراد في آخر موعد لنا.. أن نتساوى بالعشّاق المفلسين. ورفض أن نلتقي في شقة عبد الحقّ. بإمكاننا الآن أن نلتقي في جنازته، ونتساوى حقًا.. بعشّاق هذه المدينة الذين ضاقت بهم الحياة يومًا بعد آخر، فأصبحوا يلتقون في المقابر، متنكرين في زيّ الحزن، جالسين على أي قبر يصادفونه، ليتبادلوا ما شاؤوا من حديث الوجد. فوحد الحبّ يملك هذه القدرة الخارقة، على جعل كلّ شيء جميلاً، حتّى لقاء عاشقين في مقبرة!

وبرغم هذا.. فحتّى موعد عاطفي على هذا القدر من الألم، لم يكن ينتظرني هناك، حيث وقفت بعيدًا بين القبور، على مسافة وسطيّة، بين الألم، وما يلزم من الجأش للتدقيق في وجوه عشرات الرجال، الذين وحدهم دون النساء، يملكون حقّ مرافقة الموتى، والذين رحت أبحث بينهم عن رجل لا يشبه أحدًا.. ولا يشبه شيئًا، ولا يمكن له أن يخلف موعدًا كهذا.
ثمّ انسحب الجميع، بعد أن أودعوا حملهم جوف التراب ورحلوا، لأجد نفسي في موقف عجيب، شبيه بمشهد سينمائي صامت لفيلم بالأسود والأبيض. وأنا في كلّ تألقي الأسود، أقف وحيدةً وسط ذلك الديكور الرخامي الشاسع البياض، وذلك الدفتر الأسود في يدي.
عسى ذلك الرجل، إن جاء.. أن يستدلّ به عليّ.
ولكنّه لم يأت.
وكلّما تقدم بي الانتظار، تحوّل إحساسي بالتحدي، إلى إحساس عارم بالحزن والخيبة. فأنا كنت أريد أن أتحدى به.. ومن أجله. أتراه تغيّب ليتحدّاني بغيابه؟ وكيف له أن يخلف موعدًا كهذا، وعبد الحقّ أقرب صديق إليه؟ تراه مسافرًا، ولم يعد بعد؟ أم تراه ما زال في هذه المدينة مسافرًا عن نفسه داخل الوطن.. وقد يعود ليزور هذا القبر على انفراد؟
أم.. تراه الآن يمارس الحبّ مع امرأة أخرى، ليشيّع فيها عبد الحقّ على طريقته؟
لا أدري كيف، قبرًا بعد آخر، كانت الأسئلة تتقدم بي نحو الرجل الآخر. حتى تلك الخطوة الأخيرة التي أوصلتني إليه.
كان جثة أحلام.. تنام تحت كومة من التراب الذي تغطيه باقات الورود.

الأغرب أنني لم أبكِ.
فقد كنت لحظتها أواصل الكتابة، وأبحث عن الكلمات المناسبة لأصف هذا الموعد العجيب. أستعيد في ذهني بعذ المقاطع والخواطر من كتاب هنري ميشو تلك التي وضعها هذا الرجل تحتها خطًا.. أو كتب جوارها تعليقاته.
وأستعيد تلك القصيدة التي كتبها في رثاء (الطاهر جعوط) والتي نشرت البارحة من جديد جوار صورته وخبر نعيه، والتي اقتطعتها، وخبأتها في هذا الدفتر الأسود..
فاجأتني رغبة في قراءتها من جديد. فأخرجتها ورحت أكتشف وقعها عليّ هنا.
أكنت أقرأها لنفسي أم له، بصوت خافت يسمعه لأول مرة، منذ ذلك اليوم الذي جلست فيه جواره في قاعة سينما، ولم نتبادل سوى كلمتين؟!
ها هو.. ما زال الصامت الأكبر، حتّى في دوره الأخير، وما زلت وحدي أواصل الحديث إليه.
"مذهول به التراب
خرج ذلك الصباح
كي يشتري ورقًا وجريدة
لن يدري أحد ماذا كان سيكتب
لحظة ذهب به الحبر إلى مثواه الأخير
كان في حوزته رؤوس أقلام
وفي رأسه رصاصة
ولذا.. لم يضعوا وردًا على قبره
وضعوا ما اشترى من أقلام
ولذا لم يكتبوا شيئًا على قبره
تركوا له كثيرًا من بياض الرخام
ولذا.. لن تعرفوا إليه
هناك، حيث كلّ القبور
لا شاهدة لها سوى قلم
وحيث كلّ مساء
تستيقظ أيدٍ لتواصل الكتابة"
أعتقد أن صوتي قد مات مع آخر بيت، وأنني عندما أغلقت الدفتر على تلك القصيدة، بدا وكأنني أصبحت جزءًا من مشهد سينمائي.
ألهذا لم أبك، وأنا أضع ذلك الدفتر على كومة التراب وأمضي؟
بل لم أحاول بعد ذلك أن ألتفت خلفي لأشاهد لآخر مرة ذلك المنظر الذي لن يتكرر بعد ذلك أبدًا، والذي بإمكاني بعد الآن أن أصف في روايات قادمة، وقعه على نفسي. لأنه حدث بالفعل.
منذ سنتين، وأنا أريد أن أختبر مرةً واحدةً، هذا الشعور الذي ينتابك عندما تضع مخطوطًا على قبر وتمضي، غير متحّسر على شيء.
وها أنا قد فعلت، دون أن أخطط للأمر تماما، ودون أن أتوقعه أصلاً. فهذا الدفتر أحضرته كي أعطيه للرجل الآخر. ولكن وقد غاب، لم أقاوم فكرةً جنونية راودتني.

أمام المواقف غير المتوقعة التي تضعنا فيها الحياة، أحبّ أن يتّبع المرء مزاجه السريّ، ويستسلم لأول فكرة تخطر بذهنه، دون مفاضلتها أو مقارنتها بأخرى. فالفكرة الأولى دائمًا على حقّ، مهما كانت شاذة وغريبة، لأنها وحدها تشبهنا.
وكانت تلك الفكرة، تشبه كاتبةً عرفتها.
تشبهها إلى درجة جعلتني أعتقد أنني أثأر لها من زمن بعيد، كانت تتسلى فيه بخلق أبطال من ورق، وقتلهم في كتب، مطابقة لمنطق الحياة في الحبّ والقتل دون سبب.
حتّى راحت الحياة بدورها، تلعب معها، لعبة تحويل كلّ ما تكتبه إلى حقيقة.
أكانت تتحرش بالحياة؟ وإذ بالحياة تعيد إصدار كتابها، في طبعة واقعية، وإذ بها القارئة الوحيدة لنسخة مزورة، تكفل القدر بنقلها طبق الأصل عن روايتها، بعد أن أدخل عليها بعض التغييرات الطفيفة في الأسماء، أو في تسلسل الأحداث، كما في كلّ السرقات الأدبية!
أغرب ما يمكن أن يحدث لكاتب، أن يكتشف أنه مع كلّ صفحة يكتبها، يكتب عمره الآتي. وأنه برغم ذلك لا يستطيع رفع دعوى على الحياة لأنها طابقت خياله، وقلّدت قصته تقليدًا فاضحًا.. فعادة يحدث العكس!
ذات يوم، كتبت تلك الكاتبة رواية، بنية استباق الألم، فقتلت أحبّ الناس إليها.
طبعًا، لم تكن تتوقع أنها تكتب قدرها. ومثل بطلها ستعود إلى الجزائر على عجل، على متن طائرة للحزن، بتوقيت حظر التجول، محملة بمخطوط تلك الرواية نفسها. وأمام ذلك الجمركي العصبي نفسه، الذي سينبش في حقيبتها بالإصرار نفسه، لن تجد شيئًا تصرّح به سوى مخطوطتها، وتلك الذاكرة التي جاءت لتدفنها.. وهي تدفن أباها.
أمام قبره لم تبكِ.
كانت مشغولة بالتساؤل: لماذا مات الآن؟ لماذا مات اليوم؟ لماذا بعد بوضياف بثلاثة أشهر؟
لماذا قبل صدور الكتاب بأسبوعين.. وقد انتظره عدة سنوات، كلّ تلك السنوات التي كان يزودها فيها بالمعلومات عن مدينة لم تزرها، اسمها قسنطينة، وبذاكرة أتعبه حملها بمفرده؟
أرحل كي يترك مكانا أكبر لذلك الكتاب، وكأن الحياة لا يمكن أن تسعهما معا؟
أو كأنه وهو الشاعر، رحل كي يصبح ذلك النصّ بموته أجمل؟
أم فقط، لأنهم في زمن الميتات الملفقة، والسيارات المفخخة، فخخوا أحلامه، وأطلقوا الرصاص على ذاكرته أمامه، فدخل عمر الذهول، لا عن شيخوخة، ولكن لأن الوطن كان يدخل سنّ اليأس، وهو لم يكن له من عمر يومًا، سوى عمر الوطن.
حتمًا.. كان عليه وهو رجل التاريخ أن لا يخطئ في اختيار تاريخ موته.
وهي تذكر صباح أوّل نوفمبر..
وذلك النشيد الوطني الذي كان يدوي في كلّ المستشفى العسكري، وهم يخرجون جثمانه. حتى بدا لها وكأنهم يعزفونه من أجله.. أو كأنه يستوقف حامليه ليسمعه للمرة الأخيرة:
قسمًا بالنازلات الماحقات والدماء الزاكيات الطاهرات
والبنود اللامعات الخافقات في الجبال الشامخات الشاهقات
نحن ثرنا فحياة أو ممات وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا.. فاشهدوا.. فاشهدوا
كانت سيارات الإسعاف العسكريّة تغطّي لحظتها على النشيد الوطني، وتشق الطريق بصفاراتها، لتلقي على الأسرة المتحركة جنودًا جزائريين سقطوا بسلاح جزائري. بعضهم جرحى، وبعضهم جاؤوا مشوهي الجثث لينتظروا أهلهم في براد.
ولذا نسيت يومها أن تبكي أباها، وراحت تبكي النظرات الفارغة لجنود لن يدركوا يومًا لماذا ماتوا.

عندما زارت قبره في اليوم التالي، حاولت أن تكون جميلة. تزينت كعادتها كي تتميز بمظهرها عن جميع النساء من حوله، وكي تمنحه –كعادته- زهو المفاخرة بها في مجلسه الأخير.
كانت ترفض وهي أحب مخلوق إليه، أن تتساوى بمن جئن ليبكينه يومًا.. ويذهبن.
ثمة حزن يصبح معه البكاء مبتذلاً، حتّى لكأنه إهانة لمن نبكيه.
فلم البكاء، مادام الذين يذهبون يأخذون دائمًا مساحة منا، دون أن يدركوا، هناك حيث هم، أننا، موتًا بعد آخر، نصبح أولى منهم بالرثاء، وأن رحيلهم كسر ساعتنا الجدارية، وأعاد عقارب ساعة الوطن.. عصورًا إلى الوراء؟
الأغرب يومها، أنها تركت الجميع متحلقين حول قبره، وذهبت امام دهشتهم، تبحث عن قبر آخر.
في تلك الباحة الشرفية للموت. حيث ينام كبار شهداء الجزائر.
تحت باقات الورود الرسمية، التي وضعت توًا على قبورهم بمناسبة اول نوفمبر، توقف أمام قبر بوضياف.
غير أن قبرًا صغيرًا، أثار فضولها بتواضعه، ووجوده على يمينه، ببساطةِ من يعتذر عن المساحة التي يشغلها هناك.
هوذا إذن.. سليمان عميرات، الرجل الذي لم تسمع باسمه قبل ذلك اليوم، الذي أفردت له الجرائد صفحاتها، لتنعاه في موته الغريب، الموجع.
لم تتوقع أن يكونوا أهدوا إليه قبرًا صغيرًا جوار بوضياف، وأنه منذ ذلك اليوم الذي سقط فيه ميتًا بسكتة قلبية، عند أقدام جثمانه، لم يفترقا.
انتهى به المشوار هنا.
من عامه السابع عشر إلى عامه السبعين، وهو متورط مع الوطن، منخرط في حبّ الجزائر، حتى الموت. عرفته سجون فرنسا، وسجون الجزائر الثورية. حيث بقي عدة سنوات متهما بجرم المطالبة بالديموقراطية..
أما في آخر مقابلة تلفزيونية له، وكان قد أدرك خطر وقوع سلاح الديموقراطية في يد من لا يؤمنون بها إلا مطية، فقد صرح: "لو خيرت بين الجزائر والديموقراطية.. لاخترت الجزائر".
وها هوذا اختار.. الموت قهرًا عند أقدام الوطن.
الوطن؟ كيف أسميناه وطنًا.. هذا الذي في كلّ قبر له جريمة.. وفي كلّ خبر لنا فيه فجيعة؟
وطن؟ أي وطن هذا الذي كنا نحلم ان نموت من اجله.. وإذ بنا نموت على يده.
أوطن هو.. هذا الذي كلما انحنينا لنبوس ترابه، باغتنا بسكين، وذبحنا كالنعاج بين أقدامه؟! وها نحن جثة بعد أخرى نفرش أرضه بسجاد من رجال، كانت لهم قامة أحلامنا.. وعنفوان غرورنا!
بين قبرين، لا تميز أحدهما عن الآخر سوى بعذ الوجاهة الرخامية، رأيت تلك المرأة تجهش بالبكاء، فتتغير هيأتها وتصبح امرأة ككل النساء الناحبات هنا.
لم أستطع أن أفعل شيئًا من اجلها. فقد أصبحت في لحظة امرأة لا أعرفها، حولتها الفجيعة إلى امرأة أمية، بطقوس حزن بدائية، وبنحيب مفاجئ مزق الصمت حولها. وكأنها كانت تريد أن تقلد ذلك الرجل في موته. وتختبر حالة يمكن فيها، من البكاء، الموت قهرًا أمام قبر.
أهكذا ماتت الخنساء وهي تبكي أخاها؟ ولم هي تبكي هكذا على كل قبر تصادفه خطاها، أفي كلّ قبر لها صخر؟
لم يكن بإمكاني أن أسألها لماذا الآن؟ لماذا هنا؟ لماذا هما؟
هذه المرأة الغريبة الأطوار، لا تملك أجوبة عن أسئلة بديهية، وإلا لما تركت الناس يبكون اباها.. وراحت لتبكي غيره.
شيء فيها، أصبح فجأة يخيفني، ويصيبني بالذعر. فتركتها يومها عند قبر بوضياف تنتحب، وغادرت المكان على عجل.

هذه الذكريات التي فاجأتني. فقط لأنني وضعت ذلك الدفتر على قبر ومضيت، لم تغير مزاجي، أو على الأقل، لم تغيره حدّ استدراجي إلى البكاء.
في الواقع، لم أكن أشعر بشيء. لا شيء على الإطلاق.
فجأةً، كما في انقطاع كهربائي، إثر ضغط عال، توقفت داخلي الأحاسيس، وأصبحت الأشياء حولي تحدث لامرأة أخرى غيري.
أما أنا فكنت أشعر بخفة، وشيء شبيه بالسعادة، التي لم أجد لها من تفسير، إلا عندما تذكرت أن سببها ذلك الدفتر الذي تركته خلفي، غير معنية بمصيره.. ولا بتلك المكاسب الأدبية التي كان يمكن أن أجنيها من وراء نشره.. بعد أن قضيت عاما كاملا في كتابته.
الحقيقة، هي كوني خفت إن أنا احتفظت به، أن يحلّ بي ما حلّ بتلك الكاتبة، التي لم تغفر لنفسها أبدًا ترددها في وضع مخطوط روايتها على قبر أبيها.. والعودة إلى منفاها.
هي التي حملته إليه يوم موته، لتقول له كمن يعتذر عن غياب: أنها خلال السنوات الطويلة التي لم تحضر لزيارته، ولم تره فيها، كانت مشغولة عنه بالكتابة إليه.. ومن أجله.
طبعًا.. كانت تكذب. هي كانت تكتب من اجلها. وإلا لكانت يومها، تركت ذلك المخطوط على قبره.. ومضت.
ولأنها لم تجرؤ على ذلك، لم تستطع بعدها أن تكتب شيئًا.
أعوام من الصمت لتعاقب نفسها على جريمة تفضيلها الآف القراء، على قارئ واحد، لن يقرأها ووحده يعنيها.
ربما بسبب جبنها في ذلك اليوم، تغيّرت نظرتي إلى الكتابة، وإلى وجاهتها، وإلى زهو شهرة تنزل عليك مصادفة بسبب كتاب، والتي ليست إلا تذكيرًا بخيانة لقارئ واحد. نسرق منه بذريعة أو بأخرى مخطوطًا كتب له. كي نصنع منه الآف النسخ المزورة لقراء لا يعنيهم أمرنا.
قطعًا.. في كلّ نجاح لكتابٍ خيانةٌ لشخص.

* * *
هي الحياة إذن..
قطعًا.. "لا يحدث للإنسان ما يستحقه.. بل ما يشبهه".
فلمَ الألم..؟ ما دامت تلك النهايات تشبهنا.. حتى لكأنما الموت يجعلنا أجمل؟
رحم تقذفنا إلى رحم. ونحن الذين تساوينا في المجيء، لن نسأل لمَ يكون الميلاد واحدًا.. ويتعدد الموت إلى هذا الحدّ؟
مع غارات الحزن الّليلية، اغتالني عطر رجل مات توًا، تاركا لي رائحة الوقت.. ومدينة جبلية يحلو لها أن تخيفك بجسور الاستفهام.. وأودية شاهقة الفجيعة.
في كمائن المواعيد التي نصبتها لي الحياة، راح القدر عروةً.. عروة، يفكّ بذلك البطء المتعمد أزرار الوهم.
ذاك الذي حصل.. أكان حبًا بصيغة الافتراض؟
كان يعرف عنها ما يكفي ليحبها..
كانت تعرف عنه ما يكفي لتحبّه..
قطعًا.. لم يكن أحدهما يعرف الآخر بما فيه الكفاية!

برغم حزني.. غادرت المقبرة شبه سعيدة.
إذا كان كلّ فرح يحمل قدرًا من الحزن، فلا عجب أن يحمل الحزن أيضًا شيئًا من فرح نستحيي أن نسميه، ولكن يعرفه المبدعون تمامًا.
أجل، كانت تسعدني فكرة التخلص من ذلك الدفتر، فقد أتعبني البقاء عامًا على قيد الكتابة، بحجة أنها وسيلتي الوحيدة للبقاء على قيد الحياة.
حتمًا.. ليس هذا صحيحًا. ليس فقط لأن الكتابة هي الوصفة المثلى لإنفاق حياتك خارج الحياة، ولكنها في هذا البلد بالذات، هي التهمة الأولى التي قد تفقد بسببها حياتك.
ولذا قررت بعد هذا الدفتر، أن أقوم بمحاولة اكتشاف فضائل الجهل، ونعمة أن تكون أميًا، في مواجهة الحبّ، وفي مواجهة الموت.. وفي مواجهة العالم.
لا أدري إذا كان انحداري نحو الجهل، سيكون سهلاً. ولكن لطالما صدّقت مقولة جبرا ابراهيم جبرا "الكاتب.. هو الذي يستطيع الصعود والنزول على سلم الحياة بسهولة تامة".
ربّما، لأنني قضيت حياتي على درجات ذلك السلّم، صاعدةً نازلةً.
دون أن أعطي انطباعًا للآخرين بأنني لاهثة.
في الواقع، وحدها الكلمات كانت تلهث داخلي.. ولهذا أنا كاتبة.

عدت إلى البيت، امرأة منزوعة الشهوات. لم يبق لها من تلك القصة سوى عطر اختزنه جسدها. وما زالت تتعطر به لتتحرش بالذاكرة.
الرائحة.. هي آخر ما يتركه لنا الذين يرحلون.
وأول ما يطالبنا به العائدون.
وكلّ ما يمكن أن نهدي إليهم، لنقول لهم إننا انتظرناهم.
ولذا، لم يخطئ ذلك العاشق الرائع، الذي يدعى نابليون، عندما بعث يزفّ خبر نصره إلى زوجته طالبًا منها أن تحتفظ له برائحتها، قائلاً:
"جوزفين.. لا تستحمي.. إني قادم بعد ثلاثة أيام!".
منذ نابليون، لم يوجد قائد عسكري يتقن الحديث إلى النساء. وينهزم أمام الأنوثة.. بالعظمة نفسها التي يهزم بها الأعداء.
ولذا.. سآخذ حمامًا.. وأنام هذا المساء!
وربّما جلست إلى أمي، بعد أن أهملتها كلّ هذه الفترة، وأهملت أيضًا ناصر، الذي لا تنفك أمّي تطالبني بالكتابة إليه. ولكنّني لا أفعل، لانشغالي بذلك الدفتر.. وبتلك الحياة الوهميّة.

ما كدت أتخلّص من عبودية الكتابة، حتّى عاودني الشوق إلى ناصر. شوق مخيف في مباغتته وفي تأنيبه.
كيف تخلّيت عنه كلّ هذا الوقت، دون أن أفكر في ما قد ينتظره هناك من مقالب أخرى للحياة؟
كيف استطعت أن أعيش كلّ هذا الوقت دونه ودون نبرته المتذمرة.. وتعليقاته الساخرة.. وحنانه المكابر الذي لا يمكن لكلّ كلمات العشق الرجاليّة أن تعوّضه لديّ.
قررت أن أكتب له رسالة طويلة.. جميلة.. موجعة.. مربكة.. كنصّ عشقيّ. أردت أن أجرب عليه نزعاتي الإجراميّة.. أن أسعده.. أن أبكيه.. عساني استعيده برسالة. حتّى أنني قلت له إنني أفكر في الطلاق، إن كان هذا الأمر يرضيه..
كنت أريد أن أحتفي بعودتي إلى الحياة، وأعطي إشعارًا لمن حولي بذلك. أن أتقاسم معهم حياتهم العاديّة، بمشاغلها وتفاهتها اليوميّة، بأحاديثها وضجرها.. بأفراحها وحزنها ومخاطرها، أن أعود أخيرًا امرأة طبيعيّة بعائلة وبيت.

زوجي استفاد من اهتمامي المفاجئ به، لينقذ علاقة اجتاحها فتور لم يجد له سببًا. فراح يحاول استعادتي بالتفاتات صغيرة.
أمّي كعادتها، لم تفهم شيئًا ممّا حلّ بي، واكتفت باجتياح كلّ برنامجي.
البارحة مثلاً.. قضت النهار وهي تُملي عليّ رسالة إلى ناصر.
وهذا الصباح، ما كادت تستيقظ حتّى طلبتني لتذكّرني بإرسالها.
كدت أسلّمها إلى زوجي، ليتكفل بها. ولكنّي تنّبهت أنني لا بدّ أن أخفي عنه العنوان الذي يقيم فيه ناصر.
وهكذا لم يكن أمامي، إلا أن أرتدي ثيابي، وأذهب لأشتري من محلّ القرطاسيّة ظرفًا وطوابع بريدية.

كنت أغادر البيت لأوّل مرّة منذ أسبوعين. عندما أشعلتني الرياح الخريفيّة التي لم أحسب لها حسابًا. وفاجأني الحزن القادم، كما المطر هنا سابقًا بموسم.
واجهات تعرض الشتاء المقبل في دفء معطف. ومكتبات تعرض الكتب.. والدفاتر.. والأقلام.
"قطعًا".. كانت الحياة تستعدّ لإنهاء دورة الفصول، والبدء من جديد.
تذّكرت وأنا أرى الأطفال يركضون بحقائبهم متوجهين إلى المدارس، أ، آخر مرة ذهبت فيها إلى هذا المحلّ، كانت منذ سنةٍ تمامًا، لأشتري الأشياء نفسها.
كما اليوم، كان الطقس خريفيّاً يغري بشيء ما. ولكنني اليوم، لا أحاول أن أسأل نفسي، بماذا هو يغري بالتحديد.
فمنذ أسبوعين، وأنا امرأة أميّة تتحاشى الأسئلة، خشية أن تباغتها أعراض كتابة.

كنّا في بداية الموسم الدراسيّ. أذكر...
"بدءًا" كانت سماءٌ تجدّد هيأتها بين فصلين. وكاتبة تجدّد حبرها بين كتابين.
وكما اليوم، البائع نفسه كان منهمكًا في ترتيب ما وصله من لوازم مدرسيّة. فارداً دفاتره وأقلامه أمامي.
كما منذ سنة، ها هو يتوقف قليلاً. يتجه نحوي.. يضع حمولته من الدفاتر الجديدة، على تلك الطاولة التي تفصلنا.. ويسألني مستعجلاً ماذا أريد.
كنت سأطلب منه ظروفًا وطوابع بريديّة، عندما...



تمت.




 

لحنــ المطــر

عضو جديد
إنضم
3 فبراير 2010
المشاركات
5,332
مستوى التفاعل
47
النقاط
0
العمر
28
الإقامة
بين بتلآت الزهور~ْ
دوما


بين الرّغبات الأبدية الجارفة.. والأقدار المعاكسة.. كان قدري.
وكان الحب يأتي , متسللاً إليّ, من باب نصف مفتوح, وقلب نصف مغلق.
أكنت أنتظره دون اهتمام, تاركة له الباب موارباً. متسليّة بإغلاقه نوافذ المنطق؟
قبل الحب بقليل, في منتهى الالتباس, تجيء أعراض حبّ أعرفها. وأنا الساكنة في قلب متصدع الجدران, لم يصبني يوماً, هلعٌ من وَلَعٍ مقبل كإعصار.
كنت أستسلم لتلك الأعاصير التي تغيّر أسماءها كلّ مرة, وتأتي لتقلب كلّ شيء داخليّ.. وتمضي بذلك القدر الجميل من الدمار.

دوماً..
كنت أحبهم. أولئك العشاق الذين يزجون بأنفسهم في ممرات الحب الضيقة, فيتعثرون حيث حلّوا, بقصة حب وضعتها الحياة في طريقهم, بعد أن يكونوا قد حشروا أنفسهم بين الممكن والمستحيل.
أولئك الذين يعيشون داخل زوبعة الحبّ التي لا تهدأ, مأخوذين بعواصف الشغف, مذهولين أمام الحرائق التي مقابل أن تضيء أياما في حياتهم, تلتهم كل شيء حولهم, جاهزين تماما.. لتلك اللّحظات المضيئة خلسة, والتي ستخلف داخلهم عندما تنطفئ رماد انطفائهم الحتميّ.
أحبّهم.. وربّما كنت أشبههم.
ولكن هذه المرّة, توقعت أنني أذكى من أن أتعثر في قصة حب وضعها الأدب في طريقي. لا ليختبر قدرتي على الكتابة, وإنما ليختبر جرأتي على أخذ الكتابة مأخذ الحياة.
كنت في الواقع, مأخوذة بمقولة لأندريه جيد "إنّ أجمل الأشياء هي التي يقترحها الجنون ويكتبها العقل".
مأخوذة بها إلى درجة أنني , عندما اقترح علي الجنون أن اذهب إلى موعد ضربه بطل قصتي لامرأة أخرى, أخذت اقتراحه مأخذ الجد, وقررت أن أذهب بذريعة كتابة شيء جميل.

كنت مرتبكة لعدة ساعات قبل الموعد, ذلك الارتباك الذي يسبق لقاءً لا ندري ماذا ينتظرنا فيه, ولكننا نصر على الذهاب إليه, لأن شيئا ما يأمرنا بأن نذهب.
صحيح أنه كان بي فضول لمعرفة ذلك الرجل, وفضول آخر لمشاهدة ذلك الفيلم. فقد يكون الطريق الأقصر لفهمه.. ولفهم إصراره على مشاهدته.
ولكن كنت أعي تماما أنني ارتكب حماقة غير مضمونة العواقب, بذهابي بمفردي لمشاهدة فيلم, في مدينة مثل قسنطينة, لا ترتاد فيها النساء قاعات السينما. فما بالك إذا كانت هذه المرأة زوجة أحد كبار ضبّاط المدينة, وتصل إلى السينما في سيّارة رسمية, لتجد في انتظارها جيشا من الرجال اللذين لا شغل لهم سوى التحرش بأنثى, على قدر كاف من الحرية أو من الجنون, لتجلس بمفردها في قاعة سينما.

ولهذا تعمدت أن أصل متأخرة عن الفيلم بربع ساعة, كي لا أقف في طابور الانتظار, أو أدخل القاعة على مرأى من الناس.
... تماما كما طلبت من السائق أن يعود قبل موعد انتهاء الفيلم بربع ساعة, تفاديا لتلك الأضواء التي ترافق نهاية كل عرض, وتجعل الناس يتفحصون بعضهم بعضا بفضول كثيرا ما أربكني.
ولأنني وصلت بعد فترة من بدء الفيلم كان لي حرية اختيار مكاني, وهو الأمر الذي مكنني من الوقوف لحظات وإلقاء نظرة على الجو العام للقاعة التي بدت لي نصف فارغة.
كما توقعت, كان الحضور جميعه رجالا. ومن الأرجح أن يكون من الشبان الذين جاؤوا لإهدار الوقت في قاعة السينما بدل إهداره وهم متكئون على جدار.
وحدهما رجل وامرأة, كانا يجلسان على انفراد في آخر القاعة ويبدو أنهما كانا هنا لسبب آخر.
استنتجت أنهما "هما" فاخترت لي مكانا خلفهما تماما, وكأنني أحتمي بهما, أو أتجسس عليهما.
أتوقع أن وجودي أزعجهما. ولكنهما وجدا في أنوثتي ما يبعد الرعب عنهما.
ما أتعس العشاق في هذه المدينة التي يعيش فيها الحب ممسكا أنفاسه, جالسا في عتمة الشبهات على كراسيّ مزقتها بسكين أيدٍ لم تلامس يوماً جسد امرأة.
أنشغل عنهما بمتابعة الفيلم الذي وصلته, مع وصول البطل إلى الصف في أول الموسم الدراسي.

إنه أستاذ تجاوز سنّ الأربعين ببضع خيبات. دائم السخرية بشيء من الرومنطيقية وربما الحزن المستتر. لقد عاد بعد جيل وأكثر إلى المعهد الذي درس فيه, ليعمل مدرسا في مادة الأدب. ومن الواضح أنه جاء لينقذ الطلبة من الأخطاء التي سبق أن تعلمها على هذه المقاعد نفسها, أو تلك القناعات التي تربى عليها.. وتكفلت الحياة بتكذيبها بعد ذلك.
يدخل الصف بشيء من الاستفزاز المرح, وهو يصفر أما دهشة الطلبة الذين لم يتعودوا تصرفا كهذا, في مؤسسة دراسية صارمة, ومشهورة بمحافظتها على التقاليد العريقة.

يتجه مباشرة, نحو جدار علقت عليه صورة تذكارية, بالأسود والأبيض, لطلبة شغلوا هذه المقاعد الدراسية نفسها, فوجا بعد آخر, وجيلا بعد آخر, على مدى قرن كامل.
هاهو يشير بيده إلى الطلبة أن يلحقوا به, ويطلب منهم أن يتأملوا تلك الصور التي لم تستوقفهم قبل اليوم, ويدققوا في وجوه أصحابها, المجتمعة في صور جماعية للذكرى.
يلحق به الطلبة مندهشين, فيبادرهم وكأنه يواصل حديثا سابقا, أو كأنه يقد لهم نفسه, كواحد سيمر الآخرون أمام صورته.. على أحد جدران هذا المعهد دون انتباه:
"كل اللذين ترونهم على هذه الصور, بهيئاتهم الرياضية التي تشبه هيئاتكم, وعنفوان شبابهم الذي يشبه عنفوانكم, بابتسامتهم العريضة, وطموحاتهم الكبيرة, ومشاريعهم وأحلامهم وثقتهم المطلقة في الحياة, كما هي الآن ثقتكم جميعهم الآن.. عظام تحت قبور فاخرة. لقد ماتوا كما ستموتون!".
وقبل أن يستوعب الطلبة هذا الكلام الغريب, لأستاذ يرونه لأول مرة, يواصل:
"كل واحد فيكم هنا, ذات يوم سيتوقف فيه كل شيء ويبرد جسده ثم تأكله الديدان وكأنه لم يكن.
"انظروا.. إنهم ينظرون إليكم الآن, كأنهم في صورهم هذه, يقولون لكم كلاما لا بد أن تنصتوا إليه. تعالوا.. اقتربوا.. حاولوا أن تلتقطوا كلماتهم.."
يقترب الطلبة مذهولين من جدار تغطيه الصور العتيقة, فيأتيهم صوت الأستاذ من الخلف. وكأنه يتحدث على طريقة المهرجين الذين يحركون دمية بيدهم, وهم يتكلمون على لسانها بصوت باطني, دون أن يحركوا شفاههم.
"استفيدوا من اليوم الحاضر.. لتكن حياتكم مذهلة.. خارقة للعادة. اسطوا على الحياة.. امتصوا نخاعها كل يوم مادام ذلك ممكنا. فذات يوم لن تكونوا شيئا.. سترحلون وكأنكم لم تأتوا.."
ثم يواصل بصوت عاديٍّ:
"كان هذا درسكم الأول. بإمكانكم الآن أن تعودوا إلى مقاعدكم.. وتفتحوا كتاب الأدب
 
أعلى