سلطي وافتخر
عضو جديد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وعلمه النطق السليم، والصلاة والسلام على خير المرسلين والهادي إلى الصراط المستقيم، وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
لقد خلق الله الإنسان في أحسن خلقة وأتمها كما قال تعالى: { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4].
فإن الله خلقه حياً عالماً قادراً مريداً متكلماً سميعاً بصيراً مدبراً حكيماً، قال الإمام القرطبي: "يدل على أن الإنسان أحسن خلق الله باطناً وظاهراً، جمال هيئة وبديع تركيب الرأس بما فيه، والصدر بما جمعه، والبطن بما حواه، والفرج وما طواه، واليدان وما بطشتا، والرجلان وما احتملتا، ولذلك قالت الفلاسفة إنه العالم الأصغر إذ كل ما في المخلوقات جمع فيه".
فما أعظمه من خلق، وما أجلها من نعمة، حري بالإنسان شكرها، والعمل في طاعة خالقه ومصوره.
ومن جملة خلقه سبحانه اللسان، فهو المترجم لما حواه القلب، والمبين لما يريد، والمعبر عما في النفس، ومع صغر حجمه تعظم طاعته ومعصيته، إذ لا يستبين الكفر ولا الإيمان إلا بشهادة اللسان، وبقوله تزرع الحسنات والسيئات شراً فشر، لذا أمر المسلم والمسلمة بحفظ لسانهما في كتاب ربهما عز وجل وسنة نبيهما محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } [الإسراء: 36]
ووصف سبحانه المؤمنين بأنهم يحفظون ألسنتهم عن الكلام الذي لا خير فيه ولا فائدة، رغبة عنه وتنزيهاً لأنفسهم وترفعاً عنه، فال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴿١﴾ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴿٢﴾ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } [المؤمنون: 1-3].
وفي السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» [رواه البخاري].
ولأهمية حفظ اللسان جعل النبي صلى الله عليه وسلم جزاءه دخول جنة عرضها السموات والأرض، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة» [رواه البخاري].
أي من أذى الحق الذي على لسانه من النطق بما يجيب عليه أو الصمت عما لا يعنيه.
وقد يكون اللسان سبباً لدخول النار والعياذ بالله فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب» [متفق عليه].
نقل عن ابن وهب رحمه الله: "أن المراد بها التلفظ بالسوء والفحش ما لم يرد بذلك الجحد لأمر الله في الدين".
وقال القاضي عياض رحمه الله: "يحتمل أن تكون تلك الكلمة من الخنى والرفث، وأن تكون في التعرض بالمسلم بكبيرة أو بمجون، أو استخفاف بحق النبوة والشريعة وإن لم يعتقد ذلك".
قال النووي رحمه الله: "وينبغي لمن أراد النطق بكلمة أو كلام أن يتدبره في نفسه قبل نطقه فإن ظهرت مصلحته تكلم وإلا أمسك".
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده وذروة سنامه».
قلت: "بلى يا رسول الله".
قال: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد»
ثم قال: «ألأ أخبرك بملاك ذلك كله».
فقلت: "بلى يا نبي الله".
فأخذ بلسانه فقال: «كف عليك هذا»
فقلت: "يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟".
فقال: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» [رواه أحمد والترمذي وابن ماجه].
فأكثر خطايا ابن آدم من لسانه، لأنه أكثر أعضائه عملاً، وهو صغير حجمه، عظيم جرمه، فمن أطلق لسانه وأرسله مرخي العنان، سلك به الشيطان في كل ميدان، وساقه إلى شفا جرف هار، إلى أن يضطره إلى البوار ولا ينجو من شر اللسان إلا أن يلجم بلجام الشرع.
أخي الحبيب: إن للسان آفات عظيمة وأخطاراً كثيرة وذنوباً صغيرة وكبيرة من الكذب والغيبة والنميمة، ومن السب والشتم وغيره.
ومنها أيضاً الكلام الفاحش الذي يصف ما يدور بين الرجل وزوجته في الفراش ومقدماته وتمثيلها، أو الحديث عن العورات المغلظة للرجل والمرأة، ووصف المرأة المرأة لزوجها أو أحد محارمها كأنه يراها، وكذلك الزوج يصف الرجل لزوجته أو لأحد محارمه كأنها تراه، ووصف محاسن الأزواج أو الزوجات إلى غير ذلك من الموضوعات الخادشة للحياء وقد انتشر خطر ذلك بين كثير من الناس رجالاً ونساء.
وكل ذلك جاء الشرع بالنهي عنه، لما يترتب على ذلك من مفاسد وأضرار من قلة الحياء والجرأة على الفاحشة وإفشاء أسرار الزوج أو الزوجة، وإليك توضيح ذلك بما يلي:
أولاً: نهى الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن الكلام الفاحش فقال سبحانه: {لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا } [النساء: 148].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء» [رواه الترمذي وقال حديث حسن].
وفي حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: «لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: «إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً» [رواه البخاري].
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس نفرة عن الفحش في المقال والتفحش في اللسان والبذاء والكذب والغيبة والنميمة والبهت وقول الزور وكل كلام خبيث بل كان كلامه كله طيب لذا وجب على المسلم والمسلمة الاقتداء به صلى الله عليه وسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بئس أخو العشيرة»
فلما دخل انبسط إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه، فلما خرج قلت: يا رسول الله لما استأذن قلت بئس أخو العشيرة، فلما دخل انبسطت إليه؟
فقال: «يا عائشة، إن الله لا يحب الفاحش المتفحش» [رواه أبو داواد وأحمد].
وحد الفحش هو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة وأكثر ما يكون في ألفاظ الجماع وما يتعلق به، فإن أهل الخير يتحاشون عن تلك العبارات ويكنون عنها، والباعث على الفحش إما قصد إيذاء وإما الاعتياد الحاصل من مخالطة الفساق وأهل الخبث، أو لنشر الفاحشة وتسهيلها.
ثانياً: ذكر الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه باب تحريم إفشاء سر المرأة، بقول النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها».
وحكم المرأة في هذا مثل حكم الرجل، قال النووي رحمه الله: "فيه تحريم إفشاء الرجل ما يجري بينه وبين امرأته من أمور الاستمتاع ووصف تفاصيل ذلك وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه، فأما مجرد ذلك الجماع فإن لم تكن فيه فائدة ولا إليه حاجة فمكروه، لأنه خلاف المروءة".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينس من صلاته شيئاً فقال: «مجالسكم مجالسكم».
ثم حمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد» ثم أقبل على الرجال فقال: «هل منكم الرجل إذا أتى أهله فأغلق عليه بابه وألقى عليه ستره واستتر بستر الله».
قالوا: "نعم".
قال: «ثم يجلس بعد ذلك فيقول: فعلت كذا فعلت كذا».
قال: "فسكتوا"
قال: فأقبل على النساء فقال: «هل منكن من تحدث؟»، فسكتن.
فجثت فتاة على إحدى ركبتيها وتطاولت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليراها ويسمع كلامها فقالت: "يا رسول الله، إنهم ليتحدثون وإنهن ليتحدثنه".
فقال: «هل تدرون ما مثل ذلك؟»
فقال: «إنما مثل ذلك مثل شيطانة لقيت شيطاناً في السكة فقضى منها حاجته والناس ينظرون إليه» [رواه أبو داود].
والحديث يدل على تحريم إفشاء أحد الزوجين لما يقع بينهما من أمور الجماع وذلك لأن كون الفاعل لذلك بمنزلة شيطان لقي شيطانة فقضى حاجته منها والناس ينظرون من أعظم الأدلة على تحريم نشر أحد الزوجين للأسرار الواقعة بينهما الراجعة إلى الوطء ومقدماته، قيل: وهذا التحريم هو في نشر أمور الاستمتاع ووصف التفاصيل الراجعة إلى الجماع وإفشاء ما يجري من المرأة من قول أو فعل حالة الوقاع.
والقصد بالحديث التحذير من ذلك، وبيان أنه من أمهات المحرمات الدالة على الدناءة وسفساف الأخلاق.
وفي الحديث: أن الذي أكد ذلك الأمر هو فتاة مما يدل على قبح الفعل، وكراهيته حتى من غير المتزوجين، فالواجب على المتكلم أن يتحرز من ذلك ذلك عند شباب وفتيات يغريهم بالفعل، وقد يجرهم إلى الفاحشة.
ومن خلق المسلم أنه حيي عفيف، لا يحب أن تشيع الفاحشة، عملاً بتوجيهات القرآن الكريم والسنة المطهرة التي جاءت تتوعد أولئك الفاسقين الذين يحلو لهم الحديث في أمور الأسرار الزوجية الخاصة، ويتحدثوا عن عوراتهم بأشد العذاب في الدنيا والآخرة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 19].
ومن ثم كان الذي يطلق لسانه في نشر الفاحشة في المجتمع آثماً كفاعلها سواء، وعلى من يجالس مثل أولئك الأشخاص أن يصون سمعه عن سماع الباطل، كي لا يشارك في الحديث أو يتأثر ويعلق في قلبه.
ويجب على المرأة المسلمة خاصة، أن يكون شعارها الحياء فلا تتلفظ بعبارات نابية تخدش الحياء، ولا تناقش مثل هذه الموضوعات التي تحصل بين الرجل وزوجته، أو ما يحصل من الفواحش فتستسهل الذنب، ويأتي الشيطان ويزين الفكرة، ويفتح لها أبواباً، وتتحول من مجرد نقاش عابر إلى هم وإرادة وعزيمة ومن ثم عمل وتطبيق، ذلك أن خلق الحياء المتأصل في فطرتها المعزز بمفهوم الحياء الإسلامي يحجبها عن كل مخالفة شرعية لا حياءً وخجلاً من الناس، وإنما حياء من الله تعالى.
والحياء خلق كريم، وخصلة حميدة، ومازال الناس بخير ما وجد فيهم الحياء فالحياء لا يأتي إلا بخير يمنع صاحبه من قول السوء وفعل المكروه ويتيح له فرصة التفكير واختيار اللفظ المناسب ويجعله محبوباً لدى الناس، ليس بفاحش ولا بذيء، أما إذا نزع الحياء من الإنسان فقد نزع منه الخير كله، إنه لن يتردد بإطلاق لسانه بكلام فاحش أو قول سيء، ولن يتأثر برد الفعل الذي يبدو على الآخرين من ألفاظه أو تصرفاته مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت». [رواه البخاري].
إذا قلَّ ماء الوجه قل حياؤه *** ولا خير في وجه إذا قل ماؤه
حياؤك فاحفظه عليك فإنما*** يدل على فعل الكريم حياؤه
ويظن بعض الناس أن الحديث عن الجماع ودواعيه من الدين، ويستدل بقول لا حياء في الدين، وهذا الأمر غير صحيح، بل من الدين الحياء والبعد عن الكلام البذيء والمقصود الصحيح من تلك العبارة، أن الإنسان لا يمنعه الحياء من أن يسأل عن الأحكام والأمور الفقهية إذا احتاج إلى ذلك، وإن كان أمراً خاصاً ما لا يستحي من الحق للتفقه في الدين، وأورد حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟"، فقال: «نعم إذا رأت الماء». [متفق عليه واللفظ للبخاري].
ثالثاً: ومن آفات الكلام، وصف المرأة المرأة لزوجها أو أحد محارمها كأنه يراها، ويصف الرجل لزوجته رجلاً آخر كأنها تراه، ووصف محاسن الأزواج أو الزوجات، وهذا كله منهي عنه، لحديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها» [أخرجه البخاري].
فتنعتها أي فتصف نعومة بدنها، ولين جسدها كأنما ينظر إليها، فيتعلق قلبه بها ويقع بذلك فتنة.
وروى الإمام أحمد رحمه الله عن ابن مسعود رضي الله عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها أو تصفها لزوجها أو للرجل كأنه ينظر إليها» .
والحكمة في هذا النهي خشية أن يعجب الزوج الوصف المذكور، ويتعلق قلبه بها فيفضي ذلك إلى تطليق الواصفة أو الافتتان بالموصوفة.
وكذلك المرأة قد تفتن بالرجل الموصوف ويتعلق قلبها به، فيفضي إلى كراهية زوجها فتطلب الطلاق لتتزوج بالموصوف، أو تقع العلاقات المحرمة بينهما، وقد يثير ذلك الوصف شهوة كامنة ويحرك نفوساً غافلة.
فلهذا نهي الرجال والنساء عن ذلك لما يترتب عليه من مفاسد عظيمة، وأخطار جسيمة، وسداً لذرائع الشر وقطعاً لوساوس الشيطان.
هذه جملة مما يحدث في بعض مجالس الناس من الكلام عن العورات أو ما يحصل بين الأزواج وغيره، وهو كلام لا يبني عليه عمل ولا تقوم به مصلحة، بل هو مدخل من مداخل إبليس لنشر الفاحشة، وإثارة الفتنة بين المسلمين، فحري بكل مسلم ومسلمة تجنب الخوض في مثل تلك الموضوعات والابتعاد عن كل ما يثير الشهوة ويخدش الحياء، ولتكن مجالسنا عامرة بالكلام الطيب والقول الحسن.
قال يحي بن معاذ: "القلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها، فانظر الرجل حين يتكلم، فإن لسانه يغترف لك به مما في قلبه حلو وحامض وعذب وأجاج وغير ذلك، ويبين لك طعم قلبه اغتراف لسانه، أي كما تطعم بلسانك فتتذوق ما في قلبه من لسانه كما تذوق ما في القدر بلسانك.
اللهم اهدنا إلى أحسن الأقوال والأعمال، اللهم إن نسألك قلباً تقياً ولساناً نقياً.
الحمدلله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وعلمه النطق السليم، والصلاة والسلام على خير المرسلين والهادي إلى الصراط المستقيم، وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
لقد خلق الله الإنسان في أحسن خلقة وأتمها كما قال تعالى: { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4].
فإن الله خلقه حياً عالماً قادراً مريداً متكلماً سميعاً بصيراً مدبراً حكيماً، قال الإمام القرطبي: "يدل على أن الإنسان أحسن خلق الله باطناً وظاهراً، جمال هيئة وبديع تركيب الرأس بما فيه، والصدر بما جمعه، والبطن بما حواه، والفرج وما طواه، واليدان وما بطشتا، والرجلان وما احتملتا، ولذلك قالت الفلاسفة إنه العالم الأصغر إذ كل ما في المخلوقات جمع فيه".
فما أعظمه من خلق، وما أجلها من نعمة، حري بالإنسان شكرها، والعمل في طاعة خالقه ومصوره.
ومن جملة خلقه سبحانه اللسان، فهو المترجم لما حواه القلب، والمبين لما يريد، والمعبر عما في النفس، ومع صغر حجمه تعظم طاعته ومعصيته، إذ لا يستبين الكفر ولا الإيمان إلا بشهادة اللسان، وبقوله تزرع الحسنات والسيئات شراً فشر، لذا أمر المسلم والمسلمة بحفظ لسانهما في كتاب ربهما عز وجل وسنة نبيهما محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } [الإسراء: 36]
ووصف سبحانه المؤمنين بأنهم يحفظون ألسنتهم عن الكلام الذي لا خير فيه ولا فائدة، رغبة عنه وتنزيهاً لأنفسهم وترفعاً عنه، فال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴿١﴾ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴿٢﴾ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } [المؤمنون: 1-3].
وفي السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» [رواه البخاري].
ولأهمية حفظ اللسان جعل النبي صلى الله عليه وسلم جزاءه دخول جنة عرضها السموات والأرض، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة» [رواه البخاري].
أي من أذى الحق الذي على لسانه من النطق بما يجيب عليه أو الصمت عما لا يعنيه.
وقد يكون اللسان سبباً لدخول النار والعياذ بالله فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب» [متفق عليه].
نقل عن ابن وهب رحمه الله: "أن المراد بها التلفظ بالسوء والفحش ما لم يرد بذلك الجحد لأمر الله في الدين".
وقال القاضي عياض رحمه الله: "يحتمل أن تكون تلك الكلمة من الخنى والرفث، وأن تكون في التعرض بالمسلم بكبيرة أو بمجون، أو استخفاف بحق النبوة والشريعة وإن لم يعتقد ذلك".
قال النووي رحمه الله: "وينبغي لمن أراد النطق بكلمة أو كلام أن يتدبره في نفسه قبل نطقه فإن ظهرت مصلحته تكلم وإلا أمسك".
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده وذروة سنامه».
قلت: "بلى يا رسول الله".
قال: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد»
ثم قال: «ألأ أخبرك بملاك ذلك كله».
فقلت: "بلى يا نبي الله".
فأخذ بلسانه فقال: «كف عليك هذا»
فقلت: "يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟".
فقال: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» [رواه أحمد والترمذي وابن ماجه].
فأكثر خطايا ابن آدم من لسانه، لأنه أكثر أعضائه عملاً، وهو صغير حجمه، عظيم جرمه، فمن أطلق لسانه وأرسله مرخي العنان، سلك به الشيطان في كل ميدان، وساقه إلى شفا جرف هار، إلى أن يضطره إلى البوار ولا ينجو من شر اللسان إلا أن يلجم بلجام الشرع.
أخي الحبيب: إن للسان آفات عظيمة وأخطاراً كثيرة وذنوباً صغيرة وكبيرة من الكذب والغيبة والنميمة، ومن السب والشتم وغيره.
ومنها أيضاً الكلام الفاحش الذي يصف ما يدور بين الرجل وزوجته في الفراش ومقدماته وتمثيلها، أو الحديث عن العورات المغلظة للرجل والمرأة، ووصف المرأة المرأة لزوجها أو أحد محارمها كأنه يراها، وكذلك الزوج يصف الرجل لزوجته أو لأحد محارمه كأنها تراه، ووصف محاسن الأزواج أو الزوجات إلى غير ذلك من الموضوعات الخادشة للحياء وقد انتشر خطر ذلك بين كثير من الناس رجالاً ونساء.
وكل ذلك جاء الشرع بالنهي عنه، لما يترتب على ذلك من مفاسد وأضرار من قلة الحياء والجرأة على الفاحشة وإفشاء أسرار الزوج أو الزوجة، وإليك توضيح ذلك بما يلي:
أولاً: نهى الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن الكلام الفاحش فقال سبحانه: {لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا } [النساء: 148].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء» [رواه الترمذي وقال حديث حسن].
وفي حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: «لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: «إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً» [رواه البخاري].
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس نفرة عن الفحش في المقال والتفحش في اللسان والبذاء والكذب والغيبة والنميمة والبهت وقول الزور وكل كلام خبيث بل كان كلامه كله طيب لذا وجب على المسلم والمسلمة الاقتداء به صلى الله عليه وسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بئس أخو العشيرة»
فلما دخل انبسط إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه، فلما خرج قلت: يا رسول الله لما استأذن قلت بئس أخو العشيرة، فلما دخل انبسطت إليه؟
فقال: «يا عائشة، إن الله لا يحب الفاحش المتفحش» [رواه أبو داواد وأحمد].
وحد الفحش هو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة وأكثر ما يكون في ألفاظ الجماع وما يتعلق به، فإن أهل الخير يتحاشون عن تلك العبارات ويكنون عنها، والباعث على الفحش إما قصد إيذاء وإما الاعتياد الحاصل من مخالطة الفساق وأهل الخبث، أو لنشر الفاحشة وتسهيلها.
ثانياً: ذكر الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه باب تحريم إفشاء سر المرأة، بقول النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها».
وحكم المرأة في هذا مثل حكم الرجل، قال النووي رحمه الله: "فيه تحريم إفشاء الرجل ما يجري بينه وبين امرأته من أمور الاستمتاع ووصف تفاصيل ذلك وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه، فأما مجرد ذلك الجماع فإن لم تكن فيه فائدة ولا إليه حاجة فمكروه، لأنه خلاف المروءة".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينس من صلاته شيئاً فقال: «مجالسكم مجالسكم».
ثم حمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد» ثم أقبل على الرجال فقال: «هل منكم الرجل إذا أتى أهله فأغلق عليه بابه وألقى عليه ستره واستتر بستر الله».
قالوا: "نعم".
قال: «ثم يجلس بعد ذلك فيقول: فعلت كذا فعلت كذا».
قال: "فسكتوا"
قال: فأقبل على النساء فقال: «هل منكن من تحدث؟»، فسكتن.
فجثت فتاة على إحدى ركبتيها وتطاولت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليراها ويسمع كلامها فقالت: "يا رسول الله، إنهم ليتحدثون وإنهن ليتحدثنه".
فقال: «هل تدرون ما مثل ذلك؟»
فقال: «إنما مثل ذلك مثل شيطانة لقيت شيطاناً في السكة فقضى منها حاجته والناس ينظرون إليه» [رواه أبو داود].
والحديث يدل على تحريم إفشاء أحد الزوجين لما يقع بينهما من أمور الجماع وذلك لأن كون الفاعل لذلك بمنزلة شيطان لقي شيطانة فقضى حاجته منها والناس ينظرون من أعظم الأدلة على تحريم نشر أحد الزوجين للأسرار الواقعة بينهما الراجعة إلى الوطء ومقدماته، قيل: وهذا التحريم هو في نشر أمور الاستمتاع ووصف التفاصيل الراجعة إلى الجماع وإفشاء ما يجري من المرأة من قول أو فعل حالة الوقاع.
والقصد بالحديث التحذير من ذلك، وبيان أنه من أمهات المحرمات الدالة على الدناءة وسفساف الأخلاق.
وفي الحديث: أن الذي أكد ذلك الأمر هو فتاة مما يدل على قبح الفعل، وكراهيته حتى من غير المتزوجين، فالواجب على المتكلم أن يتحرز من ذلك ذلك عند شباب وفتيات يغريهم بالفعل، وقد يجرهم إلى الفاحشة.
ومن خلق المسلم أنه حيي عفيف، لا يحب أن تشيع الفاحشة، عملاً بتوجيهات القرآن الكريم والسنة المطهرة التي جاءت تتوعد أولئك الفاسقين الذين يحلو لهم الحديث في أمور الأسرار الزوجية الخاصة، ويتحدثوا عن عوراتهم بأشد العذاب في الدنيا والآخرة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 19].
ومن ثم كان الذي يطلق لسانه في نشر الفاحشة في المجتمع آثماً كفاعلها سواء، وعلى من يجالس مثل أولئك الأشخاص أن يصون سمعه عن سماع الباطل، كي لا يشارك في الحديث أو يتأثر ويعلق في قلبه.
ويجب على المرأة المسلمة خاصة، أن يكون شعارها الحياء فلا تتلفظ بعبارات نابية تخدش الحياء، ولا تناقش مثل هذه الموضوعات التي تحصل بين الرجل وزوجته، أو ما يحصل من الفواحش فتستسهل الذنب، ويأتي الشيطان ويزين الفكرة، ويفتح لها أبواباً، وتتحول من مجرد نقاش عابر إلى هم وإرادة وعزيمة ومن ثم عمل وتطبيق، ذلك أن خلق الحياء المتأصل في فطرتها المعزز بمفهوم الحياء الإسلامي يحجبها عن كل مخالفة شرعية لا حياءً وخجلاً من الناس، وإنما حياء من الله تعالى.
والحياء خلق كريم، وخصلة حميدة، ومازال الناس بخير ما وجد فيهم الحياء فالحياء لا يأتي إلا بخير يمنع صاحبه من قول السوء وفعل المكروه ويتيح له فرصة التفكير واختيار اللفظ المناسب ويجعله محبوباً لدى الناس، ليس بفاحش ولا بذيء، أما إذا نزع الحياء من الإنسان فقد نزع منه الخير كله، إنه لن يتردد بإطلاق لسانه بكلام فاحش أو قول سيء، ولن يتأثر برد الفعل الذي يبدو على الآخرين من ألفاظه أو تصرفاته مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت». [رواه البخاري].
إذا قلَّ ماء الوجه قل حياؤه *** ولا خير في وجه إذا قل ماؤه
حياؤك فاحفظه عليك فإنما*** يدل على فعل الكريم حياؤه
ويظن بعض الناس أن الحديث عن الجماع ودواعيه من الدين، ويستدل بقول لا حياء في الدين، وهذا الأمر غير صحيح، بل من الدين الحياء والبعد عن الكلام البذيء والمقصود الصحيح من تلك العبارة، أن الإنسان لا يمنعه الحياء من أن يسأل عن الأحكام والأمور الفقهية إذا احتاج إلى ذلك، وإن كان أمراً خاصاً ما لا يستحي من الحق للتفقه في الدين، وأورد حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟"، فقال: «نعم إذا رأت الماء». [متفق عليه واللفظ للبخاري].
ثالثاً: ومن آفات الكلام، وصف المرأة المرأة لزوجها أو أحد محارمها كأنه يراها، ويصف الرجل لزوجته رجلاً آخر كأنها تراه، ووصف محاسن الأزواج أو الزوجات، وهذا كله منهي عنه، لحديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها» [أخرجه البخاري].
فتنعتها أي فتصف نعومة بدنها، ولين جسدها كأنما ينظر إليها، فيتعلق قلبه بها ويقع بذلك فتنة.
وروى الإمام أحمد رحمه الله عن ابن مسعود رضي الله عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها أو تصفها لزوجها أو للرجل كأنه ينظر إليها» .
والحكمة في هذا النهي خشية أن يعجب الزوج الوصف المذكور، ويتعلق قلبه بها فيفضي ذلك إلى تطليق الواصفة أو الافتتان بالموصوفة.
وكذلك المرأة قد تفتن بالرجل الموصوف ويتعلق قلبها به، فيفضي إلى كراهية زوجها فتطلب الطلاق لتتزوج بالموصوف، أو تقع العلاقات المحرمة بينهما، وقد يثير ذلك الوصف شهوة كامنة ويحرك نفوساً غافلة.
فلهذا نهي الرجال والنساء عن ذلك لما يترتب عليه من مفاسد عظيمة، وأخطار جسيمة، وسداً لذرائع الشر وقطعاً لوساوس الشيطان.
هذه جملة مما يحدث في بعض مجالس الناس من الكلام عن العورات أو ما يحصل بين الأزواج وغيره، وهو كلام لا يبني عليه عمل ولا تقوم به مصلحة، بل هو مدخل من مداخل إبليس لنشر الفاحشة، وإثارة الفتنة بين المسلمين، فحري بكل مسلم ومسلمة تجنب الخوض في مثل تلك الموضوعات والابتعاد عن كل ما يثير الشهوة ويخدش الحياء، ولتكن مجالسنا عامرة بالكلام الطيب والقول الحسن.
قال يحي بن معاذ: "القلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها، فانظر الرجل حين يتكلم، فإن لسانه يغترف لك به مما في قلبه حلو وحامض وعذب وأجاج وغير ذلك، ويبين لك طعم قلبه اغتراف لسانه، أي كما تطعم بلسانك فتتذوق ما في قلبه من لسانه كما تذوق ما في القدر بلسانك.
اللهم اهدنا إلى أحسن الأقوال والأعمال، اللهم إن نسألك قلباً تقياً ولساناً نقياً.