سوار
الإدارة العامة
غذاء الروح
إنَّ النفس في أحيان كثيرة تعتريها حالةٌ من القلق والكآبة، تُشعرها بالفراغ والوَحدة، تضيق عليها الأرض بما رَحُبت، تكاد الروح تخرج من بين جنبَيْها كأنما تصعَّد في السماء أو تهوي بها الريح في مكان سحيق، لا تدري ما الذي أصابها، تُسائل حالَها: لماذا تغيَّرت؟ لماذا هذا التحوُّل المفاجئ؟ لماذا كل هذا الهمِّ والنكد؟ إنه فُتورٌ يُقعدها، وأغلال تكبِّلها، وآصار تَحمِلها، ما الذي دهاها؟ لقد كانت قبل زمن قصير فرِحةً جذْلةً، تنظر إلى الحياة بكلِّ أمَل، لقد كانت ترتع في مجالس الذكر، واللسان يسبِّح ربَّه ويستغفره، حتى إن طموحَها كاد يُعانِق الثريَّا، يداعب روحَها شعورٌ يذوب معه الوجدان كلَّما أقبلت ناظرةً إلى السماء، تفكَّرت في بديع صُنْع خالقِها وبارئها، تذكَّرت آلاء الله ونعمه المسبَغة عليها، كلَّما غفلت برهةً بادرت إلى الاستغفار والتسبيح، فإذا إحساس بأنس الله تعالى كأنه دفء الشمس يسري في أعماقها، كأنه الرضاب الحلو يلامس شفاهها.
هل تتذكر نفسي لما عُوفيت من البلاء، من العناء، من الشقاء؟
هل تذكرت لما كانت تتخبَّطها الجاهلية الجهلاء؟
لما كانت تائهةً في الصحراء، تُصارعها الأهواء؟
ظلمات بعضها فوق بعض،
والناس ينظرون إليها بازدراء.
هل تذكرت لما كانت تسير في الظلماء،
فإذا بالسحاب ينجلي شيئًا فشيئًا من السماء؟
إنه الأمل يعود من جديد
بشائره ساطعة في الفضاء
نور الله ينتشر في الهواء
إنه وحي الهدى الذي أعاد في النفس الرجاء
فأشرق القلب مُزهرًا بالضياء
حتى عاد كالوردة البيضاء، في الليلة القمراء.
لماذا ينسى الإنسان إحسانَ الله، ومعافاته له في جوانب كثيرة من حياته، لو التفت إلى من حوله من الناس المبتلَيْنَ بأنواع البلاء، لأدرك أنه يملك كنزًا عظيمًا، هل يمكن لك أخي أن تبيع بصرك بمال الدنيا؟ هل تستبدل بسمعك أغلى متاع الأرض؟ بل هل تستطيع أن تتخلَّى عن إيمانك، الذي ذُقتَ به طعم الحياة الحقيقية؛ طعم عبادة الله وأنسه ومحبَّته؟
لماذا ينسى العبدُ إلهَه الذي خلَقَه فسوَّاه فعدَلَه؟ لعلَّ الكرمَ الواسعَ، والعفوَ العظيم، والحِلْمَ الكبير، هو الذي غَرَّه بربِّه الكريم، أحيانًا نُصابُ بنوبة من الغفلة والذهول تُطغينا وتُنسينا وتُلهينا، لكن هل تُنسينا ربَّنا وخالِقَنا ورازِقَنا؟ هل تُنسينا مصيرَنا المحتوم؟
إن بلسمَ الروح ودواءَها وغذاءها ذِكرُ الله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾ [الكهف: 24]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].
فكيف والله تعالى يأمرُنا بذِكْره: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الأحزاب: 41، 42]، ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ [طه: 14]؟
ذكرُ الله سلاح العبد وزكاة نفسِه، لا يمكن للقلوب أن تطمئنَّ، ولا للنفوس أن تهدَأ، ولا للبصائر أن تُجلى، ولا للعقول أن تُهدى، ولا للسرائر أن تُصلح، ولا للأحزان أن تذهب، ولا للضيق أن ينفرِج، ولا للضمائر أن تحيا، إلا بذكر الله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ الذي يذكرُ ربَّه والذي لا يذكر ربَّه: مَثَلُ الحيِّ والميِّت))؛ متفق عليه.
قال مالك بن دينار رحمه الله: "ما تلذَّذ المتلذِّذون بمِثْل ذِكْر الله عزَّ وجل".
قال ابن تيمية رحمه الله: "الذِّكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟".
راقت