همسآت شرقية
طاقم الادارة
قصة إسلام هند بنت عتبة رضي الله عنها
هند بنت عتبة وعداء طويل
تكريم الإسلام للمرأةمن الذين نحب أن نقف أمام إسلامهم وقفة طويلة ومهمَّة، ليس إسلام أحد رجال مكة، ولا أحد زعمائها، ولكن إسلام إحدى نساء مكة، وإحدى النساء التي حاربت الإسلام طويلاً، ولسنوات عدة، ولها ذكريات مؤلمة عند المسلمين وعند رسول الله شخصيًّا، وهي هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان . وهند بنت عتبة موتورة من المسلمين، فقد قُتل أبوها عتبة بن ربيعة في بدر، وقتل عمها شيبة بن ربيعة كذلك في بدر، وقتل ابنها حنظلة بن أبي سفيان أيضًا في بدر، وقتل أخوها الوليد بن عتبة بن ربيعة أيضًا في بدر، فَقَدَتْ أربعة من أقرب الأقرباء إليها، قُتلوا جميعًا في بدر، وهم جميعًا من سادة قريش.
فموقفها -في الحقيقة- كان في غاية الصعوبة، وحملت في قلبها كراهية لم يحملها أحد مثلها إلا قليل القليل، وظلت على هذا الأمر سنوات طويلة منذ بدر، وحتى فتح مكة، أي ست سنوات متصلة، وقبل ذلك أيضًا كانت معادية للإسلام، ولكن ظهرت العداوة بشدة بعد مقتل هؤلاء الأربعة في بدر، وخرجت بنفسها مع جيش الكفار في موقعة أُحد، وحمَّست الجيش قدر ما تستطيع لقتال المسلمين، ولما فرَّ الجيش من أمام المسلمين في أول المعركة كانت تقذف في وجوههم التراب، وتدفعهم دفعًا لحرب المسلمين، ولم تفر كما فر الرجال.
ثم إنه بعد انتصار أهل مكة على المسلمين في نهايات موقعة أُحد، قامت بفعل شنيع، قامت بالتمثيل بالجثث، وبدأت تمثِّل بواحدة تلو الأخرى بنفسها، حتى وصلت إلى حمزة بن عبد المطلب عم الرسول ، فبقرت بطنه ، وأخرجت كبده فلاكتها، فما استساغتها فلفظتها. وأثر هذا الموقف بشدة في رسول الله .
وخرجت مع المشركين في غزوة الأحزاب، بل استمرت في حربها ضد الإسلام حتى اللحظات الأخيرة من فتح مكة، ورفضت هند بنت عتبة ما طلبه زوجها من أهل مكة من أن يدخلوا في بيوتهم؛ طلبًا لأمان الرسول ، بل دَعَت أهل مكة لقتل زوجها عندما أصرَّ على مهادنة الرسول ، ودفعتهم دفعًا إلى القتال. إنه تاريخ طويل وشرس لهند بنت عتبة مع المسلمين.
إسلام هند بنت عتبة
عندما جلس الرسول ليبايع الناس على الإسلام، جاءت هند بنت عتبة، وهي منتقبة متنكرة لا يعرفها ، والرسول يبايع النساء في ذلك اليوم ويبايعهن شفاهةً، فما وضع يده في يد امرأة أجنبية قَطُّ، وكانت بيعة النساء على: ألاّ يشركن بالله شيئًا، ولا يسرقن، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن، ولا يعصينه في معروف. فبدأت النساء تبايع، وقال لهن: "بَايِعْنَنِي عَلَى أَلاَّ تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا".
فقالت هند -وهي منتقبة والرسول لا يعرفها-: والله إنك لتأخذ علينا ما لا تأخذه من الرجال.
أي أن هناك تفصيلات كثيرة للنساء، والرجال قد بايعوا بيعةً واحدة. وأكمل الرسول : "وَلاَ تَسْرِقْنَ".
فوقفت هند وقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني، ويكفي بَنِيَّ، فهل عليَّ من حرج إذا أخذت من ماله بغير علمه؟
فقال : "خُذِي مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيكِ وَبَنِيكِ بِالْمَعْرُوفِ".
ثم انتبه على أن هذه التي تتكلم هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، فقال الرسول : "وَإِنَّكِ لَهِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ؟".
وتذكر الرسول تاريخها الطويل، وتذكر حمزة بن عبد المطلب ، وما حدث له على يد هند بنت عتبة. قالت: نعم، هند بنت عتبة، فاعفُ عمَّا سلف عفا الله عنك.
فهي تعرف تاريخها الطويل مع الرسول ، والرسول يعفو ويصفح، وتنازل الرسول عن كل هذا التاريخ الطويل، وقَبِل إسلامها، وأكمل البيعة مع النساء وقال: "وَلاَ تَزْنِينَ".
فقالت هند: يا رسول الله، وهل تزني الحرة؟
فقال : "وَلاَ تَقْتُلْنَ أَوْلاَدَكُنَّ؟".
فقالت هند: قد ربيناهم صغارًا، وقتلتهم كبارًا، هل تركت لنا ولدًا إلا قتلته يوم بدر؟ أنت قتلت آباءهم يوم بدر، وتوصينا بأولادهم.
فتبسم ، وضحك عمر حتى استلقى على قفاه. وأخذ الرسول الموضوع بشيء من البساطة، وقدَّر موقف هند بنت عتبة، ومدى صعوبة الإسلام عليها، ومع ذلك هي تُسلِم الآن عن قناعة، ثم قال : "وَلاَ تَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ تَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيِدِيكُنَّ وَأَرْجُلِكُنَّ".
فقالت هند: والله إن إتيان البهتان لقبيح.
فقال : "وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ".
فقالت هند: والله ما جلسنا هنا وفي أنفسنا أن نعصيك في معروف[1].
وتمت البيعة المباركة، وبايعت نساء مكة جميعًا بما فيهن هند بنت عتبة -رضي الله عنها- هذه المبايعة المباركة.
وسبحان الله! حسُنَ إسلام هند بنت عتبة، وكما كانت تخرج مع جيوش الكفار لتحمِّسَها لحرب المسلمين، بدأت تخرج مع جيوش المسلمين لتحمسهم لحرب الكفار. ومن أشهر المواقف لها يوم اليرموك، عندما بدأت تشجِّع المسلمين على القتال في سبيل الله، وعلى خوض غمار المعركة الهائلة ضد مائتي ألف رومي، فكانت من أدوات النصر العظيمة في ذلك اليوم المجيد.
لقد فتح الله قلوبًا غلفًا في يوم الفتح، وأسلمت مكة بكاملها في ذلك اليوم، وهي من أعظم مدن الجزيرة العربية، ولم يتخلف أحد منهم عن الإسلام.
د.راغب السرجاني