ذكر الله تعالى وجوه الأشقياء ووجوه السعداء يوم القيامة فقال سبحانه تعالى :
1 ـ ﴿وجوه يومئذٍ ناضرة * إلى ربها ناظرة ﴾ ( القيامة : 22 ـ 23 )
﴿وجوه يومئذٍ ناضرة﴾ أي وجوه صافية تبدي حسن تقويم ربها الذي خلقه عليها، لأن يوم القيامة سيظهر الإنسان على الشكل الذي خلقه الله عز وجل عليه في الأصل عندما قال: ﴿لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم﴾.
فـ(النضارة) هي الصفاء المعبّرة عن أحسن تقويم التي خلق عليه الإنسان أصلاً ، قال الله تعالى: ﴿تَعْرِفُ في وُجُوههم نَضْرَةَ النَّعِيم﴾.
﴿إلى ربها ناظرة﴾ أي أن الله عز وجل هيأ هذه الوجوه وجعلها صافية لمهمة، فمثلاً عندما أقول لولدي: اغسل وجهك، لأنك ستخرج لترى فلان صاحب المستوى الكبير، فيوم القيامة الله عز وجل يهيئ وجه الإنسان المؤمن من أجل أن ينظر إليه، ليكون على مستوى المنظور إلى الله عز وجل.
﴿وجوه يومئذٍ ناضرة﴾ صافية لأنها ﴿إلى ربها ناظرة﴾ أي تتهيأ من أجل أن تنظر إلى ربها عز وجل.
وقد ورد في الحديث الذي يرويه البخاري: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إنكم سترون ربكم عياناً) أي بالعين.
وورد حديث آخر يرويه الشيخان: (أن أناساً قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال: هل تضارّون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب ؟ قالوا: لا. قال: فإنكم سترون ربكم كذلك).
لكن على الرغم من هذه الأحاديث هناك بعض العلماء يقولون: ﴿إلى ربها ناظرة﴾ ليس المراد من الآية النظر، وإنما النظر هنا بمعنى الانتظار، وهذا التفسير غير مقبول في اللغة؛ لأن الفرق شاسع بين النظر بمعنى الانتظار وبين النظر بمعنى المعاينة بالعين؛ وذلك أن النظر حينما يأتي بمعنى الانتظار فإن الفعل يتعدى بنفسه، ومنه
قوله تعالى: ﴿ انْظُرُونا نَقْتَبِسْ من نُوركم ﴾ قال الزجاج: قيل معنى أَنْظِرُونا انْتَظِرُونا ؛ ومنه قول عمرو بن كلثوم:
أَبا هِنْدٍ فلا تَعْجَلْ علينا*** وأَنْظِرْنا نُخَبِّرْكَ اليَقِينا
ولكن حينما أعني بالنظر المعاينة باللعين والبصر فإن الفعل يتعدى بحرف إلى فأقول لك: نظرت إليك. أي عاينتك بعيني ، قال أبو منصور: ومن قال إِن معنى قوله : ﴿إلى ربها ناظرة﴾ يعني منتظرة فقد أَخطأَ، لأَن العرب لا تقول نَظَرْتُ إِلى الشيء بمعنى انتظرته، إِنما تقول نَظَرْتُ فلاناً أَي انتظرته؛ ومنه قول الحطيئة:
نَظَرْتُكُمُ أَبْناءَ صَادِرَةٍ ِلْوِرْدِ*** طَالَ بها حَوْزِي وتَنْساسِي.
2 ـ﴿ووجوه يومئذ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾ ( القيامة : 24 ـ 25 ).
﴿ووجوه يومئذ باسرة ﴾ أي وجوه هؤلاء مقطبة كالحة مضطربة قلقة.
قال في لسان العرب : وبَسَرَ يَبْسُرُ بَسْراً وبُسُوراً: عَبَسَ. وَوَجْهٌ بَسْرٌ: باسِرٌ، وُصِفَ بالمصدر. وفي التنزيل العزيز: ﴿ووجوه يومئذ باسرة ﴾ ؛ وفيه: ﴿ثم عَبَسَ وَبَسَرَ ﴾؛ قال أَبو إِسحق: بَسَرَ أَي نظر بكراهة شديدة. وقوله: ﴿ووجوه يومئذ باسرة ﴾ أَي مُقَطِّبَةٌ قد أَيقنت أَن العذاب نازل بها. وبَسَرَ الرجلُ وَجْهَه بُسُوراً أَي كَلَحَ. وفي حديث سعد قال: لما أَسلمتُ رَاغَمَتْني أُمِّي فكانت تلقاني مَرَّةً بالبِشْرِ ومَرَّةً بالبَسْرِ؛ البِشْرُ، بالمعجمة: الطلاقة؛ والبَسْرُ، بالمهملة: القُطُوبُ؛ بَسَرَ وَجْهَهُ يَبْسُرُه.اهـ
عندما ينتظر الإنسان مصيره ومستقبله أو أمراً بالنسبة له خطير جداً ؛ سيكون وجهه قلقاً مضطرباً.
لذلك عندما يُقبض على مجرم، ويقاد إلى العدالة سيكون وجهه باسراً مقطباً قلقاً مضطرباً كالحاً، لأنه سيلقى العذاب والعقوبة، وقد فعل ما يستأهل هذه العقوبة.
لماذا وجوه هؤلاء باسرة ؟ جاء الجواب الإلهي: ﴿تظن أن يفعل بها فاقرة﴾ أي تنتظر داهية ستنزل عليها.
﴿تظن﴾ أي تعتقد. فإن قيل : لماذا عبّر الله عز وجل عن كلمة (تعتقد) بـ ﴿تظن﴾ ؟
قلت : لأنها تريد أن تدفع هذا الاعتقاد، فهي لا تريد، ولكن سيُفعل بها، قال في لسان العرب : قال أَبو إِسحق في قوله تعالى: ﴿تظن أن يفعل بها فاقرة﴾ ؛ المعنى توقن أَن يُفْعَلَ بها داهية من العذاب.اهـ
هم في الحقيقة يعتقدون ولكن حالهم كحال المجرم، يريد أن يدفع هذا الاعتقاد بالشك والظن، ولكن لا سبيل له.
﴿فاقرة﴾ أي: داهية كبيرة تكسر فقرات عظام ظهره ويقال: فَقَرَتْه الفاقِرةُ أَي كسرت فَقَارَظهره.
ونحن نعبّر عن هذا المعنى حينما نقول: فلان جاءته مصيبة كسرت فقرات ظهره.
ولذلك سمي: الفقير فقيراً، لأن فقرات ظهره كسرت معنوياً من خلال ما يعيش به من ضنك وشدة وبؤس وعسر.
3 ـ ﴿وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية ﴾ ( الغاشية : 2ـ 3 ـ 4 )
كانوا يتعبون أنفسهم في العبادة وينصبونها , ولا أجر لهم عليها , لما هم عليه من كفر و ضلال ، إنها وجوه الكفار كالرهبان وربما تؤولت في أهل البدع كالخوارج .
خاشعة ذليلة بالعذاب. وكل متضائل ساكن خاشع، قال في اللسان :
خشع: خَشَع يَخْشَعُ خُشوعاً واخْتَشَع وتَخَشَّعَ: رمى ببصره نحو الأَرض وغَضَّه وخفَضَ صوته. وقوم خُشَّع: مُتَخَشِّعُون. وخشَع بصرُه: انكسر .... وبَلْدةٌ خاشعة أَي مُغْبَرّة لا مَنْزِل بها. وإِذا يَبِست الأَرض ولم تُمْطَر قيل: قد خَشَعَت.
قال تعالى: ﴿ وترى الأَرض خاشعة فإِذا أَنزلنا عليها الماء اهْتَزّتْ وربَتْ ﴾. والعرب تقول: رأَينا أَرض بني فلان خاشِعةً هامِدة ما فيها خَضْراءاهـ
وهكذا وجوه الكفار يوم القيامة خاشعة يابسة قاحلة لا خير فيها.
﴿عاملة ناصبة ﴾ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: هم الذين أنصبوا أنفسهم في الدنيا على معصية اللّه عز وجل، وعلى الكفر؛ مثل عبدة الأوثان.
قال الحسن وسعيد بن جبير: لم تعمل لله في الدنيا، ولم تنصب له، فأعملها وأنصبها في جهنم.
وروى عن الحسن قال: لما قدم عمر بن الخطاب - رضي اللّه عنه - الشام أتاه راهب شيخ كبير متقهل، عليه سواد، فلما رآه عمر بكى. فقال له: يا أمير المؤمنين، ما يبكيك؟ قال: هذا المسكين طلب أمرا فلم يصبه، ورجا رجاء فأخطأه، - وقرأ قول اللّه عز وجل - ﴿وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة ﴾
قال الكسائي: التقهل: رثاثة الهيئة، ورجل متقهل: يابس الجلد سيء الحال.اهـ تفسير القرطبي.
وقيل : وجوه في الدنيا خاشعة عاملة ناصبة تصلى يوم القيامة ناراً حامية ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
لو جعل صفة لهم في الدنيا لم يكن في هذا اللفظ ذم فإن هذا إلى المدح أقرب وغايته أنه وصف مشترك بين عباد المؤمنين وعباد الكفار، والذم لا يكون بالوصف المشترك ولو أريد المختص لقيل خاشعة للأوثان مثلاً عاملة لغير الله ناصبة في طاعة الشيطان وليس في الكلام ما يقتضي كون هذا الوصف مختصاً بالكفار ولا كونه مذموماً ، وليس في القرآن ذم لهذا الوصف مطلقاً ولا وعيد عليه فحمله على هذا المعنى خروج عن الخطاب المعروف في القرآن .اهـ
4 ـ ﴿وجوه يومئذ ناعمة * لسعيها راضية * في جنة عالية﴾ ( الغاشية : 8 ـ 9 ـ 10 )
أي حسنة ذات نعمة، لينة غضة ترتج من نعمتها ، وهي وجوه المؤمنين؛ نعمت بما عاينت من عاقبة أمرها وعملها الصالح.
﴿ لسعيها ﴾ أي لعملها الذي عملته في الدنيا ﴿ راضية ﴾ في الآخرة حين أعطيت الجنة بعملها.
5 ـ ﴿ ووجوه يومئذ مسفرة *ضاحكة مستبشرة ﴾ ( عبس : 38 ـ 39 ) .
﴿ ووجوه يومئذ مسفرة﴾ أي مشرقة مضيئة، قد علمت مالها من الفوز والنعيم، وهي وجوه المؤمنين.
﴿ ضاحكة ﴾ أي مسرورة فرحة. ﴿ مستبشرة ﴾ أي بما آتاها الله من الكرامة.
وقال عطاء الخراساني: ﴿ مسفرة ﴾ من طول ما اغبرت في سبيل الله جل ثناؤه. ذكره أبو نعيم.
الضحاك: من آثار الوضوء.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : من قيام الليل؛ لما روي في الحديث: [من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار] يقال: أسفر الصبح إذا أضاء.اهـ تفسير القرطبي.
6 ـ ﴿ ووجوه يومئذ عليها غبرة *ترهقها قترة *أولئك هم الكفرة الفجرة ﴾ ( عبس : 40 ـ 41 ـ 42 ) أي غبار ودخان ﴿ ترهقها ﴾ أي تغشاها ﴿ قترة ﴾ أي كسوف وسواد. كذا قال ابن عباس رضي الله عنهما، ﴿ أولئك هم الكفرة الفجرة ﴾ أي الكفرة قلوبهم، الفجرة في أعمالهم.
قال في اللسان : والغُبْرة: اغْبِرار اللوْن يَغْبَرُّ للهمِّ ونحوه. وقوله عز وجل: ﴿ ووجوه يومئذ عليها غبرة *ترهقها قترة ﴾ ؛ قال: وقول العامة غُبْرة خطأ . اهـ
قال الأصفهاني في مفردات ألفاظ القرآن : الغبرة: وهو ما يعلق بالشيء من الغبار وما كان على لونه، قال: ﴿ ووجوه يومئذ عليها غبرة ﴾ عبس/40، كناية عن تغير الوجه للغم. اهـ
﴿ ترهقها قترة ﴾ قال في اللسان :
والقَتَرُ: جمع القَتَرةِ، وهي الغَبَرة؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ ووجوه يومئذ عليها غبرة *ترهقها قترة ﴾ ؛ عن أَبي عبيدة،
وأَنشد للفرزدق:
مُتَوَّج برِداء المُلْكِ يَتْبَعُه ***مَوْجٌ، تَرى فوقَه الرَّاياتِ والقَتَرا
التهذيب: القَتَرةُ غَبَرة يعلوها سواد كالدخان، والقُتارُ ريح القِدْر، وقد يكون من الشِّواءِ والعظم المُحْرَقِ وريح اللحم المشويّ، وفي حديث حقوق الجار : ( ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها ) رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
7 ـ ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ ( آل عمران : 106 ـ 107 ) .
يعني يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم تكون وجوه المؤمنين مبيضة ووجوه الكافرين مسودة.
وكل من يكذب على الله تعالى يأتي يوم القيامة ووجهه أسود قال الله تعالى : ﴿ ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله ﴾ (الزمر: 60) أي في دعواهم له شريكاً وولداً ﴿ وجوههم مسودة ﴾ أي مما حاط بهم من غضب الله ونقمته.
وفي ﴿ مسودة ﴾ للعرب لغتان: مسودة، ومسوادة، وهي في أهل الحجاز يقولون فيما ذكر عنهم: قد اسواد وجهه، واحمار، واشهاب.
ويقال: إن ذلك عند قراءة الكتاب، إذ قرأ المؤمن كتابه فرأى في كتابه حسناته استبشر وابيض وجهه، وإذا قرأ الكافر والمنافق كتابه فرأى فيه سيئاته اسود وجهه.
ويقال: إن ذلك عند الميزان إذا رجحت حسناته ابيض وجهه، وإذا رجحت سيئاته اسود وجهه.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة
قال عطاء رحمه الله تعالى : تبيض وجوه المهاجرين والأنصار، وتسود وجوه بني قريظة والنضير.
وفي الحديث : (الكذب يسود الوجه ) رواه البيهقي وأبو يعلى.
ومعنى الحديث شائع في الناس حتى في عوامهم بحيث أن الطفل يزجر عن الكذب ويخوف بسواد الوجه، والمراد به في الآخرة .
ويجوز أن يكون في الدنيا لأن الكاذب يظهر كذبه في الغالب فينفضح فيعبر عن الخجل والفضوح بسواد الوجه.
اللهم بيض وجوهنا يوم تسود وجوه العصاة والكاذبين
اللهم اجعل وجوهنا وجوهاً ضاحكة مستبشرة يوم لقائك
اللهم اجعل وجوهنا ناضرة ناعمة لسعيها راضية
ونعوذ بوجهك الكريم أن نكون من أصحاب الجحيم
اللهم لاتكب وجوهنا في النار من بعد السجود لك يا أرحم الراحمين
وحرم وجوهنا عن النار يا أكرم الأكرمين.