سوار
الإدارة العامة
[frame="7 80"]
د.طارق البكري
مزرعة الدجاج (قصة للاطفال)
د.طارق البكري
في قديم الزمان كان هناك مجموعة دجاج (الدجاج كلمة تفيد المذكر والمؤنث)، تعيش في مزرعة فسيحة (كبيرة)، عبارة عن مرج (أرض واسعة ذات نبات ومرْعى) أخضر، مليء بسنابل القمح والحبوب، ومزروعات لذيذة طرية يحبها الكتاكيت (فَرْخُ الدَّجَاجِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ صِيَاحِهِ فِي سُرْعَةٍ) والأكبر سناً..
وفي المزرعة عدد كبير من الدجاج، مكوَّن من أسر كثيرة، تعرف بعضها بعضاً، تتعاون بمحبة وإخلاص، تتزاور، ويحرص كل منها على الآخر..
مرت سنوات طويلة والجميع يعيش في أمان وسلام.. لم يكن الدجاج يعرف الظلم فيما بينه، ولا يعرف الحيوانات المفترسة في مزرعته، فقد كان يعيش على ربوة (تلة عالية)، تحيط بها وديان وجبال، كأنها سوار حول معصم أو سياج يقيه (يحميه) من الحيوانات الشرسة.. ولم يكن يأتي من خارج المزرعة أحد سوى طيور صغيرة لطيفة وديعة (هادئة ساكنة)، تشرب ماء من البحيرة وتأكل بعض الحبوب ثم ترحل..
لكنَّ بعض كبار السن من الدجاج يقصّ حكايات قديمة، يظنّ كثير من الدجاج أنها من نسج الخيال.. ولم تكن الدجاجات وخصوصاً الصغيرات منها تعتقد بأنّ هناك مخلوقات حية تأكل مخلوقات حية مثلها، أو تضمر الشرَّ للآخرين.
****
كانت حياة الدجاج آمنة مطمئنة.. يزرع بسمات في دروبه كما يزرع أنواعاً متنوعة من الحبوب والخضار التي يحبها في بستانه الأخضر، لا يضيع دقيقة واحدة من وقته دون عمل.
لم يكن يكدّر صفوَ عيشه شيء.. المكان واسع رحب، والطبيعة لطيفة هادئة، الطقس معتدل معظم أيام السنة، الماء متوافر طوال العام، والطعام لذيذ متنوع.. الدجاج يتعامل فيما بينه باحترام وحب شديدين، الصغير يوقر (يجل ويحترم) الكبير، الكبير يرحم الصغير..
*****
لكن الحياة لا تدوم على حال..
ففي أحد الأصباح (جمع صباح)، وكان يظنه الدجاج صباح يوم عادي، لم يترقب (ينتظر) فيه سوءاً.. اجتاحت عاصفة رملية هوجاء (رِيحٌ هَوْجَاءُ: مُتَدَارِكَةُ الْهُبُوبِ كَأَنَّ بِهَا هَوَجاً، أَي حُمْقاً، طَيْشاً) المرج الجميل فجأة ودون أن يظهر في الأفق ما ينذر بالخطر..
كانت العاصفة شديدة جداً.. صارت تشتدّ وتتصاعد.. لم تترك شجرة صغيرة ولا ضعيفة إلا وقلعتها من جذورها، ولا نبتة على الأرض إلا وغمرتها بالرمال، وطمرت (دفنت) بحيرة الماء العذبة وحولتها إلى أوحال.. وحطمت بيوت الدجاج كلها، ولم تغادر المكان إلا بعد أن حولته الى خراب..
*****
الدجاج فوجئ بالعاصفة، لم يألف (يعرف) مثلها من قبل، ولم يستعد ببناء مخابئ وبيوت قوية، أو حتى مخازن لطعامه وحبوبه تحت الأرض.. بل كان يعيش في بساطة وكأنَََّ سوءاً لن يحدث في يوم من الأيام...
استطاع معظم الدجاج الاحتماء بجذوع الأشجار الضخمة الكبيرة القوية، التي صمدت لوحدها أمام العاصفة، وما أن انحسرت الرمال قليلاً وبدأت الرؤية تتضح، لم يكن الدجاج حتى اللحظة يفقه (فقه الأمرَ: فهِمه بعد جهل وأدركه بعد تفكير) ما حدث؟ كان الأمر كابوساً لا يمكن تصديقه، فكل ما بناه في سنين طويلة ضاع في لحظات..
*****
هبَّ الدجاج (ثار وهاج) بجنون يتفقد الواقع الجديد.. يبحث عن أقاربه.. كلُّ عائلة منهمكة بالبحث عن أفرادها، وبعد أن تطمئن باكتمال عددها والـتأكد من سلامة أفردها، تبدأ بالسؤال عن جيرانها وأصحابها وسائر الدجاج الذي يقطن المزرعة التي تحولت فجأة وبلحظات الى أشلاء (قطع مبعثرة)..
اكتشفت بعض أسر الدجاج أنها فقدت عزيزاً من أفرادها وخاصة من الصغار، حملتهم الريح الى المجهول..
صار الجميع يعدو (يركض) في كل اتجاه بحثاً عن مفقودين، أو يتبع أصواتاً هنا أو هناك، من قريب أو بعيد، فوق شجرة أو تحت الرمال، ويعود البعض حاملاً على ظهره دجاجة صغيرة منهوكة (متعبة تعبا شديداً) أو كتكوتاً جريحاً.. وكان الجميع يعمل لإنقاذ من يمكن إنقاذه وإسعافه.
مضت ساعات والوضع على هذه الحال حتى غربت شمس ذلك النهار.. واشتدّ ظلام الليل، واضّطر الدجاج (لم يجد مفراً) للسكون والرقاد (النوم)، بعد أن أضناه التعب (أضر به) وأضمره (أضعفه) الجوع..
****
في صباح اليوم التالي استيقظ الدجاج على مصيبته.. كلّ شيء في مزرعته الجميلة أبيد (اختفى) تماماً، وبعض الكتاكيت والدجاجات الصغيرات فقدوا.. والبعض الآخر أصيب بِجُروح وكسور..
أما البيض الذي كان منتشراً في كل زوايا المرج فقد تمزقت قشوره الضعيفة وتناثر (تفرق) ما في داخله مع هبوب الريح ..
صبر الدجاج على ما أصابه من شدة ومحنة، حمد ربه على ما أصابه من مصيبة، لأنها لم تكن أكبر من ذلك، وقرر البدء فوراً بالبحث عن طعام وشراب ليقوي جسمه ويتمكن من البحث عن المفقودين..
صار الدجاج يدور في كل مكان يبحث عن بقايا طعام منثور، يحفر الأرض بأظفاره الضعيفة، يأكل بعض أوراق الأشجار وفيها بقايا ماء...
*****
معالم المزرعة تغيّرت تماماً، ولولا بعض أشجار كبيرة قوية صمدت أمام العاصفة لظنّ نفسَه في مكان آخر.. وراح الدجاج يبحث عن واحة الماء التي كانت تتوسط المرج.. لكن الواحة تحولت الى أوحال ورمال..
بعض الدجاج كان ظامئاًً (من الظمأ وهو العطش) إلى حد الموت.. خاطر بنفسه وراح يشرب قطيرات ماء ممزوجة برمال على صفحة الواحة.. كان منظراً محزناً، لكن الدجاج لم يستسلم، أسرع يحفر في الأرض قرب الواحة، تجمّع أكبر عدد من الدجاج، صار يحفر في الأرض بكل ما تبقى لديه من قوة، أملاً بماء قليل ينساب عبر جدار الواحة وقد صفا من الرمال إلى حد يمكن شربه..
وتمكن الدجاج بعد جهد من حفر بئر صغيرة، تجمع فيها ماء قليل، لكنه كان كافياً ليروي الظمأ، رغم تغيُّر لون الماء وطعمه وامتزاجه بقليل من الرمل، فعند العطش والجوع لا يعود هناك مجال للاختيار أو للشكوى..
*****
في هذه اللحظات بدأ الدجاج يدرك واقعه الجديد.. وأنّ عليه أن يعيد بناء مزرعته من جديد، أو الرحيل الى مكان آخر يكون العيش ممكناً فيه..
ولكن قبل كل شيء عليه تكرار البحث عن المفقودين.. فقام الدجاج من استراحته وانطلق يبحث ويدور في كل مكان.. ثم عاد ليحصي عدد الدجاج المفقود فاكتشف فقدان خمسة كتاكيت وثلاث دجاجات صغيرات.. وبعد بحث متواصل طوال اليوم .. يئس الدجاج وقرر وقف البحث متمنياً أن تكون الريح قد حملت المفقودين وخاصة الكتاكيت الصغار إلى مكان آمن لا يتعرضون فيه للأخطار، وأن لا يكون أي سوء لحق بهم..
****
في هذا الوقت اجتمع كبار السن من الدجاج لبحث الوضع الجديد... وكان يظن أن البعض سيقترح مغادرة المكان لأنه لم يعد صالحاً للسكن.. لكن الأصوات ارتفعت مؤكدة الرغبة في البقاء في المكان مهما كانت الظروف وإعادة البستان الى سابق عهده..
"لكن الأمر ليس بهذه البساطة والسهولة".. قالت دجاجة حكيمة..
"الأمر يحتاج الى سنوات طويلة، ومع ذلك لا نستطيع مغادرة بستاننا الذي أصبح اليوم ذكرى جميلة".. قالت دجاجة حكيمة أخرى..
الدجاج أصر على البقاء وعدم نكران جميل هذا المكان، وأعلن الرغبة بإعادته كما كان في الماضي وأفضل، لأنّه "حقٌٌّ من حقوقه.. أخذنه مرجاً أخضر وزهوراً ملونة عطرة.. فكيف نتركه خراباً نكرةً؟"..
وكان الرأي الوحيد البقاء في المكان وإعادته جميلاً كما كان..
*****
نظر الجميع إلى كبير الدجاج.. الديك المميز بلونه الأحمر وعرفه الضخم.. أكبر الدجاج سناً ومكانة.. صاحب الكلمة النهائية... الذي ظل طوال الوقت متأملاً..
نظر الديك العجوز إلى الدجاج، وراح ينقل بصره في أرجاء المكان الخرب.. ثم قال بصوت هادئ فيه قوة وثقة وإيمان: كنت واثقاً أنكم لن تطلبوا مغادرة المكان.. فالموت مع العاصفة أهون عندي من مغادر البستان الذي قضيت حياتي فيه.. سعيد أنا بقراركم.. ولنبدأ العمل من هذه اللحظة بالعمل..
******
فرح الدجاج جميعاً بهذا القرار السديد.. وقام فوراً بتنظيم العمل وتوزيعه فيما بينه...
كان بعضه خبيراً بهندسة البيوت، والبعض الآخر بالزراعة، والصناعة، والتربية، وإعداد الطعام...
كان الماء الخاص بالشرب أكبر مشكلة، وعليه أن يجد حلاً سريعاً لها، فالتجربة جديدة وصعبة، ولم يمر بمثلها من قبل.
انشغل الدجاج بالعمل، يريد أن ينتهي بأسرع وقت وبأفضل ما يستطيع إنجازه.. فوجد أنه من الأفضل البدء بإعداد البيوت، ورأى أن يعيد بناء مزرعته بشكل أكثر تنظيماً من السابق، وأن يعمل الجميع ضمن فريق واحد ويتم التنفيذ بيتاً بيتاً.. وأن يبني البيوت بطريقة قوية صلبة، حماية له من أي خطر مثل الذي حدث...
******
بعد أيام قليلة، وفيما الدجاج منهمك بالعمل.. صاح ديك يافع بأعلى صوته صيحة تحذير من عدو قادم لم يألفه الدجاج من قبل.. مجموعة سباع تصعد الربوة ومن عيونها يتصاعد الشرر.
بدأ الدجاج يقفز في كل اتجاه، ساعدته أجنحته بالقفز والطيران قليلاً من شدة الرعب ليصل الى أغصان الشجر التي تنتصب بقوة في أرجاء البستان، فلم يكن الدجاج قد أنتهى من بناء بيوته بعد.. وتمكن الدجاج من الوصول الى أعالي الشجر قبل وصول السباع.. التي بدأت تصيح من شدة الجوع بعد أن رأت الدجاج الطيب اللذيذ بعيداً عن متناولها...فأصيبت بالجنون وحاولت تسلق الأشجار لكن هيهات للسباع أن تتسلق الأشجار..
السباع التي جاءت الى المكان أصابها من العاصفة مثل ما أصاب الدجاج.. فغادرت موطنها بحثاً عن طعام.. وقضت فترة طويلة دون أن تأكل ما يسد جوعها وتشرب ما يروي عطشها.. حتى وصلت الى الربوة ورأت كل هذا الدجاج.. لكنّ سرعة الدجاج وتنبهه وتسلقه أعالي الشجر بسرعة كان منقذاً له من براثن (أظفار) السباع..
*****
انتظرت الذئاب طويلاً.. ربما تقع دجاجة من شجرة أو يحدث شيء ما.. الدجاج جاع هو أيضاً، وراح يأكل عروق الأغصان الخضراء.. قد لا يكون طعاماً لذيذاً ولا يشبه طعم الحنطة.. لكنه يسد الجوع ويخفف العطش..
أدركت الذئاب ألا أمل من بقائها، وأنّها ستموت من الجوع لو طال انتظارها.. عندها قررت المغادرة بحثاً عن فرائس (جمع فريسة وهي صيد السباع) أخرى...
******
انتظر الدجاج وقتاً طويلاً حتى تأكد من مغادرة الذئاب المنطقة بكاملها.. وراقب السباع بعدما هبطت من الربوة الى الوادي وعادت وتسلقت الجبال المحيطة حتى اختفت خلفها.. فاطمأنت ونزلت من الأشجار..
أصيب الدجاج بصدمة شديدة.. هذه أول مرة يشاهد فيها مثل هذه الحيوانات المفترسة..
قرر الدجاج بعد تشاور أن تكون هناك مراقبة دائمة بالتناوب على زوايا الربوة، وفي جميع اتجاهاتها لترقب وصول أي خطر.. خوفاً من تجربة مماثلة، وربما لا يستطيع عندها أن ينجو بنفسه كما حدث هذه المرة..
وقرر الدجاج أيضاً أن يعد لنفسه بيوتاً أصلب وأقوى، كما تقيه من خطر العواصف فإنها تقيه من خطر الوحوش...
وطلب كبير الدجاج من المهندسين أن يفكروا بطريقة تجعل عملية تسلق الأشجار سريعة وسهلة وخاصة لصغار السن حماية لهم من الخطر.. بانتظار الانتهاء من بناء البيوت والملاجىء وتجهيزها.
******
وبعد أيام قليلة من عمل مستمر دؤوب (فيه جدّ وتعب).. أنهى الدجاج عمله في بناء البيوت القوية والملاجىء الآمنة، وكانت أجمل من بيوته القديمة وأكثر تنظيماً وصلابةً واتساعاً.. وبنى سوراً صخرياً عالياً، وأبراج مراقبة تطلّ على كل طرق الربوة وجنباتها.. وزرع في بأرضه الخصبة أطيب أنواع المزروعات المحببة للدجاج... وحفر بئراً كبيرة صنع لها غطاءً من غصون الشجر حماية لها من رمال العواصف.. وتحسباً من أن يسقط داخل البئر كتكوت أو دجاجة صغيرة.. وبنى سوراً عالياً يحمي مزروعاته وأرضه من كل خطر..
******
عاش الدجاج بعدها في ربوته الآمنة.. مرت عليه فترات أمن وفترات شدّة.. لم تتمكن رياح بعدها من قلع بيوته ولا طمر مياهه، ولا تدمير زرعه.. ولم تجرؤ السباع على الاقتراب من الربوة التي تحولت الى قلعة حصينة..
[/frame]وفي المزرعة عدد كبير من الدجاج، مكوَّن من أسر كثيرة، تعرف بعضها بعضاً، تتعاون بمحبة وإخلاص، تتزاور، ويحرص كل منها على الآخر..
مرت سنوات طويلة والجميع يعيش في أمان وسلام.. لم يكن الدجاج يعرف الظلم فيما بينه، ولا يعرف الحيوانات المفترسة في مزرعته، فقد كان يعيش على ربوة (تلة عالية)، تحيط بها وديان وجبال، كأنها سوار حول معصم أو سياج يقيه (يحميه) من الحيوانات الشرسة.. ولم يكن يأتي من خارج المزرعة أحد سوى طيور صغيرة لطيفة وديعة (هادئة ساكنة)، تشرب ماء من البحيرة وتأكل بعض الحبوب ثم ترحل..
لكنَّ بعض كبار السن من الدجاج يقصّ حكايات قديمة، يظنّ كثير من الدجاج أنها من نسج الخيال.. ولم تكن الدجاجات وخصوصاً الصغيرات منها تعتقد بأنّ هناك مخلوقات حية تأكل مخلوقات حية مثلها، أو تضمر الشرَّ للآخرين.
****
كانت حياة الدجاج آمنة مطمئنة.. يزرع بسمات في دروبه كما يزرع أنواعاً متنوعة من الحبوب والخضار التي يحبها في بستانه الأخضر، لا يضيع دقيقة واحدة من وقته دون عمل.
لم يكن يكدّر صفوَ عيشه شيء.. المكان واسع رحب، والطبيعة لطيفة هادئة، الطقس معتدل معظم أيام السنة، الماء متوافر طوال العام، والطعام لذيذ متنوع.. الدجاج يتعامل فيما بينه باحترام وحب شديدين، الصغير يوقر (يجل ويحترم) الكبير، الكبير يرحم الصغير..
*****
لكن الحياة لا تدوم على حال..
ففي أحد الأصباح (جمع صباح)، وكان يظنه الدجاج صباح يوم عادي، لم يترقب (ينتظر) فيه سوءاً.. اجتاحت عاصفة رملية هوجاء (رِيحٌ هَوْجَاءُ: مُتَدَارِكَةُ الْهُبُوبِ كَأَنَّ بِهَا هَوَجاً، أَي حُمْقاً، طَيْشاً) المرج الجميل فجأة ودون أن يظهر في الأفق ما ينذر بالخطر..
كانت العاصفة شديدة جداً.. صارت تشتدّ وتتصاعد.. لم تترك شجرة صغيرة ولا ضعيفة إلا وقلعتها من جذورها، ولا نبتة على الأرض إلا وغمرتها بالرمال، وطمرت (دفنت) بحيرة الماء العذبة وحولتها إلى أوحال.. وحطمت بيوت الدجاج كلها، ولم تغادر المكان إلا بعد أن حولته الى خراب..
*****
الدجاج فوجئ بالعاصفة، لم يألف (يعرف) مثلها من قبل، ولم يستعد ببناء مخابئ وبيوت قوية، أو حتى مخازن لطعامه وحبوبه تحت الأرض.. بل كان يعيش في بساطة وكأنَََّ سوءاً لن يحدث في يوم من الأيام...
استطاع معظم الدجاج الاحتماء بجذوع الأشجار الضخمة الكبيرة القوية، التي صمدت لوحدها أمام العاصفة، وما أن انحسرت الرمال قليلاً وبدأت الرؤية تتضح، لم يكن الدجاج حتى اللحظة يفقه (فقه الأمرَ: فهِمه بعد جهل وأدركه بعد تفكير) ما حدث؟ كان الأمر كابوساً لا يمكن تصديقه، فكل ما بناه في سنين طويلة ضاع في لحظات..
*****
هبَّ الدجاج (ثار وهاج) بجنون يتفقد الواقع الجديد.. يبحث عن أقاربه.. كلُّ عائلة منهمكة بالبحث عن أفرادها، وبعد أن تطمئن باكتمال عددها والـتأكد من سلامة أفردها، تبدأ بالسؤال عن جيرانها وأصحابها وسائر الدجاج الذي يقطن المزرعة التي تحولت فجأة وبلحظات الى أشلاء (قطع مبعثرة)..
اكتشفت بعض أسر الدجاج أنها فقدت عزيزاً من أفرادها وخاصة من الصغار، حملتهم الريح الى المجهول..
صار الجميع يعدو (يركض) في كل اتجاه بحثاً عن مفقودين، أو يتبع أصواتاً هنا أو هناك، من قريب أو بعيد، فوق شجرة أو تحت الرمال، ويعود البعض حاملاً على ظهره دجاجة صغيرة منهوكة (متعبة تعبا شديداً) أو كتكوتاً جريحاً.. وكان الجميع يعمل لإنقاذ من يمكن إنقاذه وإسعافه.
مضت ساعات والوضع على هذه الحال حتى غربت شمس ذلك النهار.. واشتدّ ظلام الليل، واضّطر الدجاج (لم يجد مفراً) للسكون والرقاد (النوم)، بعد أن أضناه التعب (أضر به) وأضمره (أضعفه) الجوع..
****
في صباح اليوم التالي استيقظ الدجاج على مصيبته.. كلّ شيء في مزرعته الجميلة أبيد (اختفى) تماماً، وبعض الكتاكيت والدجاجات الصغيرات فقدوا.. والبعض الآخر أصيب بِجُروح وكسور..
أما البيض الذي كان منتشراً في كل زوايا المرج فقد تمزقت قشوره الضعيفة وتناثر (تفرق) ما في داخله مع هبوب الريح ..
صبر الدجاج على ما أصابه من شدة ومحنة، حمد ربه على ما أصابه من مصيبة، لأنها لم تكن أكبر من ذلك، وقرر البدء فوراً بالبحث عن طعام وشراب ليقوي جسمه ويتمكن من البحث عن المفقودين..
صار الدجاج يدور في كل مكان يبحث عن بقايا طعام منثور، يحفر الأرض بأظفاره الضعيفة، يأكل بعض أوراق الأشجار وفيها بقايا ماء...
*****
معالم المزرعة تغيّرت تماماً، ولولا بعض أشجار كبيرة قوية صمدت أمام العاصفة لظنّ نفسَه في مكان آخر.. وراح الدجاج يبحث عن واحة الماء التي كانت تتوسط المرج.. لكن الواحة تحولت الى أوحال ورمال..
بعض الدجاج كان ظامئاًً (من الظمأ وهو العطش) إلى حد الموت.. خاطر بنفسه وراح يشرب قطيرات ماء ممزوجة برمال على صفحة الواحة.. كان منظراً محزناً، لكن الدجاج لم يستسلم، أسرع يحفر في الأرض قرب الواحة، تجمّع أكبر عدد من الدجاج، صار يحفر في الأرض بكل ما تبقى لديه من قوة، أملاً بماء قليل ينساب عبر جدار الواحة وقد صفا من الرمال إلى حد يمكن شربه..
وتمكن الدجاج بعد جهد من حفر بئر صغيرة، تجمع فيها ماء قليل، لكنه كان كافياً ليروي الظمأ، رغم تغيُّر لون الماء وطعمه وامتزاجه بقليل من الرمل، فعند العطش والجوع لا يعود هناك مجال للاختيار أو للشكوى..
*****
في هذه اللحظات بدأ الدجاج يدرك واقعه الجديد.. وأنّ عليه أن يعيد بناء مزرعته من جديد، أو الرحيل الى مكان آخر يكون العيش ممكناً فيه..
ولكن قبل كل شيء عليه تكرار البحث عن المفقودين.. فقام الدجاج من استراحته وانطلق يبحث ويدور في كل مكان.. ثم عاد ليحصي عدد الدجاج المفقود فاكتشف فقدان خمسة كتاكيت وثلاث دجاجات صغيرات.. وبعد بحث متواصل طوال اليوم .. يئس الدجاج وقرر وقف البحث متمنياً أن تكون الريح قد حملت المفقودين وخاصة الكتاكيت الصغار إلى مكان آمن لا يتعرضون فيه للأخطار، وأن لا يكون أي سوء لحق بهم..
****
في هذا الوقت اجتمع كبار السن من الدجاج لبحث الوضع الجديد... وكان يظن أن البعض سيقترح مغادرة المكان لأنه لم يعد صالحاً للسكن.. لكن الأصوات ارتفعت مؤكدة الرغبة في البقاء في المكان مهما كانت الظروف وإعادة البستان الى سابق عهده..
"لكن الأمر ليس بهذه البساطة والسهولة".. قالت دجاجة حكيمة..
"الأمر يحتاج الى سنوات طويلة، ومع ذلك لا نستطيع مغادرة بستاننا الذي أصبح اليوم ذكرى جميلة".. قالت دجاجة حكيمة أخرى..
الدجاج أصر على البقاء وعدم نكران جميل هذا المكان، وأعلن الرغبة بإعادته كما كان في الماضي وأفضل، لأنّه "حقٌٌّ من حقوقه.. أخذنه مرجاً أخضر وزهوراً ملونة عطرة.. فكيف نتركه خراباً نكرةً؟"..
وكان الرأي الوحيد البقاء في المكان وإعادته جميلاً كما كان..
*****
نظر الجميع إلى كبير الدجاج.. الديك المميز بلونه الأحمر وعرفه الضخم.. أكبر الدجاج سناً ومكانة.. صاحب الكلمة النهائية... الذي ظل طوال الوقت متأملاً..
نظر الديك العجوز إلى الدجاج، وراح ينقل بصره في أرجاء المكان الخرب.. ثم قال بصوت هادئ فيه قوة وثقة وإيمان: كنت واثقاً أنكم لن تطلبوا مغادرة المكان.. فالموت مع العاصفة أهون عندي من مغادر البستان الذي قضيت حياتي فيه.. سعيد أنا بقراركم.. ولنبدأ العمل من هذه اللحظة بالعمل..
******
فرح الدجاج جميعاً بهذا القرار السديد.. وقام فوراً بتنظيم العمل وتوزيعه فيما بينه...
كان بعضه خبيراً بهندسة البيوت، والبعض الآخر بالزراعة، والصناعة، والتربية، وإعداد الطعام...
كان الماء الخاص بالشرب أكبر مشكلة، وعليه أن يجد حلاً سريعاً لها، فالتجربة جديدة وصعبة، ولم يمر بمثلها من قبل.
انشغل الدجاج بالعمل، يريد أن ينتهي بأسرع وقت وبأفضل ما يستطيع إنجازه.. فوجد أنه من الأفضل البدء بإعداد البيوت، ورأى أن يعيد بناء مزرعته بشكل أكثر تنظيماً من السابق، وأن يعمل الجميع ضمن فريق واحد ويتم التنفيذ بيتاً بيتاً.. وأن يبني البيوت بطريقة قوية صلبة، حماية له من أي خطر مثل الذي حدث...
******
بعد أيام قليلة، وفيما الدجاج منهمك بالعمل.. صاح ديك يافع بأعلى صوته صيحة تحذير من عدو قادم لم يألفه الدجاج من قبل.. مجموعة سباع تصعد الربوة ومن عيونها يتصاعد الشرر.
بدأ الدجاج يقفز في كل اتجاه، ساعدته أجنحته بالقفز والطيران قليلاً من شدة الرعب ليصل الى أغصان الشجر التي تنتصب بقوة في أرجاء البستان، فلم يكن الدجاج قد أنتهى من بناء بيوته بعد.. وتمكن الدجاج من الوصول الى أعالي الشجر قبل وصول السباع.. التي بدأت تصيح من شدة الجوع بعد أن رأت الدجاج الطيب اللذيذ بعيداً عن متناولها...فأصيبت بالجنون وحاولت تسلق الأشجار لكن هيهات للسباع أن تتسلق الأشجار..
السباع التي جاءت الى المكان أصابها من العاصفة مثل ما أصاب الدجاج.. فغادرت موطنها بحثاً عن طعام.. وقضت فترة طويلة دون أن تأكل ما يسد جوعها وتشرب ما يروي عطشها.. حتى وصلت الى الربوة ورأت كل هذا الدجاج.. لكنّ سرعة الدجاج وتنبهه وتسلقه أعالي الشجر بسرعة كان منقذاً له من براثن (أظفار) السباع..
*****
انتظرت الذئاب طويلاً.. ربما تقع دجاجة من شجرة أو يحدث شيء ما.. الدجاج جاع هو أيضاً، وراح يأكل عروق الأغصان الخضراء.. قد لا يكون طعاماً لذيذاً ولا يشبه طعم الحنطة.. لكنه يسد الجوع ويخفف العطش..
أدركت الذئاب ألا أمل من بقائها، وأنّها ستموت من الجوع لو طال انتظارها.. عندها قررت المغادرة بحثاً عن فرائس (جمع فريسة وهي صيد السباع) أخرى...
******
انتظر الدجاج وقتاً طويلاً حتى تأكد من مغادرة الذئاب المنطقة بكاملها.. وراقب السباع بعدما هبطت من الربوة الى الوادي وعادت وتسلقت الجبال المحيطة حتى اختفت خلفها.. فاطمأنت ونزلت من الأشجار..
أصيب الدجاج بصدمة شديدة.. هذه أول مرة يشاهد فيها مثل هذه الحيوانات المفترسة..
قرر الدجاج بعد تشاور أن تكون هناك مراقبة دائمة بالتناوب على زوايا الربوة، وفي جميع اتجاهاتها لترقب وصول أي خطر.. خوفاً من تجربة مماثلة، وربما لا يستطيع عندها أن ينجو بنفسه كما حدث هذه المرة..
وقرر الدجاج أيضاً أن يعد لنفسه بيوتاً أصلب وأقوى، كما تقيه من خطر العواصف فإنها تقيه من خطر الوحوش...
وطلب كبير الدجاج من المهندسين أن يفكروا بطريقة تجعل عملية تسلق الأشجار سريعة وسهلة وخاصة لصغار السن حماية لهم من الخطر.. بانتظار الانتهاء من بناء البيوت والملاجىء وتجهيزها.
******
وبعد أيام قليلة من عمل مستمر دؤوب (فيه جدّ وتعب).. أنهى الدجاج عمله في بناء البيوت القوية والملاجىء الآمنة، وكانت أجمل من بيوته القديمة وأكثر تنظيماً وصلابةً واتساعاً.. وبنى سوراً صخرياً عالياً، وأبراج مراقبة تطلّ على كل طرق الربوة وجنباتها.. وزرع في بأرضه الخصبة أطيب أنواع المزروعات المحببة للدجاج... وحفر بئراً كبيرة صنع لها غطاءً من غصون الشجر حماية لها من رمال العواصف.. وتحسباً من أن يسقط داخل البئر كتكوت أو دجاجة صغيرة.. وبنى سوراً عالياً يحمي مزروعاته وأرضه من كل خطر..
******
عاش الدجاج بعدها في ربوته الآمنة.. مرت عليه فترات أمن وفترات شدّة.. لم تتمكن رياح بعدها من قلع بيوته ولا طمر مياهه، ولا تدمير زرعه.. ولم تجرؤ السباع على الاقتراب من الربوة التي تحولت الى قلعة حصينة..