مہجہرد إنہسہآن
ادارة الموقع
سمية رمضان أحمد
وجدت على شاشة هاتفي رقماً يلح في طلبه، وقد اتصل صاحبه عدة مرات، في وقت غفلت فيه عن هاتفي بمتطلبات الحياة، وأثناء فحصي للرقم وجدت الشاشة تنبض بضوء يظهر معه نفس الرقم مع الصوت المعهود للإعلان عن وجود من يريد التواصل، أجبت يسبقني فضولي، وكانت على الطرف الآخر متهللة فرحة، وكأنها - كما يقولون - «فتحت عكا»: «أختاه لقد فعلتها، أخيراً فهمتها، كم كانت لحظات رائعة، كم وددت وجودك معنا» هكذا كانت تردد.
هدأت من تسارع أفكارها لتنتظم في عقدها حتى أستطيع استيعاب ما تقول، فوضعت فرامل التأني على العجلة، وبدأت تمسك بكرتها من أول الخيط؛ لعلها تنسج ما نستطيع الانتفاع به، وسأفتح السماعة الخارجية حتى تشاركوا معي سماع مكالمتها، قالت بثقة وهدوء: طالما سمعتك وأنت تتكلمين عن التحرك بالكتاب والسُّنة، وحقاً كنت لا أستطيع بالتحديد كيفية فعل ذلك، حتى هذا الصباح المشرق والذي من بدايته ستتغير حياتي برمتها. آية تقود إنني معتادة السير لمدة ساعة في كل صباح بعيد شروق الشمس، لأعين جسدي على حمل السنين، وتقلبات الزمن بأعضائه، وكان منزلي يطل على شاطئ، واليوم تحديداً، أردت لآية قرأتها في صلاة الفجر، أن تكون هي المتصرفة والقائدة لنفسي، فسلمت إياها ناصيتي: { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)}(الحشر). لقد توقفت عند تلاوتها، وأردت لنفسي أن تأتمر بأمرها، وكأن الآية هي التي ستتحرك بي في يومي ذاك، فما رأيت إلا وهي (الآية) تفتح المجمد (الفريزر)، لتخرج منه الكثير والكثير من الطعام المتبقي من وجباتنا سواء الجاهزة أو المصنوعة بالمنزل، ومنه ما كان الأولاد يدخرونه وكثيراً ما ينسونه، وبدأت في إعادة تسخين ما أخرجت، وتغليفه بشكل رائع، كوجبات، ووجدت نفسي أحمل الحقيبة التي أعدتها الآية بنفسها، لأخرج بها إلى من هم في حاجة حقيقية إليها، ممن أراهم من العمال الفقراء يومياً، وخرجت بها وهي ثقيلة وقد تصورت أني سأجد فوراً من يحمل هذا العبء عني، وأخذت أبحث عن العمال الذين كنت أراهم على الدوام، ولكني لم أجد أثراً لأي منهم، فيبدو أنني تأخرت قليلاً عند تحضير الوجبات.
الرزق يطلب: حملت الحقيبة الثقيلة وسرت لأبحث عن مبتغاي، فرأيت من بعيد أحد عمال النظافة، فتسارعت قدماي بالمسير لألحق به، وكلما أسرعت برزقه الذي ساقه الله إليه أسرع هو بالمسير في الاتجاه الآخر ربما بحثاً عن لقمة يفطر بها ليستطيع إكمال يومه، فهرولت لعله ينقذني من هذا الحمل، وهو يهرول في الاتجاه المعاكس، وتذكرت قول الشاعر دعبل الخزاعي عن الرزق كأنه يصف هذا الموقف: أسعى لأطلبه والرزق يطلبني والرزق أكثر لي مني له طلبا فقد كنت حقاً أكثر منه حرصاً لألحقه، وعندما تباعد، توقفت قدماي عن الهرولة، وبدأت في المسير، وقد تصاعدت دقات قلبي تطالبني ونفسي يلهث بالتوقف قليلاً وأخذ قسط من الراحة. أخذت عيناي تدور في كل مكان تبحث عمن يحمل عني حملي، وتذكرت أحمال الآخرة وصدى نفسي يردد: اللهم سلم، اللهم سلم، فرأيت من بعيد أحدهم قريباً من مياه الشاطئ ينثني ليحمل مخلفات الناس الملقاة على الشاطئ، ثم ينثني ثانية، وهكذا على الدوام، نظرت إلى المسافة البعيدة التي تفصل بينه وبين رزق الله الذي سخرني لحمله حتى مكانه، وبلا حول ولا قوة منه، واستعنت بالله وبدأت المسير وأنا أردد: الله أكبر، فهو سبحانه أكبر من قدراتي وقوة تحملي، وكلما رددت: الله أكبر؛ أجد قوة تشد من أزر قوتي، ووصلت إلى مبتغاي، ولكن ما زالت رمال الشط تحول بيني وبين الوصول إلى حيث يقف العامل، نظرت إلى الرمال المتعرجة، وشعرت بالحمل الثقيل الذي أحمله، فقالت لي الآية: لا تهتمي، فأنتِ من المفلحين في كل أحوالك ما دمت تدثرتِ بمعنى الآية، وجعلتِها تحركك لتحقيق مآربها في الحياة، وقالت لي نفسي: ومفاصلك التي تؤلمك، فزجرتها قائلة: لعل مسافة أخرى فيها شفاؤها، واستعنت بخالقي سبحانه، ودخلت حيث أمواج الرمال، وأنا أكبِّر حتى وصلت للرجل. ألقيت عليه السلام وأنا أناوله الحقيبة كلها، لم أستثنِ منها شيئاً لغيره، فرد السلام وهو يقول: الحمد لله، فقد وضعت مخلفاتكم في كيس بدلاً من هذه الفوضى على الشاطئ التي تحمّل ظهري ما لا يطيق، فأمس كانت إجازة والجميع يلقي ولا يحسب لظهورنا حساباً، اغرورقت عيناي بالدموع، فكم نسيء لهؤلاء، وكل منا يتصور أنه يلقي وريقة صغيرة، ثم تكون معاناة لمثل هؤلاء، ثم قلت له مبتسمة: هذا طعام لك أخي، فأخذ يردد: الحمد لله، الحمد الله، وأنا أرددها، فقد كان حملي أنا الثقيل وقد انزاح عني ويسَّر الله من حمله مني، ولعل الحمد لله التي يرددها هذا الرجل بلا انقطاع، هي سبب تسخير الله لي، لأحمل له طعامه كل هذه المسافة، ورددت بعد أن خف حملي: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأخذت نفَساً عميقاً، ورجعت خفيفة إلى بيتي. ومازالت الآية هي المسيطرة، ففتحت خزانة ملابسي لوضع ثيابي، فإذا بالآية تخرج منها كل ما هو غير مستعمل لسنوات ويفيض عن حاجتي، وكذلك فعلت في كل مكان بالمنزل، من أطباق غير مستعملة، ومناضد موضوعة مع المخلفات (الكراكيب)؛ لعدم وجود مكان لها بالمنزل؛ ولأنها فوق احتياجاتنا، ولكننا نتركها ومثيلاتها من أغراضنا لعلنا نحتاجها يوماً ما، وعند احتياجنا لها نبحث عنها في هذه الفوضى ولا نجدها، فنذهب لنشتري غيرها والكراكيب في مكانها. حديث الذاكرة كانت تتكلم وبساط الذاكرة يحملني إلى حيث رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، وفهمه وتطبيقه للقرآن عامة، ومنه بالطبع هذه الآية، عندما تخطى رؤوس الصحابة وهرول لمنزله، فقد تذكر تبراً من الذهب لم يتم توزيعه بعد، وبالرغم من أنه كان له خمس الغنائم وما أكثرها، توفي النبي "صلى الله عليه وسلم" وهو لا يمتلك شيئاً من هذه الأموال الطائلة، حيث كان يعطيها أولاً بأول للمسلمين، وبهذا وصفه عبدالله بن عباس رضي الله عنهما حين قال: «كان رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسول الله "صلى الله عليه وسلم" أجود بالخير من الريح المرسلة»(رواه البخاري).
وكذلك وصفه شوقي:
فإذا سخوت بلغت بالجود المدى وفعلت ما لا تفعل الأنواء
وسار على منواله الكثير والكثير من صحابته الكرام الذين تربوا على منهجه وعايشوا خُلقه وسُنته؛ فأبو بكر الصديق رضي الله عنه، فهم الآية وسيطرت بنورانيتها على أفعاله، فقد أنفق جل ماله في مكة على شراء الأرقاء المسلمين وعتقهم، وفي غزوة «العسرة» (تبوك) قدَّم كل ما يملك لرسول الله "صلى الله عليه وسلم"، وعندما سأله "صلى الله عليه وسلم":«ماذا أبقيت لأولادك»، كانت إجابته عجيبة، وقد كتبت على سحائب منيرة: أبقيت لهم الله ورسوله.. ثم نجد عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وهو يتنافس في العطاء قد جاء بنصف ماله فقال له "صلى الله عليه وسلم": «هل أبقيت لأهلك شيئاً؟»، فقال: نعم، نصف مالي. سخاء عثمان أما عثمان رضي الله عنه، فكان سخاؤه وبذله وعطاؤه مضرباً للأمثال: فقد أُثر عنه أنه كان يعتق كل جمعة رقبة في سبيل الله منذ أسلم، فجميع ما أعتقه ألفان وأربعمائة رقبة تقريباً. وبعد الهجرة حين واجهت المسلمين مشكلة الماء الذي يشربونه، اشترى رضي الله عنه «بئر رومة» من اليهود بعشرين ألف درهم، وسبّلها للمسلمين، وكان رسول الله "صلى الله عليه وسلم" قد قال: «من حفر بئر رومة فله الجنة».
وحين ضاق مسجد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" بالمصلين والعبّاد، وتمنى النبي "صلى الله عليه وسلم" أن يشتري أحد أصحابه الأغنياء الأرض المجاورة للمسجد ليضمها إليه، فقال مرغِّباً: «من يشتري هذه البقعة من خالص ماله فيكون فيها كالمسلمين وله خير منها في الجنة؟»، أسرع عثمان واشترى تلك الرقعة من الأرض بخمسة وعشرين ألفاً. وبعد «فتح مكة»، رأى النبي "صلى الله عليه وسلم" أن يوسع المسجد الحرام، فاشترى عثمان أحد البيوت الواسعة الملاصقة للمسجد بعشرة آلاف دينار، وضمه للمسجد الحرام.
أما «جيش العسرة»، فقد جهز عثمان رضي الله عنه ثلث ذلك الجيش فجهزه بتسعمائة وخمسين بعيراً، وخمسين فرساً، وقيل: جاء عثمان بألف دينار في كمه حين جهز فنثرها في حجر رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فقلبها في حجره وهو يقول: «ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم»، وقال: «من جهز جيش العسرة فله الجنة». وآخرون كرام 1. وجاء عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه بمائتي أوقية، وتصدق الكثير من المسلمين يومها كل حسب جهده وطاقته، أما من كان ضيق ذات اليد يمنعه من الإنفاق رغم حبه له وحرصه عليه، فإنه كان يحزن لذلك، وتفيض عيناه بالدموع، ويذكرهم الله سبحانه وتعالى في قرآنه وهو أصدق القائلين: { وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ "92"}(التوبة). ونبهتني نفسي إلى أن الأنصار هم الذين نزلت فيهم الآية التي استدعت هذه الأحداث وحديث الذاكرة: { وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)}(الحشر). وتذكرت كيف سار المسلمون في العصور التالية على منوال أسلافهم، وكيف كانت الأوقاف الإسلامية تعمّ كافة بقاع الإسلام إلى عصرنا الحديث الذي مازال يزخر بأهل الخير والإنفاق، وما شأن أبي بدر عبدالله العلي المطوع - يرحمه الله تعالى - منا ببعيد، الذي كان إحدى علامات الخير والسخاء الرائدة في الكويت.
عود على بدء بسرعة قفزت من مركبة الزمن وحديث الذاكرة، والأخت تقول لي: أين ذهبتِ، ألا تسمعينني؟ قلت: ذهبت إلى حيث عباد الله الصالحين، لأستنشق عبير تطبيق الآية على أصولها، وخيراً فعلتِ، وجزاك الله خيراً، ثم قالت بنبرة متهللة: لقد كان يوماً رائعاً، تخلصت فيه من أثقال البيت كما تخلصت فيه منذ الصباح من أثقال الحقيبة إياها، وجعلتني الآية أحترم نفسي، فهكذا يجب أن أكون، وألقيت على الآية تحية ورجوتها، ألا تتركني لضعفي وشح نفسي، وقررت منذ اليوم بعد فهمي لكيفية التحرك بالخير المسجل على صفحات تحتاج لمن يتشرب بها في الأفعال والأقوال، أنني في كل يوم سأجعل لآية من آيات القرآن أو لحديث من أحاديث الرسول "صلى الله عليه وسلم"، أن يحل محلي في الحركة على هذه الأرض حتى تنتهي مدة حياتي، فتؤنس الأفعال التي تتحرك بهذه الآيات والأحاديث قبري حتى يحين موعد بعثرة القبور، حينها أرجو أن أكون مع من صادقتهم في حياتي من آيات الرحمة تحت ظل العرش مسبحات لصاحبه سبحانه.. قلت لها مغتبطة: اللهم آمين، كم أثَّرت كلماتك في نفسي، وكم تعلمت مما ذكرتِ، وسأحاول أن أسلم ناصيتي لآيات الله كما فعلتِ بهذه الكيفية الرائعة. عبرة وأمل أخذني التفكير، وقد استشعرت بقلبي فرحة الأخت بفعلها مع فوائضها، وما هي في استغناء عنه، ووصلني انتشاء من نالوا البر، بالنفقة مما يحبون، فهذه هي السعادة التي تمكث بالقلب، لا تغادره ولو غادرنا الدنيا.
فماذا علينا في هذا الشهر الكريم لو أنفقنا كل يوم لنتدرب، القليل القليل مما نحب، من مال وطعام وملابس وغيرها لندخرها في الآخرة الباقية الخالدة، نضع في بيوتنا المقتنيات، ونزخرفه بالورود، وتفوح منه رائحة البخور، فلو قليلاً مما هو موجود نجعله في بيت الخلود لعل الله يسعد قلوبنا، والسكينة، تغشانا، ورحمة الله تشملنا، والطمأنينة تصبح لباسنا، ولعلنا نعيش ولو لحظة واحدة من الفرحة بما أنفقنا مما نحب متأسين بسيدنا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وصحابته الكرام.
وجدت على شاشة هاتفي رقماً يلح في طلبه، وقد اتصل صاحبه عدة مرات، في وقت غفلت فيه عن هاتفي بمتطلبات الحياة، وأثناء فحصي للرقم وجدت الشاشة تنبض بضوء يظهر معه نفس الرقم مع الصوت المعهود للإعلان عن وجود من يريد التواصل، أجبت يسبقني فضولي، وكانت على الطرف الآخر متهللة فرحة، وكأنها - كما يقولون - «فتحت عكا»: «أختاه لقد فعلتها، أخيراً فهمتها، كم كانت لحظات رائعة، كم وددت وجودك معنا» هكذا كانت تردد.
هدأت من تسارع أفكارها لتنتظم في عقدها حتى أستطيع استيعاب ما تقول، فوضعت فرامل التأني على العجلة، وبدأت تمسك بكرتها من أول الخيط؛ لعلها تنسج ما نستطيع الانتفاع به، وسأفتح السماعة الخارجية حتى تشاركوا معي سماع مكالمتها، قالت بثقة وهدوء: طالما سمعتك وأنت تتكلمين عن التحرك بالكتاب والسُّنة، وحقاً كنت لا أستطيع بالتحديد كيفية فعل ذلك، حتى هذا الصباح المشرق والذي من بدايته ستتغير حياتي برمتها. آية تقود إنني معتادة السير لمدة ساعة في كل صباح بعيد شروق الشمس، لأعين جسدي على حمل السنين، وتقلبات الزمن بأعضائه، وكان منزلي يطل على شاطئ، واليوم تحديداً، أردت لآية قرأتها في صلاة الفجر، أن تكون هي المتصرفة والقائدة لنفسي، فسلمت إياها ناصيتي: { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)}(الحشر). لقد توقفت عند تلاوتها، وأردت لنفسي أن تأتمر بأمرها، وكأن الآية هي التي ستتحرك بي في يومي ذاك، فما رأيت إلا وهي (الآية) تفتح المجمد (الفريزر)، لتخرج منه الكثير والكثير من الطعام المتبقي من وجباتنا سواء الجاهزة أو المصنوعة بالمنزل، ومنه ما كان الأولاد يدخرونه وكثيراً ما ينسونه، وبدأت في إعادة تسخين ما أخرجت، وتغليفه بشكل رائع، كوجبات، ووجدت نفسي أحمل الحقيبة التي أعدتها الآية بنفسها، لأخرج بها إلى من هم في حاجة حقيقية إليها، ممن أراهم من العمال الفقراء يومياً، وخرجت بها وهي ثقيلة وقد تصورت أني سأجد فوراً من يحمل هذا العبء عني، وأخذت أبحث عن العمال الذين كنت أراهم على الدوام، ولكني لم أجد أثراً لأي منهم، فيبدو أنني تأخرت قليلاً عند تحضير الوجبات.
الرزق يطلب: حملت الحقيبة الثقيلة وسرت لأبحث عن مبتغاي، فرأيت من بعيد أحد عمال النظافة، فتسارعت قدماي بالمسير لألحق به، وكلما أسرعت برزقه الذي ساقه الله إليه أسرع هو بالمسير في الاتجاه الآخر ربما بحثاً عن لقمة يفطر بها ليستطيع إكمال يومه، فهرولت لعله ينقذني من هذا الحمل، وهو يهرول في الاتجاه المعاكس، وتذكرت قول الشاعر دعبل الخزاعي عن الرزق كأنه يصف هذا الموقف: أسعى لأطلبه والرزق يطلبني والرزق أكثر لي مني له طلبا فقد كنت حقاً أكثر منه حرصاً لألحقه، وعندما تباعد، توقفت قدماي عن الهرولة، وبدأت في المسير، وقد تصاعدت دقات قلبي تطالبني ونفسي يلهث بالتوقف قليلاً وأخذ قسط من الراحة. أخذت عيناي تدور في كل مكان تبحث عمن يحمل عني حملي، وتذكرت أحمال الآخرة وصدى نفسي يردد: اللهم سلم، اللهم سلم، فرأيت من بعيد أحدهم قريباً من مياه الشاطئ ينثني ليحمل مخلفات الناس الملقاة على الشاطئ، ثم ينثني ثانية، وهكذا على الدوام، نظرت إلى المسافة البعيدة التي تفصل بينه وبين رزق الله الذي سخرني لحمله حتى مكانه، وبلا حول ولا قوة منه، واستعنت بالله وبدأت المسير وأنا أردد: الله أكبر، فهو سبحانه أكبر من قدراتي وقوة تحملي، وكلما رددت: الله أكبر؛ أجد قوة تشد من أزر قوتي، ووصلت إلى مبتغاي، ولكن ما زالت رمال الشط تحول بيني وبين الوصول إلى حيث يقف العامل، نظرت إلى الرمال المتعرجة، وشعرت بالحمل الثقيل الذي أحمله، فقالت لي الآية: لا تهتمي، فأنتِ من المفلحين في كل أحوالك ما دمت تدثرتِ بمعنى الآية، وجعلتِها تحركك لتحقيق مآربها في الحياة، وقالت لي نفسي: ومفاصلك التي تؤلمك، فزجرتها قائلة: لعل مسافة أخرى فيها شفاؤها، واستعنت بخالقي سبحانه، ودخلت حيث أمواج الرمال، وأنا أكبِّر حتى وصلت للرجل. ألقيت عليه السلام وأنا أناوله الحقيبة كلها، لم أستثنِ منها شيئاً لغيره، فرد السلام وهو يقول: الحمد لله، فقد وضعت مخلفاتكم في كيس بدلاً من هذه الفوضى على الشاطئ التي تحمّل ظهري ما لا يطيق، فأمس كانت إجازة والجميع يلقي ولا يحسب لظهورنا حساباً، اغرورقت عيناي بالدموع، فكم نسيء لهؤلاء، وكل منا يتصور أنه يلقي وريقة صغيرة، ثم تكون معاناة لمثل هؤلاء، ثم قلت له مبتسمة: هذا طعام لك أخي، فأخذ يردد: الحمد لله، الحمد الله، وأنا أرددها، فقد كان حملي أنا الثقيل وقد انزاح عني ويسَّر الله من حمله مني، ولعل الحمد لله التي يرددها هذا الرجل بلا انقطاع، هي سبب تسخير الله لي، لأحمل له طعامه كل هذه المسافة، ورددت بعد أن خف حملي: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأخذت نفَساً عميقاً، ورجعت خفيفة إلى بيتي. ومازالت الآية هي المسيطرة، ففتحت خزانة ملابسي لوضع ثيابي، فإذا بالآية تخرج منها كل ما هو غير مستعمل لسنوات ويفيض عن حاجتي، وكذلك فعلت في كل مكان بالمنزل، من أطباق غير مستعملة، ومناضد موضوعة مع المخلفات (الكراكيب)؛ لعدم وجود مكان لها بالمنزل؛ ولأنها فوق احتياجاتنا، ولكننا نتركها ومثيلاتها من أغراضنا لعلنا نحتاجها يوماً ما، وعند احتياجنا لها نبحث عنها في هذه الفوضى ولا نجدها، فنذهب لنشتري غيرها والكراكيب في مكانها. حديث الذاكرة كانت تتكلم وبساط الذاكرة يحملني إلى حيث رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، وفهمه وتطبيقه للقرآن عامة، ومنه بالطبع هذه الآية، عندما تخطى رؤوس الصحابة وهرول لمنزله، فقد تذكر تبراً من الذهب لم يتم توزيعه بعد، وبالرغم من أنه كان له خمس الغنائم وما أكثرها، توفي النبي "صلى الله عليه وسلم" وهو لا يمتلك شيئاً من هذه الأموال الطائلة، حيث كان يعطيها أولاً بأول للمسلمين، وبهذا وصفه عبدالله بن عباس رضي الله عنهما حين قال: «كان رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسول الله "صلى الله عليه وسلم" أجود بالخير من الريح المرسلة»(رواه البخاري).
وكذلك وصفه شوقي:
فإذا سخوت بلغت بالجود المدى وفعلت ما لا تفعل الأنواء
وسار على منواله الكثير والكثير من صحابته الكرام الذين تربوا على منهجه وعايشوا خُلقه وسُنته؛ فأبو بكر الصديق رضي الله عنه، فهم الآية وسيطرت بنورانيتها على أفعاله، فقد أنفق جل ماله في مكة على شراء الأرقاء المسلمين وعتقهم، وفي غزوة «العسرة» (تبوك) قدَّم كل ما يملك لرسول الله "صلى الله عليه وسلم"، وعندما سأله "صلى الله عليه وسلم":«ماذا أبقيت لأولادك»، كانت إجابته عجيبة، وقد كتبت على سحائب منيرة: أبقيت لهم الله ورسوله.. ثم نجد عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وهو يتنافس في العطاء قد جاء بنصف ماله فقال له "صلى الله عليه وسلم": «هل أبقيت لأهلك شيئاً؟»، فقال: نعم، نصف مالي. سخاء عثمان أما عثمان رضي الله عنه، فكان سخاؤه وبذله وعطاؤه مضرباً للأمثال: فقد أُثر عنه أنه كان يعتق كل جمعة رقبة في سبيل الله منذ أسلم، فجميع ما أعتقه ألفان وأربعمائة رقبة تقريباً. وبعد الهجرة حين واجهت المسلمين مشكلة الماء الذي يشربونه، اشترى رضي الله عنه «بئر رومة» من اليهود بعشرين ألف درهم، وسبّلها للمسلمين، وكان رسول الله "صلى الله عليه وسلم" قد قال: «من حفر بئر رومة فله الجنة».
وحين ضاق مسجد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" بالمصلين والعبّاد، وتمنى النبي "صلى الله عليه وسلم" أن يشتري أحد أصحابه الأغنياء الأرض المجاورة للمسجد ليضمها إليه، فقال مرغِّباً: «من يشتري هذه البقعة من خالص ماله فيكون فيها كالمسلمين وله خير منها في الجنة؟»، أسرع عثمان واشترى تلك الرقعة من الأرض بخمسة وعشرين ألفاً. وبعد «فتح مكة»، رأى النبي "صلى الله عليه وسلم" أن يوسع المسجد الحرام، فاشترى عثمان أحد البيوت الواسعة الملاصقة للمسجد بعشرة آلاف دينار، وضمه للمسجد الحرام.
أما «جيش العسرة»، فقد جهز عثمان رضي الله عنه ثلث ذلك الجيش فجهزه بتسعمائة وخمسين بعيراً، وخمسين فرساً، وقيل: جاء عثمان بألف دينار في كمه حين جهز فنثرها في حجر رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فقلبها في حجره وهو يقول: «ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم»، وقال: «من جهز جيش العسرة فله الجنة». وآخرون كرام 1. وجاء عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه بمائتي أوقية، وتصدق الكثير من المسلمين يومها كل حسب جهده وطاقته، أما من كان ضيق ذات اليد يمنعه من الإنفاق رغم حبه له وحرصه عليه، فإنه كان يحزن لذلك، وتفيض عيناه بالدموع، ويذكرهم الله سبحانه وتعالى في قرآنه وهو أصدق القائلين: { وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ "92"}(التوبة). ونبهتني نفسي إلى أن الأنصار هم الذين نزلت فيهم الآية التي استدعت هذه الأحداث وحديث الذاكرة: { وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)}(الحشر). وتذكرت كيف سار المسلمون في العصور التالية على منوال أسلافهم، وكيف كانت الأوقاف الإسلامية تعمّ كافة بقاع الإسلام إلى عصرنا الحديث الذي مازال يزخر بأهل الخير والإنفاق، وما شأن أبي بدر عبدالله العلي المطوع - يرحمه الله تعالى - منا ببعيد، الذي كان إحدى علامات الخير والسخاء الرائدة في الكويت.
عود على بدء بسرعة قفزت من مركبة الزمن وحديث الذاكرة، والأخت تقول لي: أين ذهبتِ، ألا تسمعينني؟ قلت: ذهبت إلى حيث عباد الله الصالحين، لأستنشق عبير تطبيق الآية على أصولها، وخيراً فعلتِ، وجزاك الله خيراً، ثم قالت بنبرة متهللة: لقد كان يوماً رائعاً، تخلصت فيه من أثقال البيت كما تخلصت فيه منذ الصباح من أثقال الحقيبة إياها، وجعلتني الآية أحترم نفسي، فهكذا يجب أن أكون، وألقيت على الآية تحية ورجوتها، ألا تتركني لضعفي وشح نفسي، وقررت منذ اليوم بعد فهمي لكيفية التحرك بالخير المسجل على صفحات تحتاج لمن يتشرب بها في الأفعال والأقوال، أنني في كل يوم سأجعل لآية من آيات القرآن أو لحديث من أحاديث الرسول "صلى الله عليه وسلم"، أن يحل محلي في الحركة على هذه الأرض حتى تنتهي مدة حياتي، فتؤنس الأفعال التي تتحرك بهذه الآيات والأحاديث قبري حتى يحين موعد بعثرة القبور، حينها أرجو أن أكون مع من صادقتهم في حياتي من آيات الرحمة تحت ظل العرش مسبحات لصاحبه سبحانه.. قلت لها مغتبطة: اللهم آمين، كم أثَّرت كلماتك في نفسي، وكم تعلمت مما ذكرتِ، وسأحاول أن أسلم ناصيتي لآيات الله كما فعلتِ بهذه الكيفية الرائعة. عبرة وأمل أخذني التفكير، وقد استشعرت بقلبي فرحة الأخت بفعلها مع فوائضها، وما هي في استغناء عنه، ووصلني انتشاء من نالوا البر، بالنفقة مما يحبون، فهذه هي السعادة التي تمكث بالقلب، لا تغادره ولو غادرنا الدنيا.
فماذا علينا في هذا الشهر الكريم لو أنفقنا كل يوم لنتدرب، القليل القليل مما نحب، من مال وطعام وملابس وغيرها لندخرها في الآخرة الباقية الخالدة، نضع في بيوتنا المقتنيات، ونزخرفه بالورود، وتفوح منه رائحة البخور، فلو قليلاً مما هو موجود نجعله في بيت الخلود لعل الله يسعد قلوبنا، والسكينة، تغشانا، ورحمة الله تشملنا، والطمأنينة تصبح لباسنا، ولعلنا نعيش ولو لحظة واحدة من الفرحة بما أنفقنا مما نحب متأسين بسيدنا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وصحابته الكرام.