مہجہرد إنہسہآن
ادارة الموقع
عناصر أهمية طلب العلم (رحلة التوحيد)
1 - العلم الشرعي ضرورة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، خير معلم للبشرية لم تعرف البشرية معلماً قبله ولا بعده خيراً منه صلوات الله وسلامه عليه، ولا عرفت طلاب علم وهدى وحق مثل أصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وصلى عليهم وعلى التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
سأتحدث -إن شاء الله تعالى- في هذا الموضوع عن أهمية طلب العلم، وعما أعده الله تبارك وتعالى للعالم ولطالب العلم من الفضل والأجر والخير العميم؛ لأننا في زمن شغل الناس وفتنوا بالدنيا، وانصرفوا عن الآخرة إلا من رحم الله، ومن جملة وأعظم ما انصرف الناس ورغبوا عنه هو طلب العلم، حتى أن طلاب العلم الذين يطلبون العلم في المدارس يقل عند الكثير منهم الرغبة في طلب العلم، وحتى أن من يحبون أو يحضرون بعض المواعظ -وفيها خير كثير- قد لا يحضرون ولا يرغبون في تعلم العلم الذي يتفقهون به وهو:
أولاً: في العقيدة والتوحيد ومعرفة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو أشرف العلوم.
وثانياً: في معرفة الحلال والحرام الذي به يعبدون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فكم من عابد على جهالة!
وكم من مشرك أو متلبس بشرك يظن أنه على التوحيد!
وكم من مصلٍّ وصلاته باطلة؛ لأنه لا يقيمها ولا يحسنها!
وكم من حاج حجه باطل؛ لأنه لم يقم به وفق ما شرع الله تبارك وتعالى من الأحكام، وكما حج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!
وكيف نعرف ذلك كله؟ إنما نعرفه بالعلم، وبالفقه وبالتفقه في الدين.
والتفقه في الدين أمر شاق، ولكن أجره عظيم، والمتفقهون أو الراغبون في التفقه في الدين قليل؛ ولكنهم كالنجوم في السماء، وهم الذين يهتدى ويقتدى بهم {عالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد } كما صح ذلك عن بعض السلف وروي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فلا شك أن العلم فضله عظيم، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر:9] لا يستويان أبداً؛ حتى في الحيوان لا يستوي المعلَّم وغير المعلَّم، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل الكلاب نجسة، ومعروف أنه إذا ولغ الكلب في إناء أحدنا فإنه يغسله سبعاً إحداهن بالتراب، وما ذلك إلا لنجاسته؛ لكن هذا الحكم وهو النجاسة في لعابه وريقه إذا كان غير معلم، أما لو كان معلَّماً كان كما قال الله تبارك وتعالى: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:4].
والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصل ذلك لـعدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه لما سأله، ففرق له بين ما إذا أرسل كلبه المعلم، وبين ما إذا أرسل كلبه غير المعلم -سبحان الله العظيم!
إذا كان العلم وهو العلم الصحيح النافع يحول الحيوان النجس إلى حيوان تؤكل فريسته التي يصطادها، فبدلاً من أن نغسله سبعاً أولاهن بالتراب, فإننا نأكله هنيئاً مريئاً، ونشكر الله الذي علمنا والذي سخر لنا هذا الحيوان.
فما بالكم بالعلم! كيف يغير في ابن آدم الذي هو أكرم ما خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70] أكرم ما خلق الله هو هذا الإنسان, وكرمه وشرفه بالعلم.
وأكرم من في بني آدم هم العلماء، لأن الأنبياء هم أفضل الخلق وهم أعلم الناس بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا العلم أشرف العلوم جميعاً، ثم من بعدهم كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث أبي الدرداء {ألا وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم }، فالعلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة } فكل ما يتركه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بعده من آنية أو سلاح أو أرض أو متاع فهو صدقة لا يورث، ما الذي ورّث؟ {وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر }.
لهذا فإن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه لما رأى الناس فتحت وتوسعت عليهم الدنيا، ورأى الانكماش في طلب العلم ذهب يصيح: [[أيها الناس! ميراث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقسم في المسجد ]].
ففرحوا لمحبتهم لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كل واحد ترك بضاعته وشغله، وجاءوا يجرون, وكلٌ يريد أن يأخذ مما تبقى من أشيائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن كانت آنية أو أي شيء من سلاحه ولو من شعره، فهذا مما يتبرك به.
جاءوا وجلسوا وإذا به يقول: [[حدثني خليلي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.., فقالوا: أين الميراث يا أبا هريرة ؟! قال: هذا الميراث، ما ورث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا هذا العلم.. وهذا الهدى.. وهذا النور، ونحن إليه أحوج من كل ميراث ]].
وكما ذكر ابن القيم -رحمه الله- أنه قد يعيش الناس بلا أطباء، ويتداووا بما يسر الله لهم من أعشاب أو مما تعارفوا عليه، والمهم أن يكون حلالاً، لكن هل يمكن أن يعيش الناس وتستقر وتهنأ وترغد حياتهم بلا علم أو بلا علماء؟!
لا يمكن؛ ولهذا بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما في الحديث الذي ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن العلم قال: {إن الله لا ينزع العلم انتزاعاً يأخذه من صدور العلماء، ولكن ينزعه بموت العلماء، فإذا مات العلماء اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا }.
ففي آخر الزمان حيث لا يذكر فيه الله، ولا يقال: لا إله إلا الله لقلة العلماء، ليس فيهم عالم يفقههم ويبين لهم.
والجاهلية التي كانت قبل بعثته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محاها الله ببعثته، محاها بالتوحيد وبالوحي والعلم الذي آتاه الله إياه، لكن لها عودة، فترات وتعود، أما الجاهلية المطلقة فإنها لا تعود بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً؛ لأن الله تعالى تكفل وتأذن أنه لابد أن تبقى وتظل طائفة قائمة على هذا الدين حتى يأتي أمر الله، وهو الريح الطيبة التي تقبض أرواح المؤمنين قبيل قيام الساعة، ويبقى شرار الخلق وعليهم تقوم الساعة، فلا يكون ذلك إلا بهلاك أو بذهاب أو باضمحلال أو فقد العلم الذي ينتفع به الناس.
ستظل طائفة على الحق؛ لكن الجاهلية تأتي على طوائف، وعلى مناطق، وعلى أمم، كما كان عندنا في جزيرة العرب ، كانت جزيرة العرب قبل دعوة محمد بن عبد الوهاب -رحمة الله عليه- في ظلام؛ بل إنها رجعت إلى الجاهلية الأولى، حتى بعث الله عز وجل الرجل الذي يجدد هذا الدين -ولله الحمد والفضل والمنة- فيمكن أن تعود الجاهلية في أي مكان، ولكن سرعان ما ترتفع الجاهلية عن هذا المكان أو عن هؤلاء القوم بالعلم؛ لأنه الذي ينور الله تبارك وتعالى به القلوب يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].
والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عندما بين لنا ولخلقه أجمعين أعظم قضية تهم الإنسان في الدنيا فيها أعظم شاهد وأعظم شهداء.
فما هي القضية؟ ومن الشاهد؟ ومن الذين استشهد بهم؟
قال الله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18] أعظم قضية في هذه الدنيا وفي الوجود كله هي: قضية التوحيد، وهي الشهادة لله تعالى بالوحدانية وأنه لا إله إلا هو، وأعظم شاهد هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك بدأ بنفسه الكريمة -سبحان الله- قال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ [آل عمران:18].
ثم ثنى بالملائكة ولا غرابة, فالملائكة عباده المكرمون لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] فجعلهم الله تعالى شهداء.
والثالث: اختار من خلقه شهداء يشهدون معه -وهو أعظم شاهد- في أعظم قضية؛ فلا بد أن هؤلاء المختارين هم خير وأفضل الناس.
ولم يستشهد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالملوك ولا بأهل المناصب والجاه والدنيا، ولا بأهل الأموال، ولا بأهل الأحساب والأنساب الرفيعة؛ لكن قال: وَأُولُو الْعِلْمِ [آل عمران:18] فجعل أعظم الشهود معه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومع ملائكته الكرام هم أهل العلم، ولذلك قال: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ [الشعراء:197]، وكل علماء بني إسرائيل يعلمون أن هذا الدين حق يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146].
لكن وجد منهم من أداها مثل عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فقد أدى الشهادة وشهد أن هذا هو الرسول الذي كنا ننتظره, وشهد أن هذا هو الدين الحق.
2 - حال اليهود وموقف عبدالله بن سلام عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة
أول ما قدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مهاجراً من مكة إلى المدينة ، ظهر وصعد أحد أحبار اليهود وقال: يا بني قيلة! يا بني قيلة! هذا صاحبكم الذي تنتظرون، وهو من أحبار اليهود الذين لم يؤمنوا.
يقول: يا بني قيلة -وهم الأنصار الأوس والخزرج- هذا صاحبكم الذي تنتظرون، وما يزال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعيداً، والسراب يحول بينه وبين الناس.
فقد عرفوا أنه الحق, وعرفوا أنه هو الرسول، وأن هجرته ستكون، وأنه سيأتي من هذا الطريق، لأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فـعبد الله بن سلام رضي الله عنه وهو من أحبارهم وعلمائهم الذين نور الله قلوبهم وطلبوا الحق وأرادوه يقول: { فجئت إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو يخطب الجمعة بـقباء , وهي أول خطبة وأول جمعة في الإسلام، قال: فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب صلوات الله وسلامه عليه }.
ما هذا الوجه بوجه كذاب ولا طالب دنيا, أو طالب مال, أو شهوة, أو شهرة، فالصدق والنور واليقين يلمع من جبينه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم جلس وسمعه وهو يقول: {أيها الناس! أطعموا الطعام, وصلوا الأرحام, وأفشوا السلام, وصلوا بالليل والناس نيام, تدخلوا الجنة بسلام } هذه خطبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعاها قلب عبد الله بن سلام رضي الله عنه.
فلما استشهد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على أن هذا الدين حق، كان من علماء بني إسرائيل ممن شهد بالحق، وهو هذا الرجل العالم رضي الله عنه، ومنهم من لم يشهد؟ قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً [النمل:14] فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]. وكيف لا يكذبونك؟ ألم يقولوا: إنه كذاب, وكاهن, وساحر, وشاعر، فهم لا يكذبونك، أي: لا يعتقدون في أنفسهم أنك كاذب، لكن يكذبون بأفواههم وهم يعلمون أنه الحق، فالشاهد من هذا هو: شهود من استشهد الله بهم، منهم من يقوم بالشهادة ومنهم من لا يقوم بها.
3 - فضل العلم والعلماء
أما من قام بها فقد قام مقام الأنبياء، كما قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه -بعد موت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قام بها في حروب الردة، وأيضاً قام بها الإمام أحمد رضي الله عنه وأرضاه، ومما أثر في هذا أنه قيل: 'قام أبو بكر في يوم الردة، وقام أحمد بن حنبل في يوم المحنة' .
هذا مقام الأنبياء أنهم صدعوا وجهروا وقالوا كلمة الحق، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله }، {وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب }.
وفرق بين من يعبد الله على جهل أو يفتي بجهل، وبين من يعبده بالعلم أو يفتي بالعلم، وهذا من خير ما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لا حسد إلا في اثنتين -أي لا غبطة-: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها... } والحكمة لا تكون إلا على علم، وكذلك البصيرة لا تكون إلا على علم.
4 - حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً وما فيه من الدلائل على فضل العلم
انظروا إلى الرجل الذي ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قصته في التوبة، وكلنا محتاجون إلى التوبة.
هذا الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً, مائة إلا واحداً، قتلهم ظلماً وعدواناً، فذهب وأراد أن يتوب فقيل له: هذا فلان فدل على عابد جاهل، عابد ترك الدنيا، وترك الشهوات، وانقطع عن الخلق في صومعة للعبادة، ولكنه جاهل لا يعرف الحق ولا يفتي ولا يقضي به، فذهب إليه وقال: قتلت مائة إلا واحداً هل لي من توبة؟
فاستعظم ذلك!! مائة نفس إلا واحدةً! فقال العابد: لا أجد لك توبة.
فقال: إذاً ما فائدة الحياة، فأكمل به المائة.
الفتوى الجاهلة أدت إلى تقنيطه من رحمة الله، وأيضاً أدت إلى قتل هذا المفتي بغير علم، فأكمل به المائة.
ثم دل على عالم فذهب إليه, وقال: قد قتلت مائة نفس، فهل لي من توبة؟
قال العالم: ومن الذي يمنعك من التوبة.
ثم قال له: اذهب إلى أرض كذا فإنها أرض خير, ودع قريتك هذه فإنها أرض سوء، ثم قبضه الله في الطريق، فاختصمت فيه الملائكة وشملته رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعد ذلك.
والمقصود أننا نعرف الفرق بين من يفتي بغير علم، وإن كان زاهداً, وورعاً عن الدنيا, ومجتنباً المحرمات، وقد يؤتى بعض الجهال بياناً وفصاحة، لكن إذا لم يكن على علم بما قال الله وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يكن أيضاً على فقه في الدين فلا خير فيه، فقد تنقلب هذه الفصاحة وبالاً وخساراً على صاحبها، نسأل الله العفو والعافية.
أما العالم فإنه ينفع الناس وينتفع منهم كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الله وملائكته وخلقه -أو قال: والدواب- حتى الحيتان في جوف الماء، وحتى النملة في جحرها ليصلون على معلم الناس الخير } يصلون عليه: أي يدعون ويستغفرون له كل شيء حتى الحيتان في جوف الماء، وحتى النملة في جحرها، كلها تستغفر لهذا العالم الذي طلب العلم لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, والذي نفع اللهُ تبارك وتعالى بعلمه، فعلم الناس ما هم أحوج ما يكونون إليه.
ومن فضل العلم والعلماء ما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:28].
فالذين يخشون الله في كل حركة وخطوة, وفي كل كلمة, هم العلماء: العلماء بالله، والعلماء بأحكامه الله وبدينه، فأما العلماء بالله فهم يعلمون أن الله عز وجل عظيم، وقدره عظيم، ليس كأحبار اليهود الذين قال الله فيهم: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].
جاءوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا له: يا محمد! بلغنا أن الله يوم القيامة يضع الأرض على ذه، والجبال على ذه، والشجر على ذه، فضحك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصديقاً لقوله وقرأ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67].
كلامهم هذا حق، لكن لم ينفعهم، فهم يعلمون أنه بهذه العظمة والكبرياء، والعزة سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن لم ينتفعوا به، فالذي ينتفع بذلك هو العالم الذي له هذا الأجر وهذا الفضل, وهو العالم بالله الذي يخاف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, ولذلك إذا خافوا الله لم يخافوا من أي مخلوق كما قال الله عنهم: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب:39] ولهذا كان قيامهم مقام الأنبياء أنهم يصدعون بالحق، ولا تأخذهم في الله لومة لائم كائناً من كان، لا يخافون أن يغضب عليهم الناس، أو يغضب عليهم السلاطين أو الملوك أو الظلمة من أي نوع، لأنهم يبلغون عن الله، ولأنهم أمناء على هذا الدين، ولذلك يخشون الله ويعرفون قدره فكيف يخافون غيره!
دخل بعض العلماء على بعض سلاطين الظلم فيما مضى وقد قيل له: إن السلطان يريدك في أمر مهم، ولكن نخشى إن ذهبت إليه أن يقتلك.
فقال: توكلت على الله, ودخل عليه وكلمه وخاطبه وأمره ونهاه وأغلظ عليه، ثم خرج من عنده.
فلما خرج سألوه: كيف فعلت؟
قال: تذكرت عظمة الله عندما دخلت عليه، ورأيت عظمته وجنوده وملكه، فأصبح أمامي كالهر!
فعندما يتذكر الإنسان عظمة الله تهون أمامه عظمة أي إنسان كائناً من كان.
هذا المخلوق الذي قد يرجئ أو يخشى أو يسكت عن كلمة الحق، سيكون يوماً على آلة حدباء محمول.
يوماً ما سيحمل ويلقى في ذلك الموضع الذي يعرفه كل أحد، والذي سينتهي إليه كل واحد، لكن هذا العالم لو سكت وداهن وخاف منه ممن إذاً سيتكلم! وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187] يسأله الله يوم القيامة لماذا لم تبلغ دين الله؟
5 - خشية الله وقول الحق
وأعظم ما يجب أن يتأدب به طالب العلم هو: خشية الله ومعرفة الله، فمن عرف الله عز وجل فقد عرف كل خير، ومن جهل ربه ولم يعرف قدره فمهما حوى من العلم فهو كما ضرب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المثل بعلماء بني إسرائيل كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5] علماء بني إسرائيل لم يكن ينقصهم العلم، ولكن كان ينقصهم قول الحق والعمل به كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79] أي لا ينهون أتباعهم عن قولهم الإثم وأكلهم السحت.
كانوا يرون المنكر فيأمرون أول الأمر ثم لا يمنعهم بعد أن يكون أحدهم لفاعل المنكر قعيداً وأكيلاً وجليساً، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض, ولعنهم على لسان دواد وعيسى بن مريم، نسأل الله العفو والعافية.
مع أنهم علماء لكن أخفوا أحكام الله وغيروا وبدلوا دينه، كما حدث ذلك في عهده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن قدم المدينة أن زنى رجل بامرأة، فلما فعلا الفاحشة المحرمة، قالوا: قد جاءنا هذا النبي وهو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويعلمون أنه نبي، ويعترفون بذلك فيما بينهم، فلنذهب إليه فإن أفتانا بشيء غير الرجم قبلناه، وإذا سألنا ربنا يوم القيامة قلنا: يا رب! هذا نبيك بعثته وأخذنا بحكمه، وإن لم يفتنا به عدنا إلى ما كنا نعمل. فالمسألة كما هو حال كثير من الناس، وهذه القضية مهمة.
وحذيفة بن اليمان رضي الله عنه لما سمع رجلاً يقول في قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] قال -وهو صادق-: هذه في بني إسرائيل -وهذه سوف نذكر قصتها قريباً- قال حذيفة رضي الله عنه: [[نِعْمَ أبناء عم لكم اليهود، ما كان من حلوة فهي لكم، وما كان من مرة فهي لهم ]]، معنى هذا الكلام أننا إذا جئنا وقرأنا كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] قلنا هذه في أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وإذا قرأنا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة:143] قلنا: نزلت فينا هذه الآية.
وإذا قرأنا قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32] قلنا: هذه فينا والحمد لله، وإذا جئنا وقرأنا قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] قلنا: هذه نزلت في اليهود.
وقوله: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [المائدة:78] قلنا: هذه في اليهود، ونحن من أمة محمد، ونحن على خير! وهكذا. فيقول حذيفة : [[نعم أبناء العم، لو كان الأمر كذلك ]] أي كل شيء فيه مدح فهو لنا، وكل شيء فيه ذم فهو على اليهود.
وقد فسر الصحابة والتابعون المغضوب عليهم: باليهود، والضالين: بالنصارى.
وقال ابن عباس وسفيان بن عيينة رضي الله عنهما: [[من ضل من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن ضل من عبادنا ففيه شبه من النصارى ]].
هؤلاء اليهود لما غيروا حكم الله، وبدلوا دينه، قالوا: {سلوا محمدا عن ذلك فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه فسألوه } وكان الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد سبق وأنزل الوحي عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين له الحكم، وقال: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ [المائدة:43] فالحكم في التوراة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستطيع أن يقول: الحكم الرجم، فارجموهم.
هنا الشاهد؛ حتى يعلم أن هؤلاء علماء ضلالة، وأنهم ما أتوا في أمور أخرى، فلم جاءوا هذه المرة. قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما تحكمون في هذا أنتم؟
قالوا: نحن نحكم أن يجلد ويحمم وجهه ويطاف به في الأسواق.
قال: هل هذا الحكم في التوراة؟
قالوا: هذا الذي في التوراةُ.
قال: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:93] فاتفقوا كلهم على حذف هذا الحكم من التوراة فأخذ أحدهم يقرأ -وتعلمون أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمي, ولكن الله عز وجل يظهر الحق له دائماً، وكان شاهد بني إسرائيل موجوداً- فوضع القارئ يده على آية الرجم وتجاوزها لأنهم لا يريدون حكم الله ويكرهون ما أنزل في التوراة، لأن فيه فضيحة على العاصي، فلجئوا إلى تبديل حكم الله } .
وهذا ذنب على ذنب، أولها غلط وتبديل لكلام الله، وآخرها تبديل لدين الله، وغمط وجحد لما أنزل الله.
{فقال له عبد الله بن سلام رضي الله عنه: ارفع يدك! فإذا آية الرجم تظهر فقرأها عبد الله فقال: هذه يا رسول الله، والله تعالى قد أخبر نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمر بهما فرجما.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما الذي حملكم على ذلك؟
قالوا: كنا قد أقمناه زماناً، ثم فشا فينا الزنا وانتشر في أشرافنا } كما قال الله: رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا [الأحزاب:67] إنهم الكبراء والوساطات، فإذا زنا ابن الفلاح, قالوا: ارجموه؛ لكن إذا زنا ابن الأمير أو كبير من الكبراء في بني إسرائيل قالوا: لا، هذا لا يرجم. فاستمروا على هذا يرجمون الضعفاء ولا يرجمون الكبراء، كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإذا سرق فيهم الشريف تركوه } فالذي ليس لديه وساطة، لا في شرطة، ولا في محكمة يقيمون عليه الحد، أما الشريف فلا؛ لأن شرفه وشفاعته تحول بينه وبين الحد فلهذا يتركونه.
ثم اصطلحوا على حكم مناسب للقوي والضعيف، فقالوا: نجعل التحميم والتشهير والجلد؛ فإن كان ضعيفاً تحمم ومشى إلى سبيله، وإن كان من أولاد الكبراء فيصبر على التحميم قليلاً، لكن الكل لا يرجم, وقالوا: هذا حل وسط.
ولكن هل هذا حل وسط حقيقة؟!
كثير من الناس من العلماء وطلاب العلم والقضاة -وكلنا نحتاج أن نفقه هذا الشيء- يحكمون أو يقضون بغير ما أنزل الله ويظنون أن هذا من قبيل الإصلاح إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً [النساء:62] ويقولون: ما قصدنا إلا الخير، ونريد أمراً يرضي الجميع.
لكن لا يجوز ذلك أبداً، ما كان من حكم الله فينفذ، وما كان من صلح لا يحلل حراماً أو يحرم حلالاً فهذا له أبواب أخرى.
المقصود أن هؤلاء الناس الذين كانوا على علم، ولكن كانوا على غير الحق والهدى، وباعوا دينهم وعلمهم من أجل أبناء الأشراف, ومن أجل الزنا الذي انتشر فيهم، وهم من أشراف القوم نسأل الله العفو والعافية.
إذاً من أعظم ما يجب أن يتحلى به العلماء وطلاب العلم هو خشية الله وقول الحق كما قال الله تعالى في أوصافهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54].
وإذا الأمة ركنت واستكانت، وطالب العلم والداعية لم يقل كلمة الحق، وانتشر المنكر وطغى، وظهر الفساد في البر والبحر، فالأمر كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14] ولن يضيع دينه أبداً.
بل يذهب الله بهؤلاء ويأتي بقوم أول صفة من صفاتهم أنهم يحبهم ويحبونه، ومن أحب الله فإنه لا يقدم على مرضاته شيئاً، ومن أحبه الله حفظه وعصمه وأنجاه بإذن الله تعالى، وبعد ذلك فإن قوتهم وشدتهم وغلظتهم تكون على الكفار، أما على المؤمنين فإنهم رحماء فيما بينهم, بل هم أذلة على المؤمنين، ثم إن من صفاتهم أنهم يجاهدون في سبيل الله، وهذا العلم جهاد, بل هو أفضل الجهاد، كما بين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {نشر العلم جهاد }، بل قد جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث بإسناد حسن أنه قال: {إن الشهيد الذي قتل في سبيل الله إذا رأى أجر العالم يوم القيامة يتمنى أنه كان مكانه } فالشهيد الذي هو أعظم الناس أجراً، يتمنى أن يكون عالماً عندما يرى الخير والبركة لهذا العالم، ولطالب العلم الذي كان يعمل بالحق وينشره، ويعلم الناس الحق والخير. مع أن الجهاد باليد هو ذروة سنام الإسلام.
حتى قتال الكفار إن لم يكن على علم وإن لم يكن قادته علماء كما كان شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمة الله عليه وغيره من العلماء الأفذاذ يقودون المعارك، إن لم يكن كذلك؛ فإنه قد يدخله الخلل وقد يدخله الدخن، لابد أن يكون المجاهد على علم: من يجاهد, ومتى يكون الجهاد، وما هي أحكام الصلح، وما هي أحكام الرق.. إلخ, وكل ذلك نحتاج فيه إلى العلم.
فلا يستطيع أحد أن يستغني عن العلم في حال من الأحوال، ولهذا أمر الله تبارك وتعالى الناس فقال: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] الواجب علينا أن نسألهم، ولا خير في الدنيا بعد ذلك كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً أو متعلماً } إن لم تكن عالماً فكن متعلماً، وقليل من الناس من يكونون علماء، وهذا شيء معروف فكن طالب علم {من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة } حتى تكون معه وتحشر معه و{المرء يحشر مع من أحب } ويحشر الخليل مع خليله يوم القيامة، ولا نعني بطالب العلم الذي تفقه وتخرج من كلية الشريعة ويخطب الجمعة فقط، مع أن هؤلاء طلاب علم في نظرنا، لكن طالب العلم هو الذي يطلب علم الكتاب والسنة ولو كان في أي مكان.
تعلمون أن بعض الناس يتعلمون ويتفقهون على الإذاعة! وكلكم تتابعون برنامج نور على الدرب، والله إننا نعيش في نعمة لا تقدر والحمد لله على ما فينا، نحن الآن نستطيع أن نطلب العلم ونعمل ونتعلم والحمد لله، وهناك دول قريبة منا على حدودنا لا يستطيع الواحد أن يقرأ كتاباً واحداً، ولا أن يطلب علماً، ولا أن يلتقي بشيخ وهم يتعلمون عبر برنامج نور على الدرب! وبرامج أخرى في الإذاعة يستمعون إليها، ولذلك كم يأتي من العراق ، ومن غيرها, لكي يتفقهون ويتعلمون.
ونحن والحمد لله عندنا كثير من الوسائل، فحلقات العلم يجب أن نحضرها ونحييها، وعندنا أيضاً إذاعة القرآن الكريم ولا نعني التي فيها غناء وموسيقى.
فالوسائل كثيرة، والمهم أن تكون طالب علم وأن تتعلم العلم، وهذا من أعظم الآداب فيه وهو أن تأخذه عن أهله -أهل الذكر- وأن تأتي البيوت من أبوابها وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189] وهذه قاعدة عامة في ديننا، والمقصود بها: ليس مجرد إتيان هذا الباب أو ما فسرت به من تفسير، كل ذلك إن شاء الله حق؛ لكن كل شيء يؤتى من بابه، ومن أبواب العلم أن تأخذه عن أهله، وتتأدب بآداب أهله وشروطه.
6 - التأدب بآداب طلب العلم
في الحقيقة كثير منا لا يتأدبون بآداب طلب العلم، فلو جاءنا عالم -مثلاً- ونرجو أن يأتينا العلماء إن شاء الله، فيجب أن نتأدب معه ونعرف ما الذي نسأله، وكيف نسأله، وكيف نستفيد من علمه.
الصحابة رضوان الله عليهم كان أحدهم ينتظر السنة والسنتين يسأل عن مسألة من مسائل العلم.
وكان عبد الله بن عباس حبر هذه الأمة ينام عند عتبات العلماء من الصحابة مثل زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه وينتظره حتى يخرج.
ونحن الآن لا نراعي وقت راحة العالم فنتصل بالهاتف وندق الباب، وربما نسأل عن شيء معروف قد تكلم فيه مئات المرات ونعرف حكمه أيضاً، نحن ينبغي أن نعرف ما الذي نسأل عنه، وبعض الناس في الطريق يفكر: ماذا أسأل! مما يدل على أن هذا ليس بطالب علم؛ وهذا دليل على أننا نجهل من ديننا شيئاً كثيراً.
إذا كنت تتفكر ماذا تسأل الشيخ ابن عثيمين -مثلاً- إذا جاء المنطقة، فهذا يدل على أنه ليس معك شيء من العلم.
والمفروض أننا نعرف جهلنا حتى نسأل، ولذلك نحرص على أن نسأل العلماء فيما يهمنا، أنا -مثلاً- عندي أمر من الأمور الدينية، في عبادة من عباداتي، أو في التوحيد -وهو أعظم شيء- أعرف هل هذا شرك أو توحيد، هذه بدعة أو سنة، هذا حلال أو حرام!
آتي إلى الشيخ وأسأله عن شيء أنا أعيشه، عن قضية أنا أعانيها وأعلم بها، كما أوصى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوفد عبد القيس: {بلغوا من وراءكم } فأنا آخذها وأحفظها وأعيها وأبلغها كما قالها العالم وأبلغها لقريتي.. وجماعتي.. وقبيلتي، لأن هذه كلمة من عالم وهي حق، فإذاً أنا أبلغها.
7 - النهي عن كثرة المساءلة
وحتى نتأدب جميعاً بآداب طالب العلم لا بد أن نحرص على ما ينفعنا ولا نستكثر من المسائل.
ولهذا يقول الشعبي وهو من التابعين -رضي الله تعالى عنه- لما رأى الناس يتدافعون عليه، ويذهبون من تابعي إلى تابعي في أيامه، قال: [[لو أن القرآن أنزل على هؤلاء لكان عامته يسألونك ويسألونك -من كثرة ما يسأل الناس- ولكن ليس فيه إلا بضعة مواضع ]] وهي ثمانية مواضع في القرآن الكريم كلها (يسألونك) لكن لو نزل القرآن عندنا اليوم, كم يسألونك؟ كل شيء يسألونك.
{إنما أهلك من كان قبلنا كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم} ، وهذا واقعنا اليوم.
بعض الناس في الحج -كمثال وهذا نحن نعيشه في كل موسم حج- يسألك عن لقط الجمار، هل يجوز أن ألقطها من منى أو من مزدلفة ؟
فيجاب: الحمد لله, لا بأس، إن أخذتها من منى أو مزدلفة أو من أي مكان فلا حرج، لكن أين وقفت يوم عرفة ؟
فيقول: الحمد لله تحت الجسر، أي وقف تحت الجسر إلى الغروب.
قلنا: تحت الجسر ليس من عرفة .
قال: لكننا وقفنا.
نقول: أنت جئت تسأل عن شيء هين ولم تسأل عن الشيء الهام، أنت تركت ركن الحج، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{الحج عرفة } وكثير من الناس بل آلالاف يحجون ولا يقفون بـعرفة ؛ لأنه يقف في عرفة تحت الجسر ويظن نفسه أنه فعل الواجب.
هذا لأنه ما اهتم، وما تفقه كيف يحج وأين يقف؟ لكن رأى واحداً يفتي بالميكرفون والناس عليه يتجمعون، قال: أذهب وأسأله عن الحجارة وأنا على الطريق.
وحتى في صلاتنا بعض الناس لا يحسن الفاتحة، ويأتي ويسألك في قضايا يقول: سمعنا أن هناك أناساً على جهالة أو على ضلالة هؤلاء يوم القيامة هل يدخلهم الله النار أو الجنة؟
فتحتار في أمره, وماذا تقول له! أتقول له: هؤلاء أهل فترة وفيهم خلاف وتشرح له في واد بعيد، ولو قلت له: تعال اقرأ الفاتحة فلا يجيد قراءتها، أو سألته: ما هي أركان الصلاة؟ لا يعرفها، إذاً ما الفائدة؟!!
يا أخي! هذا القرآن جعله الله موعظة، وكان العلماء من عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم ينهون عن سماع القصص وهي مواعظ خير، وبعضها حق أو أكثرها ولكنهم كانوا ينهون عنها.
حتى لا تكون على حساب العلم والتفقه في الدين.
فالإنسان الذي لا يعرف معنى لا إله إلا الله ولا يعرف الشرك -وهو أعظم ذنب قد يقع فيه- ثم يظن أنه في حاجة إلى دقائق العلم، وهكذا.
حدث ذات مرة أن رجلاً سأل سؤالاً غريباً -لاداعي لذكره- فقلت له: أنت تقرأ القرآن فقال: الحمد لله، فقلت: أنت تعرف معنى قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، ما معنى الفلق؟ وغاسق إذا وقب؟ والنفاثات في العقد؟
قال: والله ما أعرفها، وهذه في السور الذي يحفظها الطالب المبتدئ وكل أحد، ثم تأتي وتسأل عن أشياء غريبة, كمثل ما يسأل في البعض في قوله تعالى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ [يوسف:20] كم الدراهم؟ وبكم باعه إخوانه؟
حسناً إذا كانت عشرة دارهم أو مائة، ماذا يضرك وماذا ينفعك؟ أهم شيء أن تعرف أنت ما الذي يجب أن تعلمه حتى تعمل به.
هذا الواقع اليومي الذي نعيشه نجد النقص عند الناس في هذا الجانب من الآداب, وهو جانب عظيم من آداب طالب العلم وهو ينقصنا جميعاً، هذا الجانب: أننا لا نسأل إلا بقدر؛ ولا نسأل إلا فيما يهمنا، وأن يكون همنا أن نسمع ونتلقى، فإذا تلقينا شيئاً وعزمنا على أن نعمل به، فلن نحتاج إلى أن نسأل كثيراً، ولهذا قلَّت أسئلة الصحابة.
وكان الصحابة رضي الله عنهم يفرحون إذا جاء الأعرابي من البادية لأنه -جاهل- يتجرأ، ويسأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم يعون ويفقهون، لكنهم لا يتجرءون أن يسألوا؛ لتأدبهم مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونحن نحتاج إلى من يعمل بما علم ومن يسأل عن شيء ويلتزم العمل به.
بقي بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- في سورة البقرة ثمان سنين مثل ابن عمر رضي الله عنه حتى يتعلمها فقال: [[كنا لا نتجاوز الآية من القرآن حتى نحفظها ونفقهها ونعرف ما فيها من العلم والعمل، فأوتينا الإيمان قبل القرآن ]]، أما الآن فإن الناس بالعكس.
والحمد لله ومن فضل الله علينا وعلى الأمة جميعاً أن الواحد منا يدخل التحفيظ أربع سنوات أو خمس سنوات ويحفظ من القرآن ما وفقه الله ويسره له، وهذا شيء جيد، لكن في جانب التربية لا ينبغي أن نعطي القرآن قبل الإيمان، بل يجب أن نعطي الإيمان قبل القرآن، فالإيمان قبل القرآن.
والتأدب بآداب القرآن وآداب حملة القرآن قبل تعليم الناس أحكام الحلال والحرام شيء هام، وإلا كان ذلك حجة لهذا الصاحب، ألا ترى أن بعض من تعلم وتفقه في الدين وأخذ الشهادة في ذلك يُضل ويَضل، ويقطع طريق الدعوة والخير على أهل الخير والدعوة، يأخذه الناس قدوة وحجة -والعياذ بالله- وإذا أخذ الناس مجرد العلم بغير أدب، فهذه مصيبة تحل على الدعوة.
فلا بد من خشية الله، تقواه، ومن الإخلاص له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبذل لهذا العلم في سبيله عز وجل، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يبارك لنا ولكم.
8 - الأسئلة
حكم إحياء ليلة العرس بالموسيقى والدف
السؤال: ما حكم إحياء ليلة العرس بالطرب والدف وإحضار بعض المطربين لهذه المنطقة لإحياء ليلة العرس، ثم بعد ذلك الإسراف والبذخ في هذه الأيام؟
الجواب: الموضوع يحتاج في الحقيقة إلى لقاءات، لكن لعلنا نأتي على بعضه.
أولاً: يقول الله تبارك وتعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58] فضل الله ورحمته قيل القرآن، وقيل النبوة أي بعثته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقيل الإسلام، وكله حق، وأعظم ما يفرح به فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس:58] هو الإيمان بالله وتقواه ومعرفته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثم أذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا وقد بعث نبيه بالحنيفية السمحة، وجعل لنا في هذا الدين فسحة لنفرح ونبتهج، وأن نظهر فرحنا، ولهذا جعل لنا عيدين أبدلناهما بيومي الجاهلية لنفرح فيهما ولله الحمد والمنة.
كما شرع لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفرح بالزواج، أو الفرح بالمولود إذا رزقنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مولوداً، وما أشبه ذلك مما هو في حدود الحلال.
ثم أتينا نحن وماذا فعلنا -وخاصة في بعض المناطق؟- جعلنا الفرح مهرجاناً للمعاصي يجمع الإنسان شروراً ومعاصي مركبة من أجل ما أعطاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ورزقه بفتاة طيبة خطبها من أسرة طيبة كريمة وتزوجها.
منَّ الله عليه بهذا الزواج، وهذه نعمة من الله عظيمة، بل هو خير متاع الدنيا كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول: لا بد من فرح, ولابد من طرب يسمع به القاصي والداني.
التبذير والإسراف في الولائم لا يجوز يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء:27].
وقد يكون الإنسان ممن أعطاه الله مالاً فأسرف فيه، وقد حرم الله الإسراف والتبذير، وهو في الأصل من حلال بل مأمور به, هذا الفرح نعبر عنه كما سنه لنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالدف! لكن هل الدف للرجال؟! أعوذ بالله من ذلك هل هناك رجل يأخذ الدف ويضربه..معقول!! رجل يأخذ دف أو طبل ويضربه.
قالوا: إنه يحصل في المباريات لكنني ما صدقت؛ حتى رأيت رجلاً يحمل دفاً وطبلاً.
الدف للنساء في العرس فقط، هذا الذي شُرع وأذن به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيجتمع الناس ويفرحون، وتجتمع الجماعة ويتعشون، ويتغدون جميعاً ثم يباركون ويهنئون ويعبرون عن الفرحة وهذا نعرفه والحمد لله وهو المشروع.
أما الاجتماع الذي جاء في السؤال تسميته "إحياء" فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [الأنعام:122], وهم يقولون: جاء مطربون وأحيوه!! وهذا والله قتل وموت، موت للقلوب بهذا الطرب واللهو واللعب.
والحياة هي بالقرآن الكريم وبذكر الله أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] فإذا كان الوقت مناسباً -ولا نجعل ذلك دائماً أو قاعدة عامة- واجتمع الناس، وجاء إنسان وأعطاه الله حظاً من العلم فوعظنا وذكرنا، من ضمن ما قد يكون في البرنامج، ودون أن نلتزم بهذا الشيء ونجعله قاعدة أو سنة، لكن أقول: لو حصل ذلك نكون قد أحيينا العرس مرتين، أحييناه لما جئنا وهنأنا وأكلنا واجتمعنا على الخير، وأحييناه أيضاً بذكر الله، أما أن يؤتى بالمطرب ويقال: مطرب, ولا يوجد شيء رجال مع رجال، ثم بعد ذلك مطربة, وبعد ذلك مطرب ومطربة, وبعد ذلك فرقة, وبعد ذلك الفرقة المختلطة والجمهور المختلط!
وهكذا طريق الشيطان يبدأ بخطوة، ثم يزين ما بعده ثم ما بعده، وإذا بها فرق، وإذا بنا تطورنا وتقدمنا كما يقولون.
كنا نجتمع في أي مكان, قالوا: لا بد من فندق أو من صالة، حسناً، وإذا بالصالة، قالوا بعدها: المطرب, ماذا يفعل هذا المطرب؟ لا يجوز أن يستقدم هذا المطرب، ومن جاء به فهو آثم ومن استمع إلى لهوه وطربه فهو آثم، وهذا الذي قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحذر منه في آخر الزمان عندما قال: {يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف } جعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سماع الموسيقى قرين الزنا -والعياذ بالله- وقرين لبس الحرير المجمع على تحريمه عند المسلمين قاطبة؛ هذا آثم, فلا يقال: لا يأثمون هم ولكن الذي يأثم المطرب ومن حضر الحفل فقط؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لكنا في أمر أخف؛ لكن نأثم نحن -المجتمع- جميعاً إن لم يكن فينا من ينكر، وأول من يجب عليه الإنكار من ولاه الله تعالى الأمر.
أعني: الإمارة والهيئة، هذا أول من يجب عليه أن ينكر هذا المنكر؛ لأن هذه مسئوليته قال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ [الحج:41] يعني ملكوا وحكموا أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41] فيأثم المسئول في المنطقة أو في المدينة بعدم إنكار هذا المنكر، فإن لم تقم الجهات المسئولة بواجبها أيضاً، فيأثم أهل الشأن, وأهل العلم هم أهل الشأن.
ومن المشاكل التي تقع -وهذا شيء معروف في هذه المناسبة- أن يتخلى من له الشأن، ومن بيده الأمر عن إنكار المنكر، فيأتي شباب يغضبون لله ولا يصبرون على المنكر، ويعلمون ما أعده الله من العذاب لمن لم ينكر المنكر، فيتجرءون وينكرون، فيقولون: ذهبنا وأنكرنا المنكر، وما قلنا إلا الحق وقلنا: اتقوا الله, وقلنا: هذا حرام, وقلنا: هذا منكر، ثم ماذا تكون النتيجة؟
تكون مشكلة، وعداوة، وحقد، ويتهم الشباب بكل تهمة، ويتجرأ الكبار ويقولون: ما أنكر إلا ولد فلان وولد فلان والذين هم كذا وكذا، بينما العلماء والدولة ازدروا الذي ينكر، فانظر المشكلة كيف تتطور! وبعد أن كان منكراً بسيطاً يمكن أن ينتهي بمجرد كلمة من هاتف مسئول في هيئة, أو في الإمارة, أو في شرطة، أو في أي عمدة, أو عريفة...إلخ.
وإذا نظرنا إلى الموضوع رأينا أننا صرنا فرقتين:
الأولى: أهل الشأن، ومعهم الجمهور كما قال تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه ِ )[الأنعام:116] فأكثر الجمهور يريدون الطرب، وثلاثة أو أربعة ليس لهم قيمة ولا اعتبار!!
فأنا أقول -وأنا أعتبر نفسي واحداً من هؤلاء الشباب- قد نخطئ ونتجرأ, وقد نتصرف تصرفاً غير صحيح يسيء إلى الدعوة، وقد يتطور المنكر إلى منكر أكبر منه.
أقول: افرضوا أننا فعلنا منكراً من أجل أننا ننكر المنكر، لكن في الحقيقة الإثم والذنب على من لم ينكر المنكر وهو من أهل إنكار المنكر، فهذا لا نريده أن يقع.
اعلموا أن أي منكر لا يمكن أن يسكت عنه، وقد أصبحت الدعوة واقعاً، والصحوة الإسلامية أصبحت حقيقه واقعة، والشباب المسلم ملء السمع والبصر، ولا أحد يستطيع أن ينكر هذا الكلام أبداً..
اعلموا أنه لا يمكن أن يكون هناك منكر عام ظاهر إلا وسينكره بعض الشباب، ينكرونه كما يشاءون، قد لا يشاورون في ذلك عالماً ولا مفتياً ولا شيخاً، وربما كانت فتنة، إذاً ما الحل؟
إننا نحن الذين بأيدينا الشأن والأمر من مسئول، أو صاحب الزواج نفسه، أو صاحب الصالة نفسها إلى آخره..، نبدأ بتغيير المنكر، فنحن إن لم نمنع المنكر وإلا تفاقم الأمر، الآن -والحمد لله- ظهر العلم وظهر الحق، وما بقي لأحد حجة، وما بقي على الشباب من لائمة، قد نآخذهم بالأسلوب الأمثل، لكن معهم حق في إنكار المنكر، من الذي لا يقرهم على إنكار المنكر؟
نقول: نعم، لا يقرون على بعض الأساليب ولكن لا بد أن يُنكر المنكر ولا بد أن يزال، فإن لم يقم به من هو أهله تصدى له غيره، ولذلك فنحن نحمل المسئولية في ذلك كل الناس، الكل مسئول في هذه البلدة، وفي كل مكان، هذا ما شرعه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأمر به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده -إذاً صاحب السلطة يغير باليد- فمن لم يستطع فبلسانه } -ومن التغيير باللسان إنكار من لا يستطع باليد مثل: العالم أو الواعظ الذي لا يستطيع أن ينكر باليد، فينكر ذلك باللسان.
يجب أن يخطب الخطباء في هذه الأيام، لا يكفي كلمة مني فقط، على الخطباء أن يخطبوا في هذا الموضوع، ويحذروا من هذه الظاهرة، ومن هذه البادرة الخطيرة، ويتكلم الوعاظ ويتكلم الآباء.
يجب على كل واحد منا علم أن هذا الزواج فيه منكر ألا يحضر وألا يرسل أهله لحضور ذلك المنكر، حتى لو غضب من غضب، ونقول: هذا منكر إن أزلت المنكر جئنا أو جاءك أهلنا، وإن كنت لا ترضى أن تزيل المنكر فلن نأتي.
ومنكرات الأفراح كثيرة منها: الزفة التي يكون فيها الاختلاط، ومنها: التصوير بالفيديو أو الآلة، ومنها أشياء كثيرة يضيق الوقت عن شرحها، المهم أننا نعرف أننا مسئولون أمام الله عز وجل، وأن مناطقنا المحافظة الطيبة أمانة في أعناقنا، فلنحذر أن نفخر بأفراح ومناسبات تدخل فيها المعاصي، أو بأفراح ما يسمى بالاصطياف أو السياحة, فندخل فيما حرم الله من اللهو اللعب، ونكون كالذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً -والعياذ بالله- والذين كانت عبادتهم كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً [الأنفال:35] نسأل الله العفو العافية.
الحلف بغير الله
السؤال: صدر في المنطقة فتوى للشيخ عبد العزيز بن باز بشأن حكم بعض المناذير والألفاظ كقول الإنسان: انفروا به، اخسفوا به، خذوه، وغير ذلك من الألفاظ، لكن طباعتها غير واضحة وهي في المنطقة منتشرة، فما توضيح فضيلتكم لمثل هذه الأمور؟
الجواب: ما دامت توجد فتوى وهي من عالم الأمة وشيخنا ووالدنا سماحة الشيخ أثابه الله، والذي يريده الأخ هو توضيحها في ذاتها فتوضح إن شاء الله، وأما إذا أراد شرحها فأقول:
نحن بين جاهليتين -أقول هذا مع الأسف-: جاهلية ورثناها عن الآباء والأجداد, مع ما فيها من لهوٍ وطربٍ وشركيات، والحمد لله تخلصنا من أكثر ما فيها, وبقي فيها بعض الأمور، والجاهلية الجديدة هي هذا التقدم والتطور، والأسماء اللامعة. وأصبحنا نعاني بين ألفاظ هذه وألفاظ هذه، وبين معاني هذه ومعاني هذه، وبين ضلال هذه وضلال هذه.
فإن جئنا عند الأيمان فالكبار الذين بقيت عندهم من الجاهلية الأولى بقايا يحلفون بغير الله ويدعون غير الله.
وبعض جاهلية النشء الجديد، إما أنه لا يعرف الله ولهذا لا يذكره, وإما أن يحلف بغير الله إما بلفظ جديد أو بمصطلح جديد، فذاك كان يعظم الآباء والأجداد، وهذا الجديد يعظم الوطن والشرف ويقول: بشرفي، فوضْعنا نحن بين هاتين الجاهليتين.
والشرك -يا أخي- أعظم ذنب عصي الله تعالى به, ومن الشرك شرك مخرج من الملة: وهو دعاء غير الله، أو الاستغاثة بغيره، أو الذبح لغير، أو النذر لغير الله، أو التحاكم إلى الطواغيت من دون شرع الله، هذه كلها مخرجه من الملة والعياذ بالله.
ومنها شرك في الألفاظ، وهذا الشرك كالحلف بغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أو كقول: ما شاء الله وشئت أو ما أشبه ذلك، وهذا يسمى بشرك الألفاظ، أو ما يسمى بالشرك الأصغر، وكونه أصغر أو أنه لا يخرج من الملة، لا يعني كونه هيناً، فالشرك أكبر من أي كبيرة غير الشرك ولذلك يقول عبد الله بن مسعود [[لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً ]] -والعياذ بالله- لا يمكن أن يحلف رضي الله تعالى عنه بغير الله، والحلف بالله كاذباً هي اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار، وهي من الذنوب الكبار، ولكن مع ذلك هي أخف من أن يحلف الإنسان بغير الله وإن كان صادقاً في يمينه؛ لماذا؟ لأن الشرك أعظم من بقية الكبائر.
وبعض الناس يقول: أنا ليس قصدي أن أدعو الجن -وهذا كلام تعودناه- فنقول: هذا من شرك الألفاظ، فإن سلمت من الشرك الأكبر ولم يكن هذا دعاء لغير الله وكفراً به -عياذاً بالله- فأين السلامة من شرك الألفاظ الذي هو أعظم من الكبائر الأخرى، كالزنا أو شرب الخمر أو عقوق الوالدين، عافاني الله وإياكم؟ فلنحذر من الشرك دقيقه وجليله.
يقول بعض الإخوة إذا غُلِبت وقلت مثل هذه الألفاظ وقلت افعلوا به أو كذا؟
نقول: نعم ديننا لا يوجد فيه شيء إلا وله حِكمه والحمد لله، والصحابة كانوا في الجاهلية يحلفون بآبائهم، وكانوا يحلفون باللات والعزى كعادة الجاهلية... فلما أشرق عليهم هذا النور وعرفوا التوحيد كفّوا عنه، ولكن دائماً إذا تعودت على شيء في عمرك كله، لا يمكن أن تغير هذه العادة في لحظة، فيغلب أحدهم على لسانه ويقول: "واللات.. وأبي" فماذا عليه؟ يوحد الله.. فيشهد أن لا إله إلا الله؛ لأن كفارة الشرك هي التوحيد، أو هي شهادة أن لا إله إلا الله، فعندما تنذر بهذه المناذير الشركية وتتذكر وتقول: لا إله إلا الله وتستغفر الله وتتوب مرة ومرتين وثلاث فإنك ستقضي على هذه العادة السيئة إن شاء الله تعالى.
حكم الحلف بالطلاق والحرام
السؤال: ومن يحلف بالطلاق والحرام؟
الجواب: الطلاق والحرام تريد درساً منفرداً، المهم أن الحلف لا يكون إلا بالله، ونعلم أنه لا يوجد أحد إلا وهو يحتاج أن يحلف، ولا نقول: لا نحلف بالمرة وقول الله: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة:224] ليس معناه ألا نحلف وألا نقسم، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقسم في مواضع كثيرة يقول: والذي نفسي بيده أو والله, وتالله -كما في القرآن-، والذي بعث محمداً بالحق، كما كان الصحابة يقولون: والذي بعثك بالحق، فالمهم أن يكون بالله ولا نشرك به أحداً.
منع المرأة من الميراث
السؤال: تعتبر المرأة في حق الميراث وما يتعلق بالميراث شيئاً منبوذاً، ويعيبون عليها إذا طلبت حقها أو أخذت حقها من الميراث هل من كلمة حول هذا؟
الجواب: قضية المرأة قضية ضاعت بين جاهليتين، والحق بين أيدينا، جاهلية أولى وهي الموروثة، المرأة مرأة، وإذا ذكرت قالوا: أعزك الله، أكرمك الله؛ ولو كانت أمّه، ذكر المرأة معناها مثلما نقول: دابة أو حيوان، ليس لها اعتبار وليس لها قيمة، وبلغنا من بعض الآباء أنه يأتي رمضان وهي لا تصلي، ولا تؤمر بها, والحج لا تحج, ويقول: هذه امرأة!! انظروا...كيف الجاهلية نسأل العفو والعافية.
ومن المظالم أنها لا تُورَّث ولا تعطى ميراثها الذي شرعه الله، وهذه الفرائض ماجعلها الله لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا للعلماء من بعده، بل بينها بنفسه في كتابه يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء:11] هذا كلام الله، وهذا كتاب الله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء:11] فهذا أمر شرعه الله.
ويقول: كيف أعطي للبنت وأترك الرجال؟
وأقول: مشكلتنا هذه أصلها أننا نظن المال مالنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {يقول ابن آدم: مالي.. مالي } حقي، مالي، وشقاي، وتعبي، وعمارتي، وأعطيها أولاد الناس من أجل أزوج البنت، لا يمكن!!
من قال: إن هذا المال مالك؟! فأول شيء نناقشك في هذا، الله تعالى يقول: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7] إذاً المال مال الله وأنت مستخلف فيه، وإذا مت فلن ينفعك من هذا المال إلا ما قدمت لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أما الباقي فهو لورثتك، ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله } -معقول, هل يقول أحد أن مال وارثي أحب إلي من مالي- قال {فإن مالك ما قدمت ومال وارثك ما أخرت }.
كل واحد منا عنده عقارات وأبنية وغير ذلك، هذا مال من؟! إنه مال الوارث.
والمقصود أن المال ليس مالنا، وليس الذي قسَّم هو نحن، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وإنما أنا قاسم والله يعطي } حتى الذي يفرض هذا ويقسم كما أمر الله هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقيم ما أمر الله.
والله تعالى هو الذي أعطى، وهو الذي شرع هذه القسمة، وبيَّن هذه المواريث, وبين لكل واحد مايأخذه من المال، فهذا من أنواع الجاهلية ومن بقاياها، أن تهضم حق المرأة، وهذا من حكم الجاهلية أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
جاءت الجاهلية الجديدة وقالوا: المرأة مهانة ومحتقرة, قلنا: جزاك الله خيراً فكيف نعطي المرأة حقها.
قالوا: تتعلم، وتتوظف، ويصير لها رأي في الأمور، وبلغ هذا الحد إلى أن أصبحت المرأة هي المسيطرة سيطرة كاملة في البيت، وسيطرت في الحياة وبدأت تفعل كل شيء، وحتى بعض الرجال لم يَعد له أي دور، حتى فيما يتعلق بزواج بناته، وفي أموره وتدبير شئونه وفي كل شيء، المرجع أصبح للمرأة.
ويقول: يا أخي المرأة مظلومة، فلابد أن تُكرّم. فجعلت هي المتصرفة وهي الوالية، لأنه لا بد من فتح مجالات.
وبهذه المناسبة سمعت -وإن شاء الله لا يكون صحيحاً- أن منطقة الباحة سيفتح فيها معهد للممرضات، والله عجيب!! أنا ما صدقت لأن الممرضات معروف ما هو شغلهن، الواحد منا لا يرضى أن ابنته تخدم أخاه، كيف تذهب عند خالتها وتخدمها، أهي خدامة عند خالتها؟! والآن صار عندنا مشروع الخادمات للرجال، وهذا الكلام لا بد من الوقوف في وجهه، وسيقول البعض: هذا ضد المرأة, وهذا ضد الحضارة, وضد التصور.
وأقول: هذا هو من الجاهليتين, فالجاهلية الأولى تمنعها حقها الذي شرعه الله في القرآن وجاءت الجاهلية الثانية وقالت: حقكِ كذا وكذا، فورطوها في أمور هي أجل من أن تعملها, وهي لم تخلق لها، بل هي ضارة عليها.
قالوا: هذا حقكِ طالبي من ظلمك؟!
فقالت: والله -فعلاً- بدلاً ما كان الوالد أو الشيخ الكبير يمنعني من ميراثي، فهذا فاعل خير يقول: توظفي حتى تستغني عن هذا الشيخ وعن الأولاد جزاه الله خيراً.
ونحن نعلم أن في خروجها هذا ضرر عليها، وهذه هي الجاهلية الجديدة، وخطرها وضررها عظيم, وأنا والله أعجب أن منطقة بهذه المحافظة والأخلاق توافق على أن يفتتح فيها ومن بناتها من يدرسن التمريض، ولا سيما ونحن نرى المستشفيات مختلطة، ولو أن عندنا مستشفيات مفصولة تماماً، الرجال لهم مستشفيات والنساء لهم مستشفيات كما أمر الله، فالواحد يستطيع أن يقول: يا أخي! تدرس وتعمل في مستشفى نسائي، لكن هذا غير موجود الآن، فيكفي أننا سكتنا.
وهذا منكر شنيع نسكت عليه، وهو أن يؤتى بالممرضات من الخارج بغير محارم، ويسكن في مساكن ويتسوقن، ولا يخفى على أحد ماذا يجري، والمنكر له مكابر، ثم تأتي مصيبة أكبر، وتصبح بناتنا نحن يخدمن في قسم التمريض.
فنقول: المرأة الآن بين جاهليتين، فاتقوا الله في النساء كما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وكما أوصى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهن حتى في وصيته الجامعة يوم عرفة .
نصيحة لمجموعه من الشباب بعدم التفرق
السؤال: نحن مجموعة شباب ملتزمون لكن دب الشك بيننا، مما أدى إلى تفرق بعضنا عن بعض فبماذا تنصحونا؟
الجواب: أقول عموماً: نحن الأمة أمرنا الله -تبارك وتعالى- أن نعتصم بحبل الله وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] ونهانا عن الفرقة (ولا تَفَرَّقُوا) وقال: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105] فلا يجوز أن نزرع الشك فيما بيننا، وأن نتيح للشيطان فرصة أن يبذر بيننا بذور الشك والشقاق، فليس أحب إلى شياطين الإنس والجن من أن يجدوا أهل الخير مختلفين أو متنافرين، وإن لم يجتمع الشباب وطلبة العلم وأهل الدعوة فمن الذي سيجتمع؟!
وإن لم يجتمعوا على القرآن، وعلى هدي رسول الله في دعوته, وفي أمره ونهيه، فعلام يجتمعون إذاً؟
أما أهل الفجور والمعاصي، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يمكن أن يجمع أمرهم، إنما هم يجمعون على أمرٍ -ابتلاء من الله وفتنة- ثم يفرق الله شملهم وينثر جمعهم، ويوم القيامة يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67] فالمتقون هم الذين هم على الأخوة الإيمانية في الدنيا والآخرة، لا شقاق بينهم ولا شك.
ولكن كلنا خطاءون، أنا قد أخطئ على أخي في الله، فليبين لي خطئي، أنا إن رأيتُ فيه عيباً أنصحه، وإن أخطأ عليِّ وأخطأت عليه، يأتي الثالث ويتدخل بيننا بالنصيحة وبالخير، ومن أسباب هذه الفرقة -إن وجدت- هي قلة الذين يُفقِّهون الشباب، نحن الشباب -وأنا واحد منهم- عانينا مرارة عدم التوجيه، قد يوجهنا بعض الناس لكن قد لا يجيد توجيهنا، وأحيانا ً قد لا نجد من يوجهنا فننفعل ونحمق، والحماقات مرتبطة دائماً بالعجلة، والعجلة دائماً من شأن الشباب، إذا كان خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37] كما قال الله تبارك وتعالى, فالعجلة في الشباب أكثر.
ونحن نريد تغيير المنكر في لحظة، إذا سمعنا عن منكر نقول: لابد من تغييره الليلة، مع أن الله بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وظل ثلاث سنوات في الدعوة السرية، ثم جهر بها ثم أوذي, لكن نحن الشباب كثير والحمد لله، والموجهون قليل، وعندهم أشغال؛ فأصبح كل شاب يركب رأسه، وأصبح الشيطان يلقي التهم والخلافات والتعصب لبعض الآراء العلمية، ولبعض الآراء الفقهية، ولبعض المشايخ، ولبعض الطوائف -مثلاً- فيبذرها، وليس أحب إليه من ذلك, إذا اختلف أهل الحق قويت شوكة الباطل واجتمع حزب الباطل عليهم، وغلبوهم.
حكم إجابة دعوة المرابي
السؤال: يقول السائل: إن بعض الأصحاب والأقرباء يدعونه في مناسبات وفي غيرها، ولكنه يعلم أن أموالهم من البنوك الربوية، فهل يجوز إجابة دعوتهم؟ وإذا أجاب الدعوة فقد يقع في محذور -كما هو مفهوم من سؤاله- وإن لم يجب ستكون قطيعة بينهما، فما إجابتكم على هذا؟
الجواب: هذا أيضاً من الأمور التي كانت المنطقة -والحمد لله- في عافية أو في شبه عافية منها، لم يكن عندنا بنوك من قبل، وكان آكل الربا هو التاجر -والعياذ بالله- الذي يرابي, وهؤلاء كان يوجد من ينكر عليهم، أما الآن والعياذ بالله كل فترة ويفتح بنك جديد أو فرع جديد.
والسبب هو حب الدنيا لأنها رأس كل خطيئة، وما أهلك من كان قبلنا إلا هي، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو بالمؤمنين رءوف رحيم، ويشفق علينا من أي شر، يقول: { والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على الذين من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم } فتحت الدنيا علينا وزاد النعمة والعقار والتجارة، فقلنا لا بد من بنوك.
فقد يمكن أن يكون عندنا خير ونعمة من غير الربا، فهل لا بد من البنوك، والربا، ولا بد من التعامل معها, مع أن البنوك هذه ليست كل معاملاتها فيها ربا, فيمكن أن نقيم بنوكاً بلا ربا، وتكون معاملات شرعية، لكن نحن نحن أبينا إلا أن نأخذ الحلال والحرام، والحق والباطل، فكل البنوك الموجودة في المنطقة فيها ربا، لكن نقول يمكن أن توجد بنوك بلا ربا، لكن الفروع الموجودة فيما أعرف كلها قائمة على الربا بأي شكل، قد يكون بعضهم أخف؛ لكن الأصل أنها كلها قامت على الربا، وهذا لا نقاش فيه، ولا يكابر في ذلك إلا من يجهل البنوك على التفصيل والحقيقة.
ولما فتح الله الوظائف، كان كثير من الناس يستقيل حتى صدرت أوامر -كما هو معلوم- في الدوائر الحكومية، بمنع الناس من الاستقالة.
بدءوا يستقيلون حتى يلتحقوا بالمقاولات والمنشآت.. لأن فرص عمل كثيرة فتحت، ومع ذلك أبى كثير من الناس إلا أن يوظف في البنك، ثم توظف في البنك وأصر إلا أن يبقى فيه، وإذا بالرجل هذا كما ذكر الأخ أنه قريبه يعمل في هذا البنك، ثم يأتي عنده مناسبة ويدعوك فإن ذهبت إليه -مثلما يذكر الأخ- فأنت تأكل من شيء حرام، وكل جسدٍ غذي بالسحت (أي نبت من حرام) فالنار أولى به -نسأل الله العفو العافية- وليس هناك مال حرام أشد من الربا {درهم رباً أشد من ست وثلاثين زنية } كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بإسناد حسن, أشد من ست وثلاثين زنية، درهم واحد من ربا.. هذا خطر وإثمه عظيم.
وتوعد الله تعالى المرابي في كتابه بالحرب فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279].
إذاً نقول: يا أخي: هذا الربا وأكله حرام، فكيف تذهب وتأكل؟
فنوجه النصيحة للأخ الموظف أن يتقي الله، ويكف عن العمل في هذه البنوك، لأنه لا يجوز للمسلم: للشاب، ولطالب العلم, ولكل تقي يخاف الله ويرجو الله واليوم الآخر؛ أن يعمل في أي بنك ربوي، فالبنوك الموجودة بغض النظر عن أسمائها تتعامل بالربا جميعاً ولا نزكي منها أحداً؛ فيجب على كل واحد يعمل فيها أن يترك هذه الوظيفة، ولو كان حارساً، وهناك فتوى لهيئة كبار العلماء ومن اللجنة الدائمة للإفتاء أنه لو كان حارساً أو فراشاً فإنه معين على الربا داخل في قوله تعالى: وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ[المائدة:2] ، فما بالك بالكاتب والموظف, لأن الكل يخدم الربا بأي شكل من الأشكال فلا يجوز العمل فيها.
فننصح هؤلاء أن يتوبوا إلى الله، وأن يبحث أحدهم في أقرب فرصة عن عمل يجده، ولو أن يستدين ويترك هذا الحرام، ويلقى الله وهو آكل من الحلال و{الله طيب لا يقبل إلا طيباً } كيف يدعو الله {يارب! يارب! ومأكله حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنَّى يستجاب له؟ } كيف تأكل ربا وتصلي وتدعو الله أن يغفر لك، كيف يكون ذلك؟
فاتق الله يا أخي, وخف من النار، واحذر من دار البوار إن بقيت تأكل الربا.
وأوجه بهذه المناسبة نصيحة إلى المجتمع، ومجتمعنا مجتمع خير -والحمد لله- أن يتعاونوا على البر والتقوى, ويفتحوا وظائف لهؤلاء الشباب.
إذا كان عندك مؤسسة أو محل تجاري، فاقبل من يأتيك وقد ترك البنك واعطه ولو نصف الراتب، أو وظفه أنت في دائرة حكومية أو كان لديك شواغر فقدم لهذه الشواغر من كان يعمل في بنك، حتى تخفف من هذا المنكر وتعين على الخير, فنحن إذا تعاونَّا جميعاً قضينا على هذا المنكر ويبقى صاحب البنك بمفرده، يقول: الموظفون خرجوا.
نقول: أنت أيضاً ننصحك, ولنا معك -أيضاً- كلام آخر، لنا الحق أن نبلغك وأنت -إن شاء الله- مسلم تريد الخير, وهذا الموظف لنا معه شأن، نوظفه، ونعينه على وظيفة، وننصحه.
ونرجع إلى قريب الموظف: ونقول: من حيث الحرمة، لا يحرم على أحد أن يتعامل مع أحد وإن كان المتعامل معه يتعامل بالحرام، فمثلاً واحد يتعامل بالربا، وأنا اشتغلت مقاولاً عنده، أنا ليس عليَّ إثم، إن عملت له عملاً، وأعطاني أجرتي حلالاً، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعامل مع اليهود وكانوا مرابين.
والمسلم قد يقر الكافر على ذنب، ولا يقر عليه المسلم؛ لأن هذا مسلم ملتزم بالإسلام، أما الكافر فإنما أقررناه على دينه، لكن نقول: الحرام لا يتنقل بين ذمتين، فلو أخذ واحد مالاً من حرام، خيانة أو سرقة أو غشاً، ثم جاء أحد وتعامل معه بالحلال وأعطاه، فليس على ذلك الآخذ شيء، وإنما الحرام على من أخذه، لكن إذا كان الآخذ أو الضيف أو الأجير يعلم أن هذا المال من حرام، فإنه يقول: يا أخي! أنا لا أعمل عندك لأن مالك حرام، وينصحه وهذا حسن.
فأنت يا أخي في مثل هذه الحالة، يجب أن تنصح أقرباءك وأرحامك وإخوانك, وأي واحد منا له قريب يعمل في البنك، يبذل له النصيحة ويقول له: يا أخي! أنت تأكل حرام، وأنا لن أقاطعك ولن أهجرك لأن الله أمرنا بصلة الرحم، لكن إن جئتك وتحرجت من الأكل عندك فاعلم أن ذلك لأنك تأكل ربا، فإن عذرتني وعفوت عني فهذا الذي أريده، وإن كان غير ذلك فلن أرضى، فإن كان الداعي رحيمك أو أختك غضبت وذهبت فلا بأس للمصلحة لكن لا تتعدى أكثر، ولا تستهن به، فتجيب دعوته وتذهب إليه كل وقت، ولكن تذهب إليه لصلة الرحم، وتنصحه وأنت ذاهب إليه فتكون دائماً داعية.
والورع باب عظيم وهذا غير مسألة الحرام {فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه } لا بد أن نتقي الشبهات وإن لم تكن حراماً، فمن أمور الشبهات إقرار أمثال هؤلاء وأكل أموالهم.
إن تأجير الدكان أو العمارة على أي بنك من البنوك حرام، وهو من التعاون على الإثم والعدوان، فلا يجوز أن تؤجر المحل للبنك الربوي، وأنا أسأل: هل يجوز أن تؤجر عمارة -الله يحمينا وإياكم- لتكون بيت دعارة.. بيت زنا؟
كأن يأتي أحد الزناة, ويقول لك: نريد محل زنا، فمن يرضى بهذا؟ لا يرضى أحد منا أبداً.
حسناً, درهم ربا أشد من ست وثلاثين زنية، فكيف بملايين الربا تكون في عمارتك!! هذا حرام ولا أحد يناقش في هذا، إذاً لا يجوز أن تؤجر الدكاكين على أهل الربا.
وأيضاً هناك محرمات أخرى غير الربا لا يجوز التأجير عليها وإن كانت أقل حرمة؛ كتأجير الدكان لبيع الفيديو -مثلاً- أو لبيع أشرطة الغناء.
وكذلك الحلاَّق الذي يحلق اللحى.
وكذلك التأجير لتاجر يتعامل في بضاعة محرمة، أو يبيع بضاعة محرمة، كمن يبيع التماثيل أو أدوات اللهو، أو الموسيقى، فهذا تأجيرها عليه حرام.
وهكذا الحلال بيِّن والحرام بيِّن.
حكم إيداع الأموال في البنوك
السؤال: ماحكم إيداع الأموال في البنوك؟
الجواب: إنها مشكلة أن يحتار الواحد منا في فلوسه لا يدري أين يضعها!
أولاً: كلنا في هذه المنطقة، لم يكن عندنا بنوك وآباؤنا في الماضي ماذا كانوا يصنعون؟
لم يكن هذا الخوف موجوداً، ولم تكن الدراهم ورقاً خفية بل كانت فضة وذهباً ثقيلة؛ يضعها في صندوق من الحديد، ومع ذلك حفظوها، وما ضاع منها إلا مثل الذي يضيع اليوم، بل نحن اليوم نضيع أكثر، فالمسروق اليوم أكثر مع أنها الآن خفيفة والبيوت آمنة، ومع هذا هناك من يقول: إنه يخاف عليها, ولكن الشيطان هو الذي يخوفه إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [آل عمران:175] يجئ إلى أوليائه من أهل البنوك، ليزيدوا الناس خوفاً.
واعلموا أن أهل البنوك أحذق الناس في الشر، فمما يخوفون به الناس أنهم يستأجرون من يتكلم, ويقولون له: أنت إذا قعدت مع جماعة، فقل: السرقات كثرت! ما هو الحل؟
ثم تقول: ضعها في البنك وارتاح.
يقول المسكين: جزاك الله خيراً أن نبهتني، فعندي عشرة آلف ريال من الليلة سآخذها إلى البنك.
وهكذا يأتي من هذا عشرة ومن هذا خمسة، واجتمع عند صاحب البنك كذا مليون ريالاً، ثم هو يأخذ الأرباح بالملايين، وهو لم يعمل.
أخذها من خوفي وخوفك وخوف فلان، نخاف مِن مَن؟
نحن نحفظ في بيوتنا العار والعرض وهما أكبر وأغلى من العشرة والعشرين، فلماذا لا نضعها في البنك؟ إذاً الخوف خوف وهمي، وليس خوفاً حقيقاً.
الأمر الثاني: يقول أحدهم: أنا مضطر! أريد أن أتعامل! وأريد أن أسحب! أقول: يا أخي! المفروض، وهذا أمر ليس صعباً فنحن أهل المنطقة عندنا تجار، وعندنا غرف تجارية, وعندنا مشاريع, فنستطيع أن نضع عمارة معينة ونصبها كلها حديد حتى لا نخاف تماماً، ونرتب لها موظفين: ثلاثة أو أربعة، ونجعل عندهم صناديق قوية متينة، وهؤلاء الموظفون أمناء نستأمنهم، كما أن صاحب البنك عندما يستأمن الملايين على ثلاثة موظفين قد يكونون متعاقدين، فنضع فيه اثنين أو ثلاثة وكل واحد يضع فيه عشرة آلاف مثلاً، ونأخذ عليه ريالاً أو ريالين أو خمسة ريالات ونعطيهم منها رواتب، ونعطيهم كمبيوتر، ونعطيهم تلفون، ويكونون ليل نهار قاعدين يحرسون، ويجعل موظفون، والذي يأخذ يأخذ، والذي يودع يودع.
والكمبيوتر يجري جميع العمليات الحسابية كما تشاء، ماذا لك؟ وماذا عليك؟ وماذا صنعت؟ بغير تكلف! فهذه وظيفة الذي يشغل هذا الجهاز، ويكون عنده المال، وفي المدن الكبيرة كل حي يعمل فيه مثل هذا الشيء.
قد يقال: كيف نحول من محل إلى محل؟ هذه ليست مشكلة، فالتحويل يكون بالفاكس, وبالتلفون, وبالكمبيوتر، نربطه بـ جدة وبـالرياض ويحول هذا لهذا، ويعطي هذا لهذا، وأجرة الحوالة حلال، كأن أحول لك وآخذ منك عشرين ريالاً أو ثلاثين ريالاً، والله ما جعل عليكم في الدين من حرج.
إذاً نحن نستطيع؛ لكن هل نريد ذلك؟ لو كنا نريد فنحن نقدر, لقد قدرنا على أشياء ما كنا نحلم بها، الآن بدأنا نقول: نريد أن تتقدم البلد، فنعمل فنادق ضخمة، ونعمل مشاريع ما كنا نحلم بها، أفلا نقدر على هذا، وهي مسألة سهلة؟!
الدول الشيوعية لا تتعامل بالربا، وهم لا يعرفون الله، ولا يعرفون اليوم الآخر.
كل الدول الشيوعية لا تتعامل بالربا، وليس فيها بنوك ربوية، وليس ذهبها مودع عند البنوك الربوية العالمية في نيويورك أو لندن ، وهم شيوعيون لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر؛ لكن قالوا: من باب حقوق الإنسان الربا ظلم، فثاروا على الرأسمالية ، والرأسمالية قائمة على الربا، فثاروا عليها وأصبحوا يتعاملون من غير ربا، وأمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمة القرآن يقولون: لا نقدر! كيف قدر الشيوعي وما قدرت أنت؟!
القضية ليست قضية قدرة، القضية قضية إرادة، هل تريد أو لا تريد!
فالإرادة تستتبع العمل والعمل ينفذ بإذن الله، وإن كنت لا تريد فلن تعمل، وستظل تقول: ياليت..
وإذا أراد واحد منا أن يعمل مشروعاً تجارياً هل يقول: يا ليت؟ لا، بل إنه ينفق ويستدين حتى ينجز عمله.
وإذا أراد أن يتزوج لا يقول: يا ليتني أتزوج بنت فلان، بل يخطب ويدفع المهر ويتكلف؛ كل شيء بجهد، أما إذا جئنا إلى شيء من أمور الدين قلنا: يا ليت فقط من دون عمل فهذا عجيب، فلنتعاون ولنقم بهذا الشيء.
الإيداع يمكن أن نعمل له وسائل، أنا الآن أتكلم على الأمر الواقع, يقول أحدهم: أنا في هذا الظرف، وفي هذه اللحظة ليس عندي إلا هذا البديل، نقول: إن كان ضرورة فلتودع، لكن بدون ربا, وتودع عند الأخف ربوية من البنوك الربوية، إيداعاً بحيث تستطيع سحب المبلغ في أي وقت.
والضرورة معروفة، لا تقل الضرورة وأنت من يوم خلقت وأنت تضع الأموال والفلوس في البنك، وتقول "ضرورة" الضرورة مقدرة بقدرها.
انظروا دائماً إلى ضرورة الميتة فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:173] كيف الضرورة؟
أضرب لكم مثالاً: شخص تجده كل يوم يأكل أكلاً منوعاً، فمرة مقلياً، ومرة مشوياً، ومرة كباباً، ومرة سنبوسة، وتقول له: يا أخي ما هذه؟
يقول: هذه ميته!
تقول له: كيف ميته؟!!
قال: والله ضرورة.
صاحب الضرورة لا يعمل هذا الشيء، الضرورة أن يأخذ لقيمات حتى لا يموت من الجوع، أما أن يتسمن بالأكل كل يوم ويأكل الميته فهذا متلاعب، فكذلك نحن في الربا, فإن كان ولا بد أن نودع أو أن نضع، فالضرورة واضحة، ففرق بين الضرورة وبين أننا نستمر ونتفنن في أنواع الحرام، ونقول ضرورة, فهذا شيء مهم جداً!
ظلم العمال
هذه قضية خطيرة جداً، الواحد يحضر عشرين أو ثلاثين عاملاً، ويتركهم في البلد، ويصبح العامل رقيقاً ولكن بشكل آخر.
الرقيق كانوا موجودين أيام الآباء والأجداد, فكانوا يمسكون الواحد ويضربونه على رقبته حتى يسقط ثم يقولون: عبد بيعوه ظلم واستخفاف، وهؤلاء ثلاثة يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أنا خصمهم يوم القيامة، منهم رجل باع حراً فأكل ثمنه } -والعياذ بالله- فقد كانت عبودية واضحة، يضربون رقبته ويبيعوه.
جاءت الآن عبودية مقننة ومرتبة، يقول أحدهم: آتي به من بلده, وأتحكم فيه، وأشغّله كما أريد، وأعمل كل المظالم، وآكل من ظهره ومن كده، هو يعمل ويكدح وأنا آكل.
وهذا من الحرام أن يأخذ الإنسان مالاً مقابل أنه يكفله، وأن يأخذ منه نسبة معينة فأين العدل؟! إن الله يأمر بالعدل والإحسان، والعدل والإحسان لا يخفيان علينا فهما واضحان، أما الطغيان فهو غير العدل أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ [الرحمن:8] يمكن أن يأخذ الإنسان شيئاً مقابل أتعاب أو جهود، أما أن يكون كسبه ودخله من ظهور خلق الله، يتركهم في أرض الله يلجئون إلى الحلال والحرام ولا يهمه إلا أن يحضروا له آخر الشهر مبلغاً معيناً، سواء عملوا حلالاً أم حراماً، ولا يسأل عنهم أين ذهبوا أو ضاعوا، فهذا من أخبث وأردأ أنواع الكسب -نسأل الله العفو والعافية- سبحانك اللهم وبحمدك نستغفرك ونتوب إليك.
1 - العلم الشرعي ضرورة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، خير معلم للبشرية لم تعرف البشرية معلماً قبله ولا بعده خيراً منه صلوات الله وسلامه عليه، ولا عرفت طلاب علم وهدى وحق مثل أصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وصلى عليهم وعلى التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
سأتحدث -إن شاء الله تعالى- في هذا الموضوع عن أهمية طلب العلم، وعما أعده الله تبارك وتعالى للعالم ولطالب العلم من الفضل والأجر والخير العميم؛ لأننا في زمن شغل الناس وفتنوا بالدنيا، وانصرفوا عن الآخرة إلا من رحم الله، ومن جملة وأعظم ما انصرف الناس ورغبوا عنه هو طلب العلم، حتى أن طلاب العلم الذين يطلبون العلم في المدارس يقل عند الكثير منهم الرغبة في طلب العلم، وحتى أن من يحبون أو يحضرون بعض المواعظ -وفيها خير كثير- قد لا يحضرون ولا يرغبون في تعلم العلم الذي يتفقهون به وهو:
أولاً: في العقيدة والتوحيد ومعرفة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو أشرف العلوم.
وثانياً: في معرفة الحلال والحرام الذي به يعبدون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فكم من عابد على جهالة!
وكم من مشرك أو متلبس بشرك يظن أنه على التوحيد!
وكم من مصلٍّ وصلاته باطلة؛ لأنه لا يقيمها ولا يحسنها!
وكم من حاج حجه باطل؛ لأنه لم يقم به وفق ما شرع الله تبارك وتعالى من الأحكام، وكما حج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!
وكيف نعرف ذلك كله؟ إنما نعرفه بالعلم، وبالفقه وبالتفقه في الدين.
والتفقه في الدين أمر شاق، ولكن أجره عظيم، والمتفقهون أو الراغبون في التفقه في الدين قليل؛ ولكنهم كالنجوم في السماء، وهم الذين يهتدى ويقتدى بهم {عالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد } كما صح ذلك عن بعض السلف وروي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فلا شك أن العلم فضله عظيم، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر:9] لا يستويان أبداً؛ حتى في الحيوان لا يستوي المعلَّم وغير المعلَّم، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل الكلاب نجسة، ومعروف أنه إذا ولغ الكلب في إناء أحدنا فإنه يغسله سبعاً إحداهن بالتراب، وما ذلك إلا لنجاسته؛ لكن هذا الحكم وهو النجاسة في لعابه وريقه إذا كان غير معلم، أما لو كان معلَّماً كان كما قال الله تبارك وتعالى: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:4].
والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصل ذلك لـعدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه لما سأله، ففرق له بين ما إذا أرسل كلبه المعلم، وبين ما إذا أرسل كلبه غير المعلم -سبحان الله العظيم!
إذا كان العلم وهو العلم الصحيح النافع يحول الحيوان النجس إلى حيوان تؤكل فريسته التي يصطادها، فبدلاً من أن نغسله سبعاً أولاهن بالتراب, فإننا نأكله هنيئاً مريئاً، ونشكر الله الذي علمنا والذي سخر لنا هذا الحيوان.
فما بالكم بالعلم! كيف يغير في ابن آدم الذي هو أكرم ما خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70] أكرم ما خلق الله هو هذا الإنسان, وكرمه وشرفه بالعلم.
وأكرم من في بني آدم هم العلماء، لأن الأنبياء هم أفضل الخلق وهم أعلم الناس بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا العلم أشرف العلوم جميعاً، ثم من بعدهم كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث أبي الدرداء {ألا وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم }، فالعلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة } فكل ما يتركه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بعده من آنية أو سلاح أو أرض أو متاع فهو صدقة لا يورث، ما الذي ورّث؟ {وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر }.
لهذا فإن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه لما رأى الناس فتحت وتوسعت عليهم الدنيا، ورأى الانكماش في طلب العلم ذهب يصيح: [[أيها الناس! ميراث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقسم في المسجد ]].
ففرحوا لمحبتهم لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كل واحد ترك بضاعته وشغله، وجاءوا يجرون, وكلٌ يريد أن يأخذ مما تبقى من أشيائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن كانت آنية أو أي شيء من سلاحه ولو من شعره، فهذا مما يتبرك به.
جاءوا وجلسوا وإذا به يقول: [[حدثني خليلي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.., فقالوا: أين الميراث يا أبا هريرة ؟! قال: هذا الميراث، ما ورث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا هذا العلم.. وهذا الهدى.. وهذا النور، ونحن إليه أحوج من كل ميراث ]].
وكما ذكر ابن القيم -رحمه الله- أنه قد يعيش الناس بلا أطباء، ويتداووا بما يسر الله لهم من أعشاب أو مما تعارفوا عليه، والمهم أن يكون حلالاً، لكن هل يمكن أن يعيش الناس وتستقر وتهنأ وترغد حياتهم بلا علم أو بلا علماء؟!
لا يمكن؛ ولهذا بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما في الحديث الذي ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن العلم قال: {إن الله لا ينزع العلم انتزاعاً يأخذه من صدور العلماء، ولكن ينزعه بموت العلماء، فإذا مات العلماء اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا }.
ففي آخر الزمان حيث لا يذكر فيه الله، ولا يقال: لا إله إلا الله لقلة العلماء، ليس فيهم عالم يفقههم ويبين لهم.
والجاهلية التي كانت قبل بعثته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محاها الله ببعثته، محاها بالتوحيد وبالوحي والعلم الذي آتاه الله إياه، لكن لها عودة، فترات وتعود، أما الجاهلية المطلقة فإنها لا تعود بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً؛ لأن الله تعالى تكفل وتأذن أنه لابد أن تبقى وتظل طائفة قائمة على هذا الدين حتى يأتي أمر الله، وهو الريح الطيبة التي تقبض أرواح المؤمنين قبيل قيام الساعة، ويبقى شرار الخلق وعليهم تقوم الساعة، فلا يكون ذلك إلا بهلاك أو بذهاب أو باضمحلال أو فقد العلم الذي ينتفع به الناس.
ستظل طائفة على الحق؛ لكن الجاهلية تأتي على طوائف، وعلى مناطق، وعلى أمم، كما كان عندنا في جزيرة العرب ، كانت جزيرة العرب قبل دعوة محمد بن عبد الوهاب -رحمة الله عليه- في ظلام؛ بل إنها رجعت إلى الجاهلية الأولى، حتى بعث الله عز وجل الرجل الذي يجدد هذا الدين -ولله الحمد والفضل والمنة- فيمكن أن تعود الجاهلية في أي مكان، ولكن سرعان ما ترتفع الجاهلية عن هذا المكان أو عن هؤلاء القوم بالعلم؛ لأنه الذي ينور الله تبارك وتعالى به القلوب يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].
والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عندما بين لنا ولخلقه أجمعين أعظم قضية تهم الإنسان في الدنيا فيها أعظم شاهد وأعظم شهداء.
فما هي القضية؟ ومن الشاهد؟ ومن الذين استشهد بهم؟
قال الله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18] أعظم قضية في هذه الدنيا وفي الوجود كله هي: قضية التوحيد، وهي الشهادة لله تعالى بالوحدانية وأنه لا إله إلا هو، وأعظم شاهد هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك بدأ بنفسه الكريمة -سبحان الله- قال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ [آل عمران:18].
ثم ثنى بالملائكة ولا غرابة, فالملائكة عباده المكرمون لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] فجعلهم الله تعالى شهداء.
والثالث: اختار من خلقه شهداء يشهدون معه -وهو أعظم شاهد- في أعظم قضية؛ فلا بد أن هؤلاء المختارين هم خير وأفضل الناس.
ولم يستشهد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالملوك ولا بأهل المناصب والجاه والدنيا، ولا بأهل الأموال، ولا بأهل الأحساب والأنساب الرفيعة؛ لكن قال: وَأُولُو الْعِلْمِ [آل عمران:18] فجعل أعظم الشهود معه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومع ملائكته الكرام هم أهل العلم، ولذلك قال: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ [الشعراء:197]، وكل علماء بني إسرائيل يعلمون أن هذا الدين حق يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146].
لكن وجد منهم من أداها مثل عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فقد أدى الشهادة وشهد أن هذا هو الرسول الذي كنا ننتظره, وشهد أن هذا هو الدين الحق.
2 - حال اليهود وموقف عبدالله بن سلام عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة
أول ما قدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مهاجراً من مكة إلى المدينة ، ظهر وصعد أحد أحبار اليهود وقال: يا بني قيلة! يا بني قيلة! هذا صاحبكم الذي تنتظرون، وهو من أحبار اليهود الذين لم يؤمنوا.
يقول: يا بني قيلة -وهم الأنصار الأوس والخزرج- هذا صاحبكم الذي تنتظرون، وما يزال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعيداً، والسراب يحول بينه وبين الناس.
فقد عرفوا أنه الحق, وعرفوا أنه هو الرسول، وأن هجرته ستكون، وأنه سيأتي من هذا الطريق، لأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فـعبد الله بن سلام رضي الله عنه وهو من أحبارهم وعلمائهم الذين نور الله قلوبهم وطلبوا الحق وأرادوه يقول: { فجئت إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو يخطب الجمعة بـقباء , وهي أول خطبة وأول جمعة في الإسلام، قال: فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب صلوات الله وسلامه عليه }.
ما هذا الوجه بوجه كذاب ولا طالب دنيا, أو طالب مال, أو شهوة, أو شهرة، فالصدق والنور واليقين يلمع من جبينه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم جلس وسمعه وهو يقول: {أيها الناس! أطعموا الطعام, وصلوا الأرحام, وأفشوا السلام, وصلوا بالليل والناس نيام, تدخلوا الجنة بسلام } هذه خطبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعاها قلب عبد الله بن سلام رضي الله عنه.
فلما استشهد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على أن هذا الدين حق، كان من علماء بني إسرائيل ممن شهد بالحق، وهو هذا الرجل العالم رضي الله عنه، ومنهم من لم يشهد؟ قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً [النمل:14] فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]. وكيف لا يكذبونك؟ ألم يقولوا: إنه كذاب, وكاهن, وساحر, وشاعر، فهم لا يكذبونك، أي: لا يعتقدون في أنفسهم أنك كاذب، لكن يكذبون بأفواههم وهم يعلمون أنه الحق، فالشاهد من هذا هو: شهود من استشهد الله بهم، منهم من يقوم بالشهادة ومنهم من لا يقوم بها.
3 - فضل العلم والعلماء
أما من قام بها فقد قام مقام الأنبياء، كما قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه -بعد موت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قام بها في حروب الردة، وأيضاً قام بها الإمام أحمد رضي الله عنه وأرضاه، ومما أثر في هذا أنه قيل: 'قام أبو بكر في يوم الردة، وقام أحمد بن حنبل في يوم المحنة' .
هذا مقام الأنبياء أنهم صدعوا وجهروا وقالوا كلمة الحق، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله }، {وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب }.
وفرق بين من يعبد الله على جهل أو يفتي بجهل، وبين من يعبده بالعلم أو يفتي بالعلم، وهذا من خير ما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لا حسد إلا في اثنتين -أي لا غبطة-: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها... } والحكمة لا تكون إلا على علم، وكذلك البصيرة لا تكون إلا على علم.
4 - حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً وما فيه من الدلائل على فضل العلم
انظروا إلى الرجل الذي ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قصته في التوبة، وكلنا محتاجون إلى التوبة.
هذا الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً, مائة إلا واحداً، قتلهم ظلماً وعدواناً، فذهب وأراد أن يتوب فقيل له: هذا فلان فدل على عابد جاهل، عابد ترك الدنيا، وترك الشهوات، وانقطع عن الخلق في صومعة للعبادة، ولكنه جاهل لا يعرف الحق ولا يفتي ولا يقضي به، فذهب إليه وقال: قتلت مائة إلا واحداً هل لي من توبة؟
فاستعظم ذلك!! مائة نفس إلا واحدةً! فقال العابد: لا أجد لك توبة.
فقال: إذاً ما فائدة الحياة، فأكمل به المائة.
الفتوى الجاهلة أدت إلى تقنيطه من رحمة الله، وأيضاً أدت إلى قتل هذا المفتي بغير علم، فأكمل به المائة.
ثم دل على عالم فذهب إليه, وقال: قد قتلت مائة نفس، فهل لي من توبة؟
قال العالم: ومن الذي يمنعك من التوبة.
ثم قال له: اذهب إلى أرض كذا فإنها أرض خير, ودع قريتك هذه فإنها أرض سوء، ثم قبضه الله في الطريق، فاختصمت فيه الملائكة وشملته رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعد ذلك.
والمقصود أننا نعرف الفرق بين من يفتي بغير علم، وإن كان زاهداً, وورعاً عن الدنيا, ومجتنباً المحرمات، وقد يؤتى بعض الجهال بياناً وفصاحة، لكن إذا لم يكن على علم بما قال الله وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يكن أيضاً على فقه في الدين فلا خير فيه، فقد تنقلب هذه الفصاحة وبالاً وخساراً على صاحبها، نسأل الله العفو والعافية.
أما العالم فإنه ينفع الناس وينتفع منهم كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الله وملائكته وخلقه -أو قال: والدواب- حتى الحيتان في جوف الماء، وحتى النملة في جحرها ليصلون على معلم الناس الخير } يصلون عليه: أي يدعون ويستغفرون له كل شيء حتى الحيتان في جوف الماء، وحتى النملة في جحرها، كلها تستغفر لهذا العالم الذي طلب العلم لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, والذي نفع اللهُ تبارك وتعالى بعلمه، فعلم الناس ما هم أحوج ما يكونون إليه.
ومن فضل العلم والعلماء ما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:28].
فالذين يخشون الله في كل حركة وخطوة, وفي كل كلمة, هم العلماء: العلماء بالله، والعلماء بأحكامه الله وبدينه، فأما العلماء بالله فهم يعلمون أن الله عز وجل عظيم، وقدره عظيم، ليس كأحبار اليهود الذين قال الله فيهم: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].
جاءوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا له: يا محمد! بلغنا أن الله يوم القيامة يضع الأرض على ذه، والجبال على ذه، والشجر على ذه، فضحك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصديقاً لقوله وقرأ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67].
كلامهم هذا حق، لكن لم ينفعهم، فهم يعلمون أنه بهذه العظمة والكبرياء، والعزة سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن لم ينتفعوا به، فالذي ينتفع بذلك هو العالم الذي له هذا الأجر وهذا الفضل, وهو العالم بالله الذي يخاف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, ولذلك إذا خافوا الله لم يخافوا من أي مخلوق كما قال الله عنهم: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب:39] ولهذا كان قيامهم مقام الأنبياء أنهم يصدعون بالحق، ولا تأخذهم في الله لومة لائم كائناً من كان، لا يخافون أن يغضب عليهم الناس، أو يغضب عليهم السلاطين أو الملوك أو الظلمة من أي نوع، لأنهم يبلغون عن الله، ولأنهم أمناء على هذا الدين، ولذلك يخشون الله ويعرفون قدره فكيف يخافون غيره!
دخل بعض العلماء على بعض سلاطين الظلم فيما مضى وقد قيل له: إن السلطان يريدك في أمر مهم، ولكن نخشى إن ذهبت إليه أن يقتلك.
فقال: توكلت على الله, ودخل عليه وكلمه وخاطبه وأمره ونهاه وأغلظ عليه، ثم خرج من عنده.
فلما خرج سألوه: كيف فعلت؟
قال: تذكرت عظمة الله عندما دخلت عليه، ورأيت عظمته وجنوده وملكه، فأصبح أمامي كالهر!
فعندما يتذكر الإنسان عظمة الله تهون أمامه عظمة أي إنسان كائناً من كان.
هذا المخلوق الذي قد يرجئ أو يخشى أو يسكت عن كلمة الحق، سيكون يوماً على آلة حدباء محمول.
يوماً ما سيحمل ويلقى في ذلك الموضع الذي يعرفه كل أحد، والذي سينتهي إليه كل واحد، لكن هذا العالم لو سكت وداهن وخاف منه ممن إذاً سيتكلم! وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187] يسأله الله يوم القيامة لماذا لم تبلغ دين الله؟
5 - خشية الله وقول الحق
وأعظم ما يجب أن يتأدب به طالب العلم هو: خشية الله ومعرفة الله، فمن عرف الله عز وجل فقد عرف كل خير، ومن جهل ربه ولم يعرف قدره فمهما حوى من العلم فهو كما ضرب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المثل بعلماء بني إسرائيل كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5] علماء بني إسرائيل لم يكن ينقصهم العلم، ولكن كان ينقصهم قول الحق والعمل به كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79] أي لا ينهون أتباعهم عن قولهم الإثم وأكلهم السحت.
كانوا يرون المنكر فيأمرون أول الأمر ثم لا يمنعهم بعد أن يكون أحدهم لفاعل المنكر قعيداً وأكيلاً وجليساً، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض, ولعنهم على لسان دواد وعيسى بن مريم، نسأل الله العفو والعافية.
مع أنهم علماء لكن أخفوا أحكام الله وغيروا وبدلوا دينه، كما حدث ذلك في عهده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن قدم المدينة أن زنى رجل بامرأة، فلما فعلا الفاحشة المحرمة، قالوا: قد جاءنا هذا النبي وهو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويعلمون أنه نبي، ويعترفون بذلك فيما بينهم، فلنذهب إليه فإن أفتانا بشيء غير الرجم قبلناه، وإذا سألنا ربنا يوم القيامة قلنا: يا رب! هذا نبيك بعثته وأخذنا بحكمه، وإن لم يفتنا به عدنا إلى ما كنا نعمل. فالمسألة كما هو حال كثير من الناس، وهذه القضية مهمة.
وحذيفة بن اليمان رضي الله عنه لما سمع رجلاً يقول في قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] قال -وهو صادق-: هذه في بني إسرائيل -وهذه سوف نذكر قصتها قريباً- قال حذيفة رضي الله عنه: [[نِعْمَ أبناء عم لكم اليهود، ما كان من حلوة فهي لكم، وما كان من مرة فهي لهم ]]، معنى هذا الكلام أننا إذا جئنا وقرأنا كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] قلنا هذه في أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وإذا قرأنا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة:143] قلنا: نزلت فينا هذه الآية.
وإذا قرأنا قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32] قلنا: هذه فينا والحمد لله، وإذا جئنا وقرأنا قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] قلنا: هذه نزلت في اليهود.
وقوله: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [المائدة:78] قلنا: هذه في اليهود، ونحن من أمة محمد، ونحن على خير! وهكذا. فيقول حذيفة : [[نعم أبناء العم، لو كان الأمر كذلك ]] أي كل شيء فيه مدح فهو لنا، وكل شيء فيه ذم فهو على اليهود.
وقد فسر الصحابة والتابعون المغضوب عليهم: باليهود، والضالين: بالنصارى.
وقال ابن عباس وسفيان بن عيينة رضي الله عنهما: [[من ضل من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن ضل من عبادنا ففيه شبه من النصارى ]].
هؤلاء اليهود لما غيروا حكم الله، وبدلوا دينه، قالوا: {سلوا محمدا عن ذلك فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه فسألوه } وكان الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد سبق وأنزل الوحي عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين له الحكم، وقال: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ [المائدة:43] فالحكم في التوراة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستطيع أن يقول: الحكم الرجم، فارجموهم.
هنا الشاهد؛ حتى يعلم أن هؤلاء علماء ضلالة، وأنهم ما أتوا في أمور أخرى، فلم جاءوا هذه المرة. قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما تحكمون في هذا أنتم؟
قالوا: نحن نحكم أن يجلد ويحمم وجهه ويطاف به في الأسواق.
قال: هل هذا الحكم في التوراة؟
قالوا: هذا الذي في التوراةُ.
قال: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:93] فاتفقوا كلهم على حذف هذا الحكم من التوراة فأخذ أحدهم يقرأ -وتعلمون أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمي, ولكن الله عز وجل يظهر الحق له دائماً، وكان شاهد بني إسرائيل موجوداً- فوضع القارئ يده على آية الرجم وتجاوزها لأنهم لا يريدون حكم الله ويكرهون ما أنزل في التوراة، لأن فيه فضيحة على العاصي، فلجئوا إلى تبديل حكم الله } .
وهذا ذنب على ذنب، أولها غلط وتبديل لكلام الله، وآخرها تبديل لدين الله، وغمط وجحد لما أنزل الله.
{فقال له عبد الله بن سلام رضي الله عنه: ارفع يدك! فإذا آية الرجم تظهر فقرأها عبد الله فقال: هذه يا رسول الله، والله تعالى قد أخبر نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمر بهما فرجما.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما الذي حملكم على ذلك؟
قالوا: كنا قد أقمناه زماناً، ثم فشا فينا الزنا وانتشر في أشرافنا } كما قال الله: رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا [الأحزاب:67] إنهم الكبراء والوساطات، فإذا زنا ابن الفلاح, قالوا: ارجموه؛ لكن إذا زنا ابن الأمير أو كبير من الكبراء في بني إسرائيل قالوا: لا، هذا لا يرجم. فاستمروا على هذا يرجمون الضعفاء ولا يرجمون الكبراء، كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإذا سرق فيهم الشريف تركوه } فالذي ليس لديه وساطة، لا في شرطة، ولا في محكمة يقيمون عليه الحد، أما الشريف فلا؛ لأن شرفه وشفاعته تحول بينه وبين الحد فلهذا يتركونه.
ثم اصطلحوا على حكم مناسب للقوي والضعيف، فقالوا: نجعل التحميم والتشهير والجلد؛ فإن كان ضعيفاً تحمم ومشى إلى سبيله، وإن كان من أولاد الكبراء فيصبر على التحميم قليلاً، لكن الكل لا يرجم, وقالوا: هذا حل وسط.
ولكن هل هذا حل وسط حقيقة؟!
كثير من الناس من العلماء وطلاب العلم والقضاة -وكلنا نحتاج أن نفقه هذا الشيء- يحكمون أو يقضون بغير ما أنزل الله ويظنون أن هذا من قبيل الإصلاح إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً [النساء:62] ويقولون: ما قصدنا إلا الخير، ونريد أمراً يرضي الجميع.
لكن لا يجوز ذلك أبداً، ما كان من حكم الله فينفذ، وما كان من صلح لا يحلل حراماً أو يحرم حلالاً فهذا له أبواب أخرى.
المقصود أن هؤلاء الناس الذين كانوا على علم، ولكن كانوا على غير الحق والهدى، وباعوا دينهم وعلمهم من أجل أبناء الأشراف, ومن أجل الزنا الذي انتشر فيهم، وهم من أشراف القوم نسأل الله العفو والعافية.
إذاً من أعظم ما يجب أن يتحلى به العلماء وطلاب العلم هو خشية الله وقول الحق كما قال الله تعالى في أوصافهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54].
وإذا الأمة ركنت واستكانت، وطالب العلم والداعية لم يقل كلمة الحق، وانتشر المنكر وطغى، وظهر الفساد في البر والبحر، فالأمر كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14] ولن يضيع دينه أبداً.
بل يذهب الله بهؤلاء ويأتي بقوم أول صفة من صفاتهم أنهم يحبهم ويحبونه، ومن أحب الله فإنه لا يقدم على مرضاته شيئاً، ومن أحبه الله حفظه وعصمه وأنجاه بإذن الله تعالى، وبعد ذلك فإن قوتهم وشدتهم وغلظتهم تكون على الكفار، أما على المؤمنين فإنهم رحماء فيما بينهم, بل هم أذلة على المؤمنين، ثم إن من صفاتهم أنهم يجاهدون في سبيل الله، وهذا العلم جهاد, بل هو أفضل الجهاد، كما بين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {نشر العلم جهاد }، بل قد جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث بإسناد حسن أنه قال: {إن الشهيد الذي قتل في سبيل الله إذا رأى أجر العالم يوم القيامة يتمنى أنه كان مكانه } فالشهيد الذي هو أعظم الناس أجراً، يتمنى أن يكون عالماً عندما يرى الخير والبركة لهذا العالم، ولطالب العلم الذي كان يعمل بالحق وينشره، ويعلم الناس الحق والخير. مع أن الجهاد باليد هو ذروة سنام الإسلام.
حتى قتال الكفار إن لم يكن على علم وإن لم يكن قادته علماء كما كان شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمة الله عليه وغيره من العلماء الأفذاذ يقودون المعارك، إن لم يكن كذلك؛ فإنه قد يدخله الخلل وقد يدخله الدخن، لابد أن يكون المجاهد على علم: من يجاهد, ومتى يكون الجهاد، وما هي أحكام الصلح، وما هي أحكام الرق.. إلخ, وكل ذلك نحتاج فيه إلى العلم.
فلا يستطيع أحد أن يستغني عن العلم في حال من الأحوال، ولهذا أمر الله تبارك وتعالى الناس فقال: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] الواجب علينا أن نسألهم، ولا خير في الدنيا بعد ذلك كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً أو متعلماً } إن لم تكن عالماً فكن متعلماً، وقليل من الناس من يكونون علماء، وهذا شيء معروف فكن طالب علم {من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة } حتى تكون معه وتحشر معه و{المرء يحشر مع من أحب } ويحشر الخليل مع خليله يوم القيامة، ولا نعني بطالب العلم الذي تفقه وتخرج من كلية الشريعة ويخطب الجمعة فقط، مع أن هؤلاء طلاب علم في نظرنا، لكن طالب العلم هو الذي يطلب علم الكتاب والسنة ولو كان في أي مكان.
تعلمون أن بعض الناس يتعلمون ويتفقهون على الإذاعة! وكلكم تتابعون برنامج نور على الدرب، والله إننا نعيش في نعمة لا تقدر والحمد لله على ما فينا، نحن الآن نستطيع أن نطلب العلم ونعمل ونتعلم والحمد لله، وهناك دول قريبة منا على حدودنا لا يستطيع الواحد أن يقرأ كتاباً واحداً، ولا أن يطلب علماً، ولا أن يلتقي بشيخ وهم يتعلمون عبر برنامج نور على الدرب! وبرامج أخرى في الإذاعة يستمعون إليها، ولذلك كم يأتي من العراق ، ومن غيرها, لكي يتفقهون ويتعلمون.
ونحن والحمد لله عندنا كثير من الوسائل، فحلقات العلم يجب أن نحضرها ونحييها، وعندنا أيضاً إذاعة القرآن الكريم ولا نعني التي فيها غناء وموسيقى.
فالوسائل كثيرة، والمهم أن تكون طالب علم وأن تتعلم العلم، وهذا من أعظم الآداب فيه وهو أن تأخذه عن أهله -أهل الذكر- وأن تأتي البيوت من أبوابها وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189] وهذه قاعدة عامة في ديننا، والمقصود بها: ليس مجرد إتيان هذا الباب أو ما فسرت به من تفسير، كل ذلك إن شاء الله حق؛ لكن كل شيء يؤتى من بابه، ومن أبواب العلم أن تأخذه عن أهله، وتتأدب بآداب أهله وشروطه.
6 - التأدب بآداب طلب العلم
في الحقيقة كثير منا لا يتأدبون بآداب طلب العلم، فلو جاءنا عالم -مثلاً- ونرجو أن يأتينا العلماء إن شاء الله، فيجب أن نتأدب معه ونعرف ما الذي نسأله، وكيف نسأله، وكيف نستفيد من علمه.
الصحابة رضوان الله عليهم كان أحدهم ينتظر السنة والسنتين يسأل عن مسألة من مسائل العلم.
وكان عبد الله بن عباس حبر هذه الأمة ينام عند عتبات العلماء من الصحابة مثل زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه وينتظره حتى يخرج.
ونحن الآن لا نراعي وقت راحة العالم فنتصل بالهاتف وندق الباب، وربما نسأل عن شيء معروف قد تكلم فيه مئات المرات ونعرف حكمه أيضاً، نحن ينبغي أن نعرف ما الذي نسأل عنه، وبعض الناس في الطريق يفكر: ماذا أسأل! مما يدل على أن هذا ليس بطالب علم؛ وهذا دليل على أننا نجهل من ديننا شيئاً كثيراً.
إذا كنت تتفكر ماذا تسأل الشيخ ابن عثيمين -مثلاً- إذا جاء المنطقة، فهذا يدل على أنه ليس معك شيء من العلم.
والمفروض أننا نعرف جهلنا حتى نسأل، ولذلك نحرص على أن نسأل العلماء فيما يهمنا، أنا -مثلاً- عندي أمر من الأمور الدينية، في عبادة من عباداتي، أو في التوحيد -وهو أعظم شيء- أعرف هل هذا شرك أو توحيد، هذه بدعة أو سنة، هذا حلال أو حرام!
آتي إلى الشيخ وأسأله عن شيء أنا أعيشه، عن قضية أنا أعانيها وأعلم بها، كما أوصى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوفد عبد القيس: {بلغوا من وراءكم } فأنا آخذها وأحفظها وأعيها وأبلغها كما قالها العالم وأبلغها لقريتي.. وجماعتي.. وقبيلتي، لأن هذه كلمة من عالم وهي حق، فإذاً أنا أبلغها.
7 - النهي عن كثرة المساءلة
وحتى نتأدب جميعاً بآداب طالب العلم لا بد أن نحرص على ما ينفعنا ولا نستكثر من المسائل.
ولهذا يقول الشعبي وهو من التابعين -رضي الله تعالى عنه- لما رأى الناس يتدافعون عليه، ويذهبون من تابعي إلى تابعي في أيامه، قال: [[لو أن القرآن أنزل على هؤلاء لكان عامته يسألونك ويسألونك -من كثرة ما يسأل الناس- ولكن ليس فيه إلا بضعة مواضع ]] وهي ثمانية مواضع في القرآن الكريم كلها (يسألونك) لكن لو نزل القرآن عندنا اليوم, كم يسألونك؟ كل شيء يسألونك.
{إنما أهلك من كان قبلنا كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم} ، وهذا واقعنا اليوم.
بعض الناس في الحج -كمثال وهذا نحن نعيشه في كل موسم حج- يسألك عن لقط الجمار، هل يجوز أن ألقطها من منى أو من مزدلفة ؟
فيجاب: الحمد لله, لا بأس، إن أخذتها من منى أو مزدلفة أو من أي مكان فلا حرج، لكن أين وقفت يوم عرفة ؟
فيقول: الحمد لله تحت الجسر، أي وقف تحت الجسر إلى الغروب.
قلنا: تحت الجسر ليس من عرفة .
قال: لكننا وقفنا.
نقول: أنت جئت تسأل عن شيء هين ولم تسأل عن الشيء الهام، أنت تركت ركن الحج، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{الحج عرفة } وكثير من الناس بل آلالاف يحجون ولا يقفون بـعرفة ؛ لأنه يقف في عرفة تحت الجسر ويظن نفسه أنه فعل الواجب.
هذا لأنه ما اهتم، وما تفقه كيف يحج وأين يقف؟ لكن رأى واحداً يفتي بالميكرفون والناس عليه يتجمعون، قال: أذهب وأسأله عن الحجارة وأنا على الطريق.
وحتى في صلاتنا بعض الناس لا يحسن الفاتحة، ويأتي ويسألك في قضايا يقول: سمعنا أن هناك أناساً على جهالة أو على ضلالة هؤلاء يوم القيامة هل يدخلهم الله النار أو الجنة؟
فتحتار في أمره, وماذا تقول له! أتقول له: هؤلاء أهل فترة وفيهم خلاف وتشرح له في واد بعيد، ولو قلت له: تعال اقرأ الفاتحة فلا يجيد قراءتها، أو سألته: ما هي أركان الصلاة؟ لا يعرفها، إذاً ما الفائدة؟!!
يا أخي! هذا القرآن جعله الله موعظة، وكان العلماء من عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم ينهون عن سماع القصص وهي مواعظ خير، وبعضها حق أو أكثرها ولكنهم كانوا ينهون عنها.
حتى لا تكون على حساب العلم والتفقه في الدين.
فالإنسان الذي لا يعرف معنى لا إله إلا الله ولا يعرف الشرك -وهو أعظم ذنب قد يقع فيه- ثم يظن أنه في حاجة إلى دقائق العلم، وهكذا.
حدث ذات مرة أن رجلاً سأل سؤالاً غريباً -لاداعي لذكره- فقلت له: أنت تقرأ القرآن فقال: الحمد لله، فقلت: أنت تعرف معنى قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، ما معنى الفلق؟ وغاسق إذا وقب؟ والنفاثات في العقد؟
قال: والله ما أعرفها، وهذه في السور الذي يحفظها الطالب المبتدئ وكل أحد، ثم تأتي وتسأل عن أشياء غريبة, كمثل ما يسأل في البعض في قوله تعالى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ [يوسف:20] كم الدراهم؟ وبكم باعه إخوانه؟
حسناً إذا كانت عشرة دارهم أو مائة، ماذا يضرك وماذا ينفعك؟ أهم شيء أن تعرف أنت ما الذي يجب أن تعلمه حتى تعمل به.
هذا الواقع اليومي الذي نعيشه نجد النقص عند الناس في هذا الجانب من الآداب, وهو جانب عظيم من آداب طالب العلم وهو ينقصنا جميعاً، هذا الجانب: أننا لا نسأل إلا بقدر؛ ولا نسأل إلا فيما يهمنا، وأن يكون همنا أن نسمع ونتلقى، فإذا تلقينا شيئاً وعزمنا على أن نعمل به، فلن نحتاج إلى أن نسأل كثيراً، ولهذا قلَّت أسئلة الصحابة.
وكان الصحابة رضي الله عنهم يفرحون إذا جاء الأعرابي من البادية لأنه -جاهل- يتجرأ، ويسأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم يعون ويفقهون، لكنهم لا يتجرءون أن يسألوا؛ لتأدبهم مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونحن نحتاج إلى من يعمل بما علم ومن يسأل عن شيء ويلتزم العمل به.
بقي بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- في سورة البقرة ثمان سنين مثل ابن عمر رضي الله عنه حتى يتعلمها فقال: [[كنا لا نتجاوز الآية من القرآن حتى نحفظها ونفقهها ونعرف ما فيها من العلم والعمل، فأوتينا الإيمان قبل القرآن ]]، أما الآن فإن الناس بالعكس.
والحمد لله ومن فضل الله علينا وعلى الأمة جميعاً أن الواحد منا يدخل التحفيظ أربع سنوات أو خمس سنوات ويحفظ من القرآن ما وفقه الله ويسره له، وهذا شيء جيد، لكن في جانب التربية لا ينبغي أن نعطي القرآن قبل الإيمان، بل يجب أن نعطي الإيمان قبل القرآن، فالإيمان قبل القرآن.
والتأدب بآداب القرآن وآداب حملة القرآن قبل تعليم الناس أحكام الحلال والحرام شيء هام، وإلا كان ذلك حجة لهذا الصاحب، ألا ترى أن بعض من تعلم وتفقه في الدين وأخذ الشهادة في ذلك يُضل ويَضل، ويقطع طريق الدعوة والخير على أهل الخير والدعوة، يأخذه الناس قدوة وحجة -والعياذ بالله- وإذا أخذ الناس مجرد العلم بغير أدب، فهذه مصيبة تحل على الدعوة.
فلا بد من خشية الله، تقواه، ومن الإخلاص له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبذل لهذا العلم في سبيله عز وجل، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يبارك لنا ولكم.
8 - الأسئلة
حكم إحياء ليلة العرس بالموسيقى والدف
السؤال: ما حكم إحياء ليلة العرس بالطرب والدف وإحضار بعض المطربين لهذه المنطقة لإحياء ليلة العرس، ثم بعد ذلك الإسراف والبذخ في هذه الأيام؟
الجواب: الموضوع يحتاج في الحقيقة إلى لقاءات، لكن لعلنا نأتي على بعضه.
أولاً: يقول الله تبارك وتعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58] فضل الله ورحمته قيل القرآن، وقيل النبوة أي بعثته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقيل الإسلام، وكله حق، وأعظم ما يفرح به فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس:58] هو الإيمان بالله وتقواه ومعرفته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثم أذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا وقد بعث نبيه بالحنيفية السمحة، وجعل لنا في هذا الدين فسحة لنفرح ونبتهج، وأن نظهر فرحنا، ولهذا جعل لنا عيدين أبدلناهما بيومي الجاهلية لنفرح فيهما ولله الحمد والمنة.
كما شرع لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفرح بالزواج، أو الفرح بالمولود إذا رزقنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مولوداً، وما أشبه ذلك مما هو في حدود الحلال.
ثم أتينا نحن وماذا فعلنا -وخاصة في بعض المناطق؟- جعلنا الفرح مهرجاناً للمعاصي يجمع الإنسان شروراً ومعاصي مركبة من أجل ما أعطاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ورزقه بفتاة طيبة خطبها من أسرة طيبة كريمة وتزوجها.
منَّ الله عليه بهذا الزواج، وهذه نعمة من الله عظيمة، بل هو خير متاع الدنيا كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول: لا بد من فرح, ولابد من طرب يسمع به القاصي والداني.
التبذير والإسراف في الولائم لا يجوز يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء:27].
وقد يكون الإنسان ممن أعطاه الله مالاً فأسرف فيه، وقد حرم الله الإسراف والتبذير، وهو في الأصل من حلال بل مأمور به, هذا الفرح نعبر عنه كما سنه لنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالدف! لكن هل الدف للرجال؟! أعوذ بالله من ذلك هل هناك رجل يأخذ الدف ويضربه..معقول!! رجل يأخذ دف أو طبل ويضربه.
قالوا: إنه يحصل في المباريات لكنني ما صدقت؛ حتى رأيت رجلاً يحمل دفاً وطبلاً.
الدف للنساء في العرس فقط، هذا الذي شُرع وأذن به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيجتمع الناس ويفرحون، وتجتمع الجماعة ويتعشون، ويتغدون جميعاً ثم يباركون ويهنئون ويعبرون عن الفرحة وهذا نعرفه والحمد لله وهو المشروع.
أما الاجتماع الذي جاء في السؤال تسميته "إحياء" فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [الأنعام:122], وهم يقولون: جاء مطربون وأحيوه!! وهذا والله قتل وموت، موت للقلوب بهذا الطرب واللهو واللعب.
والحياة هي بالقرآن الكريم وبذكر الله أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] فإذا كان الوقت مناسباً -ولا نجعل ذلك دائماً أو قاعدة عامة- واجتمع الناس، وجاء إنسان وأعطاه الله حظاً من العلم فوعظنا وذكرنا، من ضمن ما قد يكون في البرنامج، ودون أن نلتزم بهذا الشيء ونجعله قاعدة أو سنة، لكن أقول: لو حصل ذلك نكون قد أحيينا العرس مرتين، أحييناه لما جئنا وهنأنا وأكلنا واجتمعنا على الخير، وأحييناه أيضاً بذكر الله، أما أن يؤتى بالمطرب ويقال: مطرب, ولا يوجد شيء رجال مع رجال، ثم بعد ذلك مطربة, وبعد ذلك مطرب ومطربة, وبعد ذلك فرقة, وبعد ذلك الفرقة المختلطة والجمهور المختلط!
وهكذا طريق الشيطان يبدأ بخطوة، ثم يزين ما بعده ثم ما بعده، وإذا بها فرق، وإذا بنا تطورنا وتقدمنا كما يقولون.
كنا نجتمع في أي مكان, قالوا: لا بد من فندق أو من صالة، حسناً، وإذا بالصالة، قالوا بعدها: المطرب, ماذا يفعل هذا المطرب؟ لا يجوز أن يستقدم هذا المطرب، ومن جاء به فهو آثم ومن استمع إلى لهوه وطربه فهو آثم، وهذا الذي قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحذر منه في آخر الزمان عندما قال: {يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف } جعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سماع الموسيقى قرين الزنا -والعياذ بالله- وقرين لبس الحرير المجمع على تحريمه عند المسلمين قاطبة؛ هذا آثم, فلا يقال: لا يأثمون هم ولكن الذي يأثم المطرب ومن حضر الحفل فقط؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لكنا في أمر أخف؛ لكن نأثم نحن -المجتمع- جميعاً إن لم يكن فينا من ينكر، وأول من يجب عليه الإنكار من ولاه الله تعالى الأمر.
أعني: الإمارة والهيئة، هذا أول من يجب عليه أن ينكر هذا المنكر؛ لأن هذه مسئوليته قال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ [الحج:41] يعني ملكوا وحكموا أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41] فيأثم المسئول في المنطقة أو في المدينة بعدم إنكار هذا المنكر، فإن لم تقم الجهات المسئولة بواجبها أيضاً، فيأثم أهل الشأن, وأهل العلم هم أهل الشأن.
ومن المشاكل التي تقع -وهذا شيء معروف في هذه المناسبة- أن يتخلى من له الشأن، ومن بيده الأمر عن إنكار المنكر، فيأتي شباب يغضبون لله ولا يصبرون على المنكر، ويعلمون ما أعده الله من العذاب لمن لم ينكر المنكر، فيتجرءون وينكرون، فيقولون: ذهبنا وأنكرنا المنكر، وما قلنا إلا الحق وقلنا: اتقوا الله, وقلنا: هذا حرام, وقلنا: هذا منكر، ثم ماذا تكون النتيجة؟
تكون مشكلة، وعداوة، وحقد، ويتهم الشباب بكل تهمة، ويتجرأ الكبار ويقولون: ما أنكر إلا ولد فلان وولد فلان والذين هم كذا وكذا، بينما العلماء والدولة ازدروا الذي ينكر، فانظر المشكلة كيف تتطور! وبعد أن كان منكراً بسيطاً يمكن أن ينتهي بمجرد كلمة من هاتف مسئول في هيئة, أو في الإمارة, أو في شرطة، أو في أي عمدة, أو عريفة...إلخ.
وإذا نظرنا إلى الموضوع رأينا أننا صرنا فرقتين:
الأولى: أهل الشأن، ومعهم الجمهور كما قال تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه ِ )[الأنعام:116] فأكثر الجمهور يريدون الطرب، وثلاثة أو أربعة ليس لهم قيمة ولا اعتبار!!
فأنا أقول -وأنا أعتبر نفسي واحداً من هؤلاء الشباب- قد نخطئ ونتجرأ, وقد نتصرف تصرفاً غير صحيح يسيء إلى الدعوة، وقد يتطور المنكر إلى منكر أكبر منه.
أقول: افرضوا أننا فعلنا منكراً من أجل أننا ننكر المنكر، لكن في الحقيقة الإثم والذنب على من لم ينكر المنكر وهو من أهل إنكار المنكر، فهذا لا نريده أن يقع.
اعلموا أن أي منكر لا يمكن أن يسكت عنه، وقد أصبحت الدعوة واقعاً، والصحوة الإسلامية أصبحت حقيقه واقعة، والشباب المسلم ملء السمع والبصر، ولا أحد يستطيع أن ينكر هذا الكلام أبداً..
اعلموا أنه لا يمكن أن يكون هناك منكر عام ظاهر إلا وسينكره بعض الشباب، ينكرونه كما يشاءون، قد لا يشاورون في ذلك عالماً ولا مفتياً ولا شيخاً، وربما كانت فتنة، إذاً ما الحل؟
إننا نحن الذين بأيدينا الشأن والأمر من مسئول، أو صاحب الزواج نفسه، أو صاحب الصالة نفسها إلى آخره..، نبدأ بتغيير المنكر، فنحن إن لم نمنع المنكر وإلا تفاقم الأمر، الآن -والحمد لله- ظهر العلم وظهر الحق، وما بقي لأحد حجة، وما بقي على الشباب من لائمة، قد نآخذهم بالأسلوب الأمثل، لكن معهم حق في إنكار المنكر، من الذي لا يقرهم على إنكار المنكر؟
نقول: نعم، لا يقرون على بعض الأساليب ولكن لا بد أن يُنكر المنكر ولا بد أن يزال، فإن لم يقم به من هو أهله تصدى له غيره، ولذلك فنحن نحمل المسئولية في ذلك كل الناس، الكل مسئول في هذه البلدة، وفي كل مكان، هذا ما شرعه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأمر به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده -إذاً صاحب السلطة يغير باليد- فمن لم يستطع فبلسانه } -ومن التغيير باللسان إنكار من لا يستطع باليد مثل: العالم أو الواعظ الذي لا يستطيع أن ينكر باليد، فينكر ذلك باللسان.
يجب أن يخطب الخطباء في هذه الأيام، لا يكفي كلمة مني فقط، على الخطباء أن يخطبوا في هذا الموضوع، ويحذروا من هذه الظاهرة، ومن هذه البادرة الخطيرة، ويتكلم الوعاظ ويتكلم الآباء.
يجب على كل واحد منا علم أن هذا الزواج فيه منكر ألا يحضر وألا يرسل أهله لحضور ذلك المنكر، حتى لو غضب من غضب، ونقول: هذا منكر إن أزلت المنكر جئنا أو جاءك أهلنا، وإن كنت لا ترضى أن تزيل المنكر فلن نأتي.
ومنكرات الأفراح كثيرة منها: الزفة التي يكون فيها الاختلاط، ومنها: التصوير بالفيديو أو الآلة، ومنها أشياء كثيرة يضيق الوقت عن شرحها، المهم أننا نعرف أننا مسئولون أمام الله عز وجل، وأن مناطقنا المحافظة الطيبة أمانة في أعناقنا، فلنحذر أن نفخر بأفراح ومناسبات تدخل فيها المعاصي، أو بأفراح ما يسمى بالاصطياف أو السياحة, فندخل فيما حرم الله من اللهو اللعب، ونكون كالذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً -والعياذ بالله- والذين كانت عبادتهم كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً [الأنفال:35] نسأل الله العفو العافية.
الحلف بغير الله
السؤال: صدر في المنطقة فتوى للشيخ عبد العزيز بن باز بشأن حكم بعض المناذير والألفاظ كقول الإنسان: انفروا به، اخسفوا به، خذوه، وغير ذلك من الألفاظ، لكن طباعتها غير واضحة وهي في المنطقة منتشرة، فما توضيح فضيلتكم لمثل هذه الأمور؟
الجواب: ما دامت توجد فتوى وهي من عالم الأمة وشيخنا ووالدنا سماحة الشيخ أثابه الله، والذي يريده الأخ هو توضيحها في ذاتها فتوضح إن شاء الله، وأما إذا أراد شرحها فأقول:
نحن بين جاهليتين -أقول هذا مع الأسف-: جاهلية ورثناها عن الآباء والأجداد, مع ما فيها من لهوٍ وطربٍ وشركيات، والحمد لله تخلصنا من أكثر ما فيها, وبقي فيها بعض الأمور، والجاهلية الجديدة هي هذا التقدم والتطور، والأسماء اللامعة. وأصبحنا نعاني بين ألفاظ هذه وألفاظ هذه، وبين معاني هذه ومعاني هذه، وبين ضلال هذه وضلال هذه.
فإن جئنا عند الأيمان فالكبار الذين بقيت عندهم من الجاهلية الأولى بقايا يحلفون بغير الله ويدعون غير الله.
وبعض جاهلية النشء الجديد، إما أنه لا يعرف الله ولهذا لا يذكره, وإما أن يحلف بغير الله إما بلفظ جديد أو بمصطلح جديد، فذاك كان يعظم الآباء والأجداد، وهذا الجديد يعظم الوطن والشرف ويقول: بشرفي، فوضْعنا نحن بين هاتين الجاهليتين.
والشرك -يا أخي- أعظم ذنب عصي الله تعالى به, ومن الشرك شرك مخرج من الملة: وهو دعاء غير الله، أو الاستغاثة بغيره، أو الذبح لغير، أو النذر لغير الله، أو التحاكم إلى الطواغيت من دون شرع الله، هذه كلها مخرجه من الملة والعياذ بالله.
ومنها شرك في الألفاظ، وهذا الشرك كالحلف بغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أو كقول: ما شاء الله وشئت أو ما أشبه ذلك، وهذا يسمى بشرك الألفاظ، أو ما يسمى بالشرك الأصغر، وكونه أصغر أو أنه لا يخرج من الملة، لا يعني كونه هيناً، فالشرك أكبر من أي كبيرة غير الشرك ولذلك يقول عبد الله بن مسعود [[لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً ]] -والعياذ بالله- لا يمكن أن يحلف رضي الله تعالى عنه بغير الله، والحلف بالله كاذباً هي اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار، وهي من الذنوب الكبار، ولكن مع ذلك هي أخف من أن يحلف الإنسان بغير الله وإن كان صادقاً في يمينه؛ لماذا؟ لأن الشرك أعظم من بقية الكبائر.
وبعض الناس يقول: أنا ليس قصدي أن أدعو الجن -وهذا كلام تعودناه- فنقول: هذا من شرك الألفاظ، فإن سلمت من الشرك الأكبر ولم يكن هذا دعاء لغير الله وكفراً به -عياذاً بالله- فأين السلامة من شرك الألفاظ الذي هو أعظم من الكبائر الأخرى، كالزنا أو شرب الخمر أو عقوق الوالدين، عافاني الله وإياكم؟ فلنحذر من الشرك دقيقه وجليله.
يقول بعض الإخوة إذا غُلِبت وقلت مثل هذه الألفاظ وقلت افعلوا به أو كذا؟
نقول: نعم ديننا لا يوجد فيه شيء إلا وله حِكمه والحمد لله، والصحابة كانوا في الجاهلية يحلفون بآبائهم، وكانوا يحلفون باللات والعزى كعادة الجاهلية... فلما أشرق عليهم هذا النور وعرفوا التوحيد كفّوا عنه، ولكن دائماً إذا تعودت على شيء في عمرك كله، لا يمكن أن تغير هذه العادة في لحظة، فيغلب أحدهم على لسانه ويقول: "واللات.. وأبي" فماذا عليه؟ يوحد الله.. فيشهد أن لا إله إلا الله؛ لأن كفارة الشرك هي التوحيد، أو هي شهادة أن لا إله إلا الله، فعندما تنذر بهذه المناذير الشركية وتتذكر وتقول: لا إله إلا الله وتستغفر الله وتتوب مرة ومرتين وثلاث فإنك ستقضي على هذه العادة السيئة إن شاء الله تعالى.
حكم الحلف بالطلاق والحرام
السؤال: ومن يحلف بالطلاق والحرام؟
الجواب: الطلاق والحرام تريد درساً منفرداً، المهم أن الحلف لا يكون إلا بالله، ونعلم أنه لا يوجد أحد إلا وهو يحتاج أن يحلف، ولا نقول: لا نحلف بالمرة وقول الله: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة:224] ليس معناه ألا نحلف وألا نقسم، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقسم في مواضع كثيرة يقول: والذي نفسي بيده أو والله, وتالله -كما في القرآن-، والذي بعث محمداً بالحق، كما كان الصحابة يقولون: والذي بعثك بالحق، فالمهم أن يكون بالله ولا نشرك به أحداً.
منع المرأة من الميراث
السؤال: تعتبر المرأة في حق الميراث وما يتعلق بالميراث شيئاً منبوذاً، ويعيبون عليها إذا طلبت حقها أو أخذت حقها من الميراث هل من كلمة حول هذا؟
الجواب: قضية المرأة قضية ضاعت بين جاهليتين، والحق بين أيدينا، جاهلية أولى وهي الموروثة، المرأة مرأة، وإذا ذكرت قالوا: أعزك الله، أكرمك الله؛ ولو كانت أمّه، ذكر المرأة معناها مثلما نقول: دابة أو حيوان، ليس لها اعتبار وليس لها قيمة، وبلغنا من بعض الآباء أنه يأتي رمضان وهي لا تصلي، ولا تؤمر بها, والحج لا تحج, ويقول: هذه امرأة!! انظروا...كيف الجاهلية نسأل العفو والعافية.
ومن المظالم أنها لا تُورَّث ولا تعطى ميراثها الذي شرعه الله، وهذه الفرائض ماجعلها الله لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا للعلماء من بعده، بل بينها بنفسه في كتابه يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء:11] هذا كلام الله، وهذا كتاب الله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء:11] فهذا أمر شرعه الله.
ويقول: كيف أعطي للبنت وأترك الرجال؟
وأقول: مشكلتنا هذه أصلها أننا نظن المال مالنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {يقول ابن آدم: مالي.. مالي } حقي، مالي، وشقاي، وتعبي، وعمارتي، وأعطيها أولاد الناس من أجل أزوج البنت، لا يمكن!!
من قال: إن هذا المال مالك؟! فأول شيء نناقشك في هذا، الله تعالى يقول: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7] إذاً المال مال الله وأنت مستخلف فيه، وإذا مت فلن ينفعك من هذا المال إلا ما قدمت لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أما الباقي فهو لورثتك، ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله } -معقول, هل يقول أحد أن مال وارثي أحب إلي من مالي- قال {فإن مالك ما قدمت ومال وارثك ما أخرت }.
كل واحد منا عنده عقارات وأبنية وغير ذلك، هذا مال من؟! إنه مال الوارث.
والمقصود أن المال ليس مالنا، وليس الذي قسَّم هو نحن، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وإنما أنا قاسم والله يعطي } حتى الذي يفرض هذا ويقسم كما أمر الله هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقيم ما أمر الله.
والله تعالى هو الذي أعطى، وهو الذي شرع هذه القسمة، وبيَّن هذه المواريث, وبين لكل واحد مايأخذه من المال، فهذا من أنواع الجاهلية ومن بقاياها، أن تهضم حق المرأة، وهذا من حكم الجاهلية أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
جاءت الجاهلية الجديدة وقالوا: المرأة مهانة ومحتقرة, قلنا: جزاك الله خيراً فكيف نعطي المرأة حقها.
قالوا: تتعلم، وتتوظف، ويصير لها رأي في الأمور، وبلغ هذا الحد إلى أن أصبحت المرأة هي المسيطرة سيطرة كاملة في البيت، وسيطرت في الحياة وبدأت تفعل كل شيء، وحتى بعض الرجال لم يَعد له أي دور، حتى فيما يتعلق بزواج بناته، وفي أموره وتدبير شئونه وفي كل شيء، المرجع أصبح للمرأة.
ويقول: يا أخي المرأة مظلومة، فلابد أن تُكرّم. فجعلت هي المتصرفة وهي الوالية، لأنه لا بد من فتح مجالات.
وبهذه المناسبة سمعت -وإن شاء الله لا يكون صحيحاً- أن منطقة الباحة سيفتح فيها معهد للممرضات، والله عجيب!! أنا ما صدقت لأن الممرضات معروف ما هو شغلهن، الواحد منا لا يرضى أن ابنته تخدم أخاه، كيف تذهب عند خالتها وتخدمها، أهي خدامة عند خالتها؟! والآن صار عندنا مشروع الخادمات للرجال، وهذا الكلام لا بد من الوقوف في وجهه، وسيقول البعض: هذا ضد المرأة, وهذا ضد الحضارة, وضد التصور.
وأقول: هذا هو من الجاهليتين, فالجاهلية الأولى تمنعها حقها الذي شرعه الله في القرآن وجاءت الجاهلية الثانية وقالت: حقكِ كذا وكذا، فورطوها في أمور هي أجل من أن تعملها, وهي لم تخلق لها، بل هي ضارة عليها.
قالوا: هذا حقكِ طالبي من ظلمك؟!
فقالت: والله -فعلاً- بدلاً ما كان الوالد أو الشيخ الكبير يمنعني من ميراثي، فهذا فاعل خير يقول: توظفي حتى تستغني عن هذا الشيخ وعن الأولاد جزاه الله خيراً.
ونحن نعلم أن في خروجها هذا ضرر عليها، وهذه هي الجاهلية الجديدة، وخطرها وضررها عظيم, وأنا والله أعجب أن منطقة بهذه المحافظة والأخلاق توافق على أن يفتتح فيها ومن بناتها من يدرسن التمريض، ولا سيما ونحن نرى المستشفيات مختلطة، ولو أن عندنا مستشفيات مفصولة تماماً، الرجال لهم مستشفيات والنساء لهم مستشفيات كما أمر الله، فالواحد يستطيع أن يقول: يا أخي! تدرس وتعمل في مستشفى نسائي، لكن هذا غير موجود الآن، فيكفي أننا سكتنا.
وهذا منكر شنيع نسكت عليه، وهو أن يؤتى بالممرضات من الخارج بغير محارم، ويسكن في مساكن ويتسوقن، ولا يخفى على أحد ماذا يجري، والمنكر له مكابر، ثم تأتي مصيبة أكبر، وتصبح بناتنا نحن يخدمن في قسم التمريض.
فنقول: المرأة الآن بين جاهليتين، فاتقوا الله في النساء كما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وكما أوصى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهن حتى في وصيته الجامعة يوم عرفة .
نصيحة لمجموعه من الشباب بعدم التفرق
السؤال: نحن مجموعة شباب ملتزمون لكن دب الشك بيننا، مما أدى إلى تفرق بعضنا عن بعض فبماذا تنصحونا؟
الجواب: أقول عموماً: نحن الأمة أمرنا الله -تبارك وتعالى- أن نعتصم بحبل الله وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] ونهانا عن الفرقة (ولا تَفَرَّقُوا) وقال: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105] فلا يجوز أن نزرع الشك فيما بيننا، وأن نتيح للشيطان فرصة أن يبذر بيننا بذور الشك والشقاق، فليس أحب إلى شياطين الإنس والجن من أن يجدوا أهل الخير مختلفين أو متنافرين، وإن لم يجتمع الشباب وطلبة العلم وأهل الدعوة فمن الذي سيجتمع؟!
وإن لم يجتمعوا على القرآن، وعلى هدي رسول الله في دعوته, وفي أمره ونهيه، فعلام يجتمعون إذاً؟
أما أهل الفجور والمعاصي، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يمكن أن يجمع أمرهم، إنما هم يجمعون على أمرٍ -ابتلاء من الله وفتنة- ثم يفرق الله شملهم وينثر جمعهم، ويوم القيامة يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67] فالمتقون هم الذين هم على الأخوة الإيمانية في الدنيا والآخرة، لا شقاق بينهم ولا شك.
ولكن كلنا خطاءون، أنا قد أخطئ على أخي في الله، فليبين لي خطئي، أنا إن رأيتُ فيه عيباً أنصحه، وإن أخطأ عليِّ وأخطأت عليه، يأتي الثالث ويتدخل بيننا بالنصيحة وبالخير، ومن أسباب هذه الفرقة -إن وجدت- هي قلة الذين يُفقِّهون الشباب، نحن الشباب -وأنا واحد منهم- عانينا مرارة عدم التوجيه، قد يوجهنا بعض الناس لكن قد لا يجيد توجيهنا، وأحيانا ً قد لا نجد من يوجهنا فننفعل ونحمق، والحماقات مرتبطة دائماً بالعجلة، والعجلة دائماً من شأن الشباب، إذا كان خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37] كما قال الله تبارك وتعالى, فالعجلة في الشباب أكثر.
ونحن نريد تغيير المنكر في لحظة، إذا سمعنا عن منكر نقول: لابد من تغييره الليلة، مع أن الله بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وظل ثلاث سنوات في الدعوة السرية، ثم جهر بها ثم أوذي, لكن نحن الشباب كثير والحمد لله، والموجهون قليل، وعندهم أشغال؛ فأصبح كل شاب يركب رأسه، وأصبح الشيطان يلقي التهم والخلافات والتعصب لبعض الآراء العلمية، ولبعض الآراء الفقهية، ولبعض المشايخ، ولبعض الطوائف -مثلاً- فيبذرها، وليس أحب إليه من ذلك, إذا اختلف أهل الحق قويت شوكة الباطل واجتمع حزب الباطل عليهم، وغلبوهم.
حكم إجابة دعوة المرابي
السؤال: يقول السائل: إن بعض الأصحاب والأقرباء يدعونه في مناسبات وفي غيرها، ولكنه يعلم أن أموالهم من البنوك الربوية، فهل يجوز إجابة دعوتهم؟ وإذا أجاب الدعوة فقد يقع في محذور -كما هو مفهوم من سؤاله- وإن لم يجب ستكون قطيعة بينهما، فما إجابتكم على هذا؟
الجواب: هذا أيضاً من الأمور التي كانت المنطقة -والحمد لله- في عافية أو في شبه عافية منها، لم يكن عندنا بنوك من قبل، وكان آكل الربا هو التاجر -والعياذ بالله- الذي يرابي, وهؤلاء كان يوجد من ينكر عليهم، أما الآن والعياذ بالله كل فترة ويفتح بنك جديد أو فرع جديد.
والسبب هو حب الدنيا لأنها رأس كل خطيئة، وما أهلك من كان قبلنا إلا هي، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو بالمؤمنين رءوف رحيم، ويشفق علينا من أي شر، يقول: { والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على الذين من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم } فتحت الدنيا علينا وزاد النعمة والعقار والتجارة، فقلنا لا بد من بنوك.
فقد يمكن أن يكون عندنا خير ونعمة من غير الربا، فهل لا بد من البنوك، والربا، ولا بد من التعامل معها, مع أن البنوك هذه ليست كل معاملاتها فيها ربا, فيمكن أن نقيم بنوكاً بلا ربا، وتكون معاملات شرعية، لكن نحن نحن أبينا إلا أن نأخذ الحلال والحرام، والحق والباطل، فكل البنوك الموجودة في المنطقة فيها ربا، لكن نقول يمكن أن توجد بنوك بلا ربا، لكن الفروع الموجودة فيما أعرف كلها قائمة على الربا بأي شكل، قد يكون بعضهم أخف؛ لكن الأصل أنها كلها قامت على الربا، وهذا لا نقاش فيه، ولا يكابر في ذلك إلا من يجهل البنوك على التفصيل والحقيقة.
ولما فتح الله الوظائف، كان كثير من الناس يستقيل حتى صدرت أوامر -كما هو معلوم- في الدوائر الحكومية، بمنع الناس من الاستقالة.
بدءوا يستقيلون حتى يلتحقوا بالمقاولات والمنشآت.. لأن فرص عمل كثيرة فتحت، ومع ذلك أبى كثير من الناس إلا أن يوظف في البنك، ثم توظف في البنك وأصر إلا أن يبقى فيه، وإذا بالرجل هذا كما ذكر الأخ أنه قريبه يعمل في هذا البنك، ثم يأتي عنده مناسبة ويدعوك فإن ذهبت إليه -مثلما يذكر الأخ- فأنت تأكل من شيء حرام، وكل جسدٍ غذي بالسحت (أي نبت من حرام) فالنار أولى به -نسأل الله العفو العافية- وليس هناك مال حرام أشد من الربا {درهم رباً أشد من ست وثلاثين زنية } كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بإسناد حسن, أشد من ست وثلاثين زنية، درهم واحد من ربا.. هذا خطر وإثمه عظيم.
وتوعد الله تعالى المرابي في كتابه بالحرب فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279].
إذاً نقول: يا أخي: هذا الربا وأكله حرام، فكيف تذهب وتأكل؟
فنوجه النصيحة للأخ الموظف أن يتقي الله، ويكف عن العمل في هذه البنوك، لأنه لا يجوز للمسلم: للشاب، ولطالب العلم, ولكل تقي يخاف الله ويرجو الله واليوم الآخر؛ أن يعمل في أي بنك ربوي، فالبنوك الموجودة بغض النظر عن أسمائها تتعامل بالربا جميعاً ولا نزكي منها أحداً؛ فيجب على كل واحد يعمل فيها أن يترك هذه الوظيفة، ولو كان حارساً، وهناك فتوى لهيئة كبار العلماء ومن اللجنة الدائمة للإفتاء أنه لو كان حارساً أو فراشاً فإنه معين على الربا داخل في قوله تعالى: وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ[المائدة:2] ، فما بالك بالكاتب والموظف, لأن الكل يخدم الربا بأي شكل من الأشكال فلا يجوز العمل فيها.
فننصح هؤلاء أن يتوبوا إلى الله، وأن يبحث أحدهم في أقرب فرصة عن عمل يجده، ولو أن يستدين ويترك هذا الحرام، ويلقى الله وهو آكل من الحلال و{الله طيب لا يقبل إلا طيباً } كيف يدعو الله {يارب! يارب! ومأكله حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنَّى يستجاب له؟ } كيف تأكل ربا وتصلي وتدعو الله أن يغفر لك، كيف يكون ذلك؟
فاتق الله يا أخي, وخف من النار، واحذر من دار البوار إن بقيت تأكل الربا.
وأوجه بهذه المناسبة نصيحة إلى المجتمع، ومجتمعنا مجتمع خير -والحمد لله- أن يتعاونوا على البر والتقوى, ويفتحوا وظائف لهؤلاء الشباب.
إذا كان عندك مؤسسة أو محل تجاري، فاقبل من يأتيك وقد ترك البنك واعطه ولو نصف الراتب، أو وظفه أنت في دائرة حكومية أو كان لديك شواغر فقدم لهذه الشواغر من كان يعمل في بنك، حتى تخفف من هذا المنكر وتعين على الخير, فنحن إذا تعاونَّا جميعاً قضينا على هذا المنكر ويبقى صاحب البنك بمفرده، يقول: الموظفون خرجوا.
نقول: أنت أيضاً ننصحك, ولنا معك -أيضاً- كلام آخر، لنا الحق أن نبلغك وأنت -إن شاء الله- مسلم تريد الخير, وهذا الموظف لنا معه شأن، نوظفه، ونعينه على وظيفة، وننصحه.
ونرجع إلى قريب الموظف: ونقول: من حيث الحرمة، لا يحرم على أحد أن يتعامل مع أحد وإن كان المتعامل معه يتعامل بالحرام، فمثلاً واحد يتعامل بالربا، وأنا اشتغلت مقاولاً عنده، أنا ليس عليَّ إثم، إن عملت له عملاً، وأعطاني أجرتي حلالاً، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعامل مع اليهود وكانوا مرابين.
والمسلم قد يقر الكافر على ذنب، ولا يقر عليه المسلم؛ لأن هذا مسلم ملتزم بالإسلام، أما الكافر فإنما أقررناه على دينه، لكن نقول: الحرام لا يتنقل بين ذمتين، فلو أخذ واحد مالاً من حرام، خيانة أو سرقة أو غشاً، ثم جاء أحد وتعامل معه بالحلال وأعطاه، فليس على ذلك الآخذ شيء، وإنما الحرام على من أخذه، لكن إذا كان الآخذ أو الضيف أو الأجير يعلم أن هذا المال من حرام، فإنه يقول: يا أخي! أنا لا أعمل عندك لأن مالك حرام، وينصحه وهذا حسن.
فأنت يا أخي في مثل هذه الحالة، يجب أن تنصح أقرباءك وأرحامك وإخوانك, وأي واحد منا له قريب يعمل في البنك، يبذل له النصيحة ويقول له: يا أخي! أنت تأكل حرام، وأنا لن أقاطعك ولن أهجرك لأن الله أمرنا بصلة الرحم، لكن إن جئتك وتحرجت من الأكل عندك فاعلم أن ذلك لأنك تأكل ربا، فإن عذرتني وعفوت عني فهذا الذي أريده، وإن كان غير ذلك فلن أرضى، فإن كان الداعي رحيمك أو أختك غضبت وذهبت فلا بأس للمصلحة لكن لا تتعدى أكثر، ولا تستهن به، فتجيب دعوته وتذهب إليه كل وقت، ولكن تذهب إليه لصلة الرحم، وتنصحه وأنت ذاهب إليه فتكون دائماً داعية.
والورع باب عظيم وهذا غير مسألة الحرام {فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه } لا بد أن نتقي الشبهات وإن لم تكن حراماً، فمن أمور الشبهات إقرار أمثال هؤلاء وأكل أموالهم.
إن تأجير الدكان أو العمارة على أي بنك من البنوك حرام، وهو من التعاون على الإثم والعدوان، فلا يجوز أن تؤجر المحل للبنك الربوي، وأنا أسأل: هل يجوز أن تؤجر عمارة -الله يحمينا وإياكم- لتكون بيت دعارة.. بيت زنا؟
كأن يأتي أحد الزناة, ويقول لك: نريد محل زنا، فمن يرضى بهذا؟ لا يرضى أحد منا أبداً.
حسناً, درهم ربا أشد من ست وثلاثين زنية، فكيف بملايين الربا تكون في عمارتك!! هذا حرام ولا أحد يناقش في هذا، إذاً لا يجوز أن تؤجر الدكاكين على أهل الربا.
وأيضاً هناك محرمات أخرى غير الربا لا يجوز التأجير عليها وإن كانت أقل حرمة؛ كتأجير الدكان لبيع الفيديو -مثلاً- أو لبيع أشرطة الغناء.
وكذلك الحلاَّق الذي يحلق اللحى.
وكذلك التأجير لتاجر يتعامل في بضاعة محرمة، أو يبيع بضاعة محرمة، كمن يبيع التماثيل أو أدوات اللهو، أو الموسيقى، فهذا تأجيرها عليه حرام.
وهكذا الحلال بيِّن والحرام بيِّن.
حكم إيداع الأموال في البنوك
السؤال: ماحكم إيداع الأموال في البنوك؟
الجواب: إنها مشكلة أن يحتار الواحد منا في فلوسه لا يدري أين يضعها!
أولاً: كلنا في هذه المنطقة، لم يكن عندنا بنوك وآباؤنا في الماضي ماذا كانوا يصنعون؟
لم يكن هذا الخوف موجوداً، ولم تكن الدراهم ورقاً خفية بل كانت فضة وذهباً ثقيلة؛ يضعها في صندوق من الحديد، ومع ذلك حفظوها، وما ضاع منها إلا مثل الذي يضيع اليوم، بل نحن اليوم نضيع أكثر، فالمسروق اليوم أكثر مع أنها الآن خفيفة والبيوت آمنة، ومع هذا هناك من يقول: إنه يخاف عليها, ولكن الشيطان هو الذي يخوفه إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [آل عمران:175] يجئ إلى أوليائه من أهل البنوك، ليزيدوا الناس خوفاً.
واعلموا أن أهل البنوك أحذق الناس في الشر، فمما يخوفون به الناس أنهم يستأجرون من يتكلم, ويقولون له: أنت إذا قعدت مع جماعة، فقل: السرقات كثرت! ما هو الحل؟
ثم تقول: ضعها في البنك وارتاح.
يقول المسكين: جزاك الله خيراً أن نبهتني، فعندي عشرة آلف ريال من الليلة سآخذها إلى البنك.
وهكذا يأتي من هذا عشرة ومن هذا خمسة، واجتمع عند صاحب البنك كذا مليون ريالاً، ثم هو يأخذ الأرباح بالملايين، وهو لم يعمل.
أخذها من خوفي وخوفك وخوف فلان، نخاف مِن مَن؟
نحن نحفظ في بيوتنا العار والعرض وهما أكبر وأغلى من العشرة والعشرين، فلماذا لا نضعها في البنك؟ إذاً الخوف خوف وهمي، وليس خوفاً حقيقاً.
الأمر الثاني: يقول أحدهم: أنا مضطر! أريد أن أتعامل! وأريد أن أسحب! أقول: يا أخي! المفروض، وهذا أمر ليس صعباً فنحن أهل المنطقة عندنا تجار، وعندنا غرف تجارية, وعندنا مشاريع, فنستطيع أن نضع عمارة معينة ونصبها كلها حديد حتى لا نخاف تماماً، ونرتب لها موظفين: ثلاثة أو أربعة، ونجعل عندهم صناديق قوية متينة، وهؤلاء الموظفون أمناء نستأمنهم، كما أن صاحب البنك عندما يستأمن الملايين على ثلاثة موظفين قد يكونون متعاقدين، فنضع فيه اثنين أو ثلاثة وكل واحد يضع فيه عشرة آلاف مثلاً، ونأخذ عليه ريالاً أو ريالين أو خمسة ريالات ونعطيهم منها رواتب، ونعطيهم كمبيوتر، ونعطيهم تلفون، ويكونون ليل نهار قاعدين يحرسون، ويجعل موظفون، والذي يأخذ يأخذ، والذي يودع يودع.
والكمبيوتر يجري جميع العمليات الحسابية كما تشاء، ماذا لك؟ وماذا عليك؟ وماذا صنعت؟ بغير تكلف! فهذه وظيفة الذي يشغل هذا الجهاز، ويكون عنده المال، وفي المدن الكبيرة كل حي يعمل فيه مثل هذا الشيء.
قد يقال: كيف نحول من محل إلى محل؟ هذه ليست مشكلة، فالتحويل يكون بالفاكس, وبالتلفون, وبالكمبيوتر، نربطه بـ جدة وبـالرياض ويحول هذا لهذا، ويعطي هذا لهذا، وأجرة الحوالة حلال، كأن أحول لك وآخذ منك عشرين ريالاً أو ثلاثين ريالاً، والله ما جعل عليكم في الدين من حرج.
إذاً نحن نستطيع؛ لكن هل نريد ذلك؟ لو كنا نريد فنحن نقدر, لقد قدرنا على أشياء ما كنا نحلم بها، الآن بدأنا نقول: نريد أن تتقدم البلد، فنعمل فنادق ضخمة، ونعمل مشاريع ما كنا نحلم بها، أفلا نقدر على هذا، وهي مسألة سهلة؟!
الدول الشيوعية لا تتعامل بالربا، وهم لا يعرفون الله، ولا يعرفون اليوم الآخر.
كل الدول الشيوعية لا تتعامل بالربا، وليس فيها بنوك ربوية، وليس ذهبها مودع عند البنوك الربوية العالمية في نيويورك أو لندن ، وهم شيوعيون لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر؛ لكن قالوا: من باب حقوق الإنسان الربا ظلم، فثاروا على الرأسمالية ، والرأسمالية قائمة على الربا، فثاروا عليها وأصبحوا يتعاملون من غير ربا، وأمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمة القرآن يقولون: لا نقدر! كيف قدر الشيوعي وما قدرت أنت؟!
القضية ليست قضية قدرة، القضية قضية إرادة، هل تريد أو لا تريد!
فالإرادة تستتبع العمل والعمل ينفذ بإذن الله، وإن كنت لا تريد فلن تعمل، وستظل تقول: ياليت..
وإذا أراد واحد منا أن يعمل مشروعاً تجارياً هل يقول: يا ليت؟ لا، بل إنه ينفق ويستدين حتى ينجز عمله.
وإذا أراد أن يتزوج لا يقول: يا ليتني أتزوج بنت فلان، بل يخطب ويدفع المهر ويتكلف؛ كل شيء بجهد، أما إذا جئنا إلى شيء من أمور الدين قلنا: يا ليت فقط من دون عمل فهذا عجيب، فلنتعاون ولنقم بهذا الشيء.
الإيداع يمكن أن نعمل له وسائل، أنا الآن أتكلم على الأمر الواقع, يقول أحدهم: أنا في هذا الظرف، وفي هذه اللحظة ليس عندي إلا هذا البديل، نقول: إن كان ضرورة فلتودع، لكن بدون ربا, وتودع عند الأخف ربوية من البنوك الربوية، إيداعاً بحيث تستطيع سحب المبلغ في أي وقت.
والضرورة معروفة، لا تقل الضرورة وأنت من يوم خلقت وأنت تضع الأموال والفلوس في البنك، وتقول "ضرورة" الضرورة مقدرة بقدرها.
انظروا دائماً إلى ضرورة الميتة فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:173] كيف الضرورة؟
أضرب لكم مثالاً: شخص تجده كل يوم يأكل أكلاً منوعاً، فمرة مقلياً، ومرة مشوياً، ومرة كباباً، ومرة سنبوسة، وتقول له: يا أخي ما هذه؟
يقول: هذه ميته!
تقول له: كيف ميته؟!!
قال: والله ضرورة.
صاحب الضرورة لا يعمل هذا الشيء، الضرورة أن يأخذ لقيمات حتى لا يموت من الجوع، أما أن يتسمن بالأكل كل يوم ويأكل الميته فهذا متلاعب، فكذلك نحن في الربا, فإن كان ولا بد أن نودع أو أن نضع، فالضرورة واضحة، ففرق بين الضرورة وبين أننا نستمر ونتفنن في أنواع الحرام، ونقول ضرورة, فهذا شيء مهم جداً!
ظلم العمال
هذه قضية خطيرة جداً، الواحد يحضر عشرين أو ثلاثين عاملاً، ويتركهم في البلد، ويصبح العامل رقيقاً ولكن بشكل آخر.
الرقيق كانوا موجودين أيام الآباء والأجداد, فكانوا يمسكون الواحد ويضربونه على رقبته حتى يسقط ثم يقولون: عبد بيعوه ظلم واستخفاف، وهؤلاء ثلاثة يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أنا خصمهم يوم القيامة، منهم رجل باع حراً فأكل ثمنه } -والعياذ بالله- فقد كانت عبودية واضحة، يضربون رقبته ويبيعوه.
جاءت الآن عبودية مقننة ومرتبة، يقول أحدهم: آتي به من بلده, وأتحكم فيه، وأشغّله كما أريد، وأعمل كل المظالم، وآكل من ظهره ومن كده، هو يعمل ويكدح وأنا آكل.
وهذا من الحرام أن يأخذ الإنسان مالاً مقابل أنه يكفله، وأن يأخذ منه نسبة معينة فأين العدل؟! إن الله يأمر بالعدل والإحسان، والعدل والإحسان لا يخفيان علينا فهما واضحان، أما الطغيان فهو غير العدل أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ [الرحمن:8] يمكن أن يأخذ الإنسان شيئاً مقابل أتعاب أو جهود، أما أن يكون كسبه ودخله من ظهور خلق الله، يتركهم في أرض الله يلجئون إلى الحلال والحرام ولا يهمه إلا أن يحضروا له آخر الشهر مبلغاً معيناً، سواء عملوا حلالاً أم حراماً، ولا يسأل عنهم أين ذهبوا أو ضاعوا، فهذا من أخبث وأردأ أنواع الكسب -نسأل الله العفو والعافية- سبحانك اللهم وبحمدك نستغفرك ونتوب إليك.