مہجہرد إنہسہآن
ادارة الموقع
عناصر لقاء مع طلبة الجامعة
1 - نصائح في طلب العلم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ونسأل الله تبارك وتعالى بفضله وكرمه أن يكتب لنا جميعاً أجر هذا الدرس، وأن يجعلنا من المقبولين، وأن يثيبنا، وأن يرزقنا حسن الاستماع والقول، وأن ينفعنا بما نقول ونسمع؛ إنه سميع مجيب.
أحب بين يدي هذا اللقاء بكم والسماع إلى بعض استفساراتكم أن أتقدم أولاًَ بكلمة أرجو الله أن ينفعنا جميعاً بها.
نحن ننتمي -ولله الحمد والشكر- إلى طلب العلم، ولم يجمعنا إلا رباط العلم، وهو علم قائم على كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه نعمة عظيمة أن يُهيئ الله تبارك وتعالى لنا أن نطلب العلم في البلد الأمين، وأن يُكثر لنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما ترون من الوسائل والتسهيلات التي تمت بفضل منه عز وجل، ثم بجهود الإخوة القائمين على هذه الأنشطة والوسائل، وهذا يستوجب منا شكر الله تبارك وتعالى، ويستتبع واجبات يجب أن نعلم أنها مُلقاة على أعناقنا.
الأمانة الملقاة على طالب العلم
إن كثيراً من الناس يريد أن يطلب العلم في هذه البلاد وفي بلاد أخرى، ويتمنى ويحرص على أن يأتي إلى هذا البلد الأمين, ويطلب العلم ويتلقاه من هذه المنابع النقية الصافية، ولكن لا يتاح له ذلك، وهذا يوجب على من أنعم الله عليه بهذه النعمة أن يُعطيها حقها من الشكر، والإخلاص لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في طلب العلم, ومن الدعوة إلى الله عز وجل ونشر هذا العلم، وتحقيق ثمرته، ومن التعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر، في سبيل نشر هذا الدين؛ الصبر على طلب العلم، والصبر في سبيل الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وإن مما ينبغي لطالب العلم أن يعلمه: أمر الأمة الإسلامية وحالها لا يخفى على أحد منكم، وأنتم خلاصة مختارة، وصفوة منتقاة من هذه الأمة، والآمال بعد الله تبارك وتعالى معلقة عليكم, سواءٌ كان الواحد منكم من المملكة أومن خارجها، فلا بد أن وراءه من ينتظره؛ المدرس تنتظره مدرسته، وتنتظره مدينته، أو بلدته، أو قبيلته، وأي عمل من الأعمال فالآمال تعلق على شباب جاءوا لطلب العلم, ويريدون وجه الله تبارك وتعالى, ويراد منهم أن ينفعوا هذه الأمة التي تعاني -كما ترون جميعاً- من نقصٍ في المتخصصين في العلم الشرعي الداعين إلى الله تبارك وتعالى على بصيرة وبينة.
إنّ أمتكم -ولله الحمد- في إقبال وهذه بشرى، ونحمد الله الذي منَّ بهذه الرجعة والأوبة والتوبة إلى الله، فالأمة الإسلامية في حالة غليان، وفي حالة توبة وأوبة وعودة إلى الله عز وجل، ولكن من الذي يرسم لها معالم الطريق؟!
ومن الذي يأخذ بيدها إلى النهج القويم؟! ومن الذي يرشد هذه المسيرة والأوبة والتوبة؟!
إن الأمانة -بلا شك- مُلقاة على طلبة العلم من أمثالكم، وهذه الأمانة لا يقوم بها إلا من بدأ يعد العدة للقيام بها، ويجب أن نعلم أن هذا الإعداد مُتنوِّع وثقيل, ولكن لا بد منه, وإلا فليتهم الإنسان نفسه.
الإخلاص في طلب العلم
نحن نخشى على أنفسنا -جميعاً- من النفاق, ولا نستنكف ذلك؛ فإن أحد التابعين وهو ابن أبي مليكة رضي الله عنه يقول: [[أدركت ثلاثين -وفي رواية ثمانين- من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلهم كان يخشى على نفسه النفاق ]].. عافنا الله وإياكم من النفاق!
فطلب العلم إذا كان خالصاً لوجه الله تبارك وتعالى, وصاحبه يريد أن يدعو إلى الله، وأن يحقق ثمرة هذا العلم؛ فإن علامة ذلك وآيته: أنه يعد العدة من الآن لهذا العمل الجليل، والله تبارك وتعالى قد أخبرنا بحال المنافقين حينما أخذوا يعتذرون إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويحلفون في غزوة تبوك، فقال: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً [التوبة:46].
فبيَّن الله تعالى كذب المعتذرين الذين تخلفوا وخُذلوا عن القيام بأمر الله -عز وجل- مهما حلفوا من الأيمان، ومهما ظهر عليهم أو أظهروا من علامات البراءة والصدق, فأبطل الله -تبارك وتعالى- دعواهم هذه بحقيقة مهمة جلية، وهي: أن الذي يريد الحق وسعى إليه ثم حال دونه عذر، فإنه يعد العدة، ولكن يمنعه العذر.
أما هؤلاء فإنهم لم يعدوا العدة لذلك وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ [التوبة:46]، أي: لو كانوا حقاً يريدون الخروج لأعدوا له العدة، ولكنهم كانوا متخاذلين متكاسلين إلى أن انتهت الغزوة وعاد الجيش, فأخذوا يقسمون الأيمان ويحلفون أنهم صادقون، وأنهم يريدون الخروج.
فالإخلاص في طلب العلم لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو أول ما يجب على طالب العلم؛ وكما تعملون أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة -كما ثبت ذلك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومنهم: العالم المرائي أو القارئ المرائي طالب العلم الذي تعلم رياءً أو طلب العلم من أجل الدنيا.
وقد عقد الشيخ الداعية المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه في "كتاب التوحيد " باباً بعنوان (باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا)، وذكر فيه قول الله تبارك وتعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ [هود:15-16] أي: ليسوا من أهل التوحيد أهل المعاصي, لأن المؤمنين الموحدين من أهل المعاصي ما داموا على التوحيد والإيمان، فإن لهم في الآخرة الجنة وإن دخلوا النار، لكن الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار هم الذين تمحَّضت قلوبهم ونياتهم وتجردت عن الإخلاص، وتمحَّضت لغير الله تبارك وتعالى, وذكر بعد ذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {تعس عبد الدرهم! تعس عبد الدينار! تعس عبد القطيفة } إلى آخر الحديث، وفيه الزجر والوعيد لمن يسعى ويعمل ويكدح من أجل الدنيا ومن أجل طلب هذا المتاع الفاني.
فأوصي نفسي وإخواني بالإخلاص في طلب العلم لوجه الله تبارك وتعالى، وبتقوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التي هي وصية الله للأولين والآخرين.
الحرص على الوقت أثناء طلب العلم
وإن مما يجب أن أوصي نفسي وإخواني به: أن نَجِدَّ في طلب العلم، وأن نحفظ أوقاتنا, فما أكثر ما تضيع الأوقات للأسف الشديد!!
يجب علينا أن نضيِّق الأسباب المضيعة لأوقاتنا، سواءٌ منها ما كان متعلقاً بالنظام، أو ما كان منها متعلقاً بالسكن وبظروف الحياة؛ فإن هذه ولا شك تقتطع من وقت الإنسان جزءاً غير هين.
لكن يجب أن نغالب هذه الأسباب, ونبذل جهدنا لكي تكون أوقاتنا معمورة دائماً بالخير والنفع، وبما يقربنا من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن تكون مجالسنا في السكن وفي الجامعة مجالس خير وذكر ومساءلة وطلب علم وحرص ومحبة لبعضنا بعضاً، وأن نستفيد من هذه الفرصة المتاحة لنا، وهو أننا طُلاَّب وما نزال في مرحلة الطلب, وكلنا إخوة ولا يعاب على أحدٍ أن يسأل مهما بلغت منزلته من العلم، أو أن يقول: الله أعلم؛ فهذا من أصول السلف الصالح ومن آدابهم، لكن مع ذلك طالب العلم وهو ما يزال في مرحلة الطلب هو الذي لا يجد غضاضة في أن يسأل وأن يناقش وأن يبحث، فهذه فرصة مهيأة.
والإنسان إذا تصدَّر للحياة فيما بعد التخرج سيجد نفسه تجد أن السؤال ثقيل، وقول: الله أعلم تجده ثقيلاً، وهذا من أمراض النفوس التي يجب أن تُحارب، لكن ينبغي لنا ألا نتيح الفرصة لهذه النفس ولهذا الشيطان الماكر؛ فالشيطان يمتلك الكثير من الوسائل لأن يوسوس وأن يخدع ويغرر بهذه النفس، فينبغي أن تكون أوقاتنا دائماً كذلك، وأن يسأل بعضنا بعضاً، وأن نسأل أساتذتنا الكرام ومن نثق بعلمه لنستفيد جميعاً.
المحبة والأخوة أثناء الطلب
وهناك أمر أرى أنه لا بد أن أنبه إليه, وهو: أن تكون علاقة بعضنا ببعض علاقة الأخوة والمحبة والنصيحة, فالأمر المؤلم والمؤسف أن يوجد -أحياناً- إخوة في كلية واحدة، وفي سكن واحد ولا يتعارفون, وأشد ألماً أن يكونوا غير متحابين وغير متوادين, فهذا أمر لا ينبغي، فنحن يجب أن نكون إخوة في الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن يحب بعضنا بعضاً، وأن نتناصح، فالأخ المقصر نعامله بالرحمة والشفقة، وكل منا يتودد إليه وينصحه ويتحبب إليه، وكُلٌّ بأسلوبه الخاص، ولعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينقذه مما هو فيه.
ولنعلم -جميعاً- أن الأمر هو كما قال الله تعالى: كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [النساء:94]، فنشفق ونرفق بالأخ الذي فيه تقصير دون أن نجامله ونداهنه ونقره ونرضاه على معصيته, لا!
أخ يتخلف -مثلاً- عن صلاة الفجر، أو عن بعض الصلوات!! لا نقره على ذلك, ولكن نخاطبه بالمحبة وبالمودة، وكذلك أخ فيه معصية أو منكر يجب علينا أن نتعاون -جميعاً- قبل أن يصل الأمر إلى الجهات المسئولة في الجامعة أو في غيرها... نحاول أن نتدارك هذا الأخ، ولا نعين الشيطان على أخينا، وإذا نصحناه وبذلنا الجهد، ثم بعد ذلك حصل له ما حصل، فإننا لا نلوم أنفسنا, ولكن أرأيتم إذا وقع إنسان في أوحال المعاصي, أو قبض عليه, ونحن لم نعذر إلى الله بالنصيحة, كيف يكون شعورنا بالألم؟!
لا شك أن كلاً منا يقول: يا ليتني نصحته! وربما لو نصحته لانتصح!
وكذلك ما قد يوجد من بعض الأفكار أو الآراء أو بعض البدع التي قد توجد سواء بيننا أو خارجنا, فنحن لا نستغرب أن يوجد أمثال هذه لأننا أمة أصيبت بعلل وبأمراض, ولكن نحن الأساتذة والأطباء الذين نعامل الناس بالرفق، ونحن أحرص ما نكون أن نستأصل هذه الأمراض بالأسلوب الطيب، وهذا واجبنا جميعاً.
فيرفق بعضنا ببعض, وينصح بعضنا بعضاً، ويُحب بعضنا بعضاً، وأرجو ألَّا يكون للشيطان بيننا مجال بتشهير أو ببغضاء أو شحناء، فإن هذا أفضل ما يتمناه عدو الله. ولا ينبغي أن نعطي له الفرصة لينزغ فيما بيننا.
وتأكدوا وثقوا أن كل عملٍ خالصٍ لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فإنه لن يجد الإنسان نفسه به إلا في محبة لإخوانه, ولن يجدها على أهل الشر والبدع والفسق إلا مشفقةً عليهم راحمةً لهم حريصةً على هدايتهم.
وفي رسول الله صلى الله عليه سلم أسوة حسنة.. كيف كان صلى الله عليه سلم؟ كيف قابله المشركون بصنوف الأذى والتهم؟ ولكن رسول الله صلى الله عليه سلم كان يقابلهم بالصبر الجميل, بالهجر الجميل, ويقابلهم بالإعراض، وإن أعرض كان إعراضاً لا قطيعة معه، ولكنه ترفع عن سفاهتهم وعن إيذائهم.
فهذا ما أحببت أن أنصح به نفسي وإخواني، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينفعنا جميعاً بما نسمع وبما نقول, وأن نكون طلبة علم مخلصين لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, داعين إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة, والحمد لله رب العالمين.
2 - الأسئلة
الحكمة من اقتران الإيمان باليوم الآخر مع الإيمان بالله
السؤال: أغلب النصوص القرآنية التي تتحدث عن الإيمان باليوم الآخر، تربطه بالإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فما الحكمة من اقتران الإيمان باليوم الآخر بالإيمان بالله؟ ولماذا لم يذكر أي ركن آخر من أركان الإيمان مع الإيمان باليوم الآخر؟
الجواب: قد ورد في غيرما آية من الكتاب ذِكَر الإيمان باليوم الآخر مع الإيمان بالله عز وجل، ولكن أيضاً قد وردت أركان الإيمان الأخرى مع الإيمان بالله كالإيمان بالملائكة والكتب والرسل.
فليس الأمر على إطلاقه، وأما الحكمة فنحن نتلمس ونحاول, ولكن قد لا يكون ما نقول هو عين الحكمة؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنزل القرآن، وفيه من الحكم والعبر والعظات ما لا يطيقه كل أحد وما لا يستطيع أن يستوعبه أو يفهمه كل أحد، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي منَّ علينا بهذا القرآن، وأنزله شفاء ورحمة وهدى، وأمرنا أن نتدبره ونتفكر في آياته الكونية والمحسوسة، وأيضاً آياته المنزلة وهو كلامه الحكيم.
ذكر الإيمان باليوم الآخر مقروناً بالإيمان بالله, لأن الإنسان الذي لا يؤمن باليوم الآخر لا يكون مؤمناً بالله -تبارك وتعالى, والإنسان إذا لم يؤمن باليوم الآخر, فلا معنى لكونه يكون مؤمناً بالله في هذه الحياة الدنيا؛ لأن العمل في الحياة الدنيا يرتبط أساساً بالإيمان بالآخرة.
وأيضاً لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غيب، وكذلك اليوم الآخر من أمور الغيب؛ فذات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الغيب, وإنما أخبرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بصفاته، وعرَّفنا بنفسه عز وجل، وكذلك عرَّفنا باليوم الآخر وبأحواله.
وأيضاً لأن أول علامة للمؤمنين أنهم يؤمنون بالغيب، وهذه أول ميزة وعلامة, ثم تتفرع عنها بعد ذلك كل أمور وشعب الإيمان؛ والذي لا يؤمن بالآخرة لا يمكن أن يعيش الحياة الإيمانية، وإن قال: أنا أومن بالله؛ فإن ذلك لن يكون إلا فكرة في عقله أو خاطرة في فؤاده، ولا يكون حقيقة واقعة في حياته.
ومن هنا نعلم أهمية الإيمان بذلك اليوم, والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُذكِّرنا بذلك -أيضاً- في هذه السورة العظيمة في السبع المثاني، والتي أنزلها الله تبارك وتعالى على نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي أعظم ما أنزله الله تبارك وتعالى في الكتب جميعها, وهي سورة الفاتحة, وفيها عرفنا الله تبارك وتعالى بنفسه، وبأنواع التوحيد الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] توحيد الربوبية.
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] توحيد الأسماء والصفات.
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] فيها الإيمان باليوم الآخر.
ثم بعد ذلك إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] توحيد الألوهية، الذي هو أول واجب على العباد، والذي بعث الله تبارك وتعالى به الرسل، وأنزل به الكتب.
فيأتي الإيمان باليوم الآخر بين ثنايا أنواع التوحيد، وبأنه تعالى مالك يوم الدين، لأن من لم يؤمن باليوم الآخر وبأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو مالك ذلك اليوم العظيم، فإنه لا ينفعه إقراره بربوبية الله أو بأسمائه، أو بأن الله وحده هو المعبود، وبالتالي فلا يرجو ثواب الله وما عند الله في اليوم الآخر.
ولهذا قال السلف الصالح رحمهم الله تعالى تلك العبارات العظيمة: [[من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق -الذين يقولون: إننا نعبده لذاته ولا نرجو الآخرة، ولا نطمع في الجنة، ولا نخاف من النار فهؤلاء زنادقة- ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري -أي: خارجي- ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو المؤمن ]] نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المؤمنين!
الإمامة في الدين
السؤال: كيف تنال الإمامة في الدين؟
الجواب: قد ذكر الله تبارك وتعالى في كتابه الحكيم بما تنال الإمامة فيما أخبرنا به عن بني إسرائيل، حين قال: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]، فهذان شرطان أو ركنان عظيمان لتحقيق الإمامة في الدين.
والإمامة في الدين لا تكون إلا بهما: الصبر واليقين، فالصبر يشمل الأنواع التالية:
الأول: الصبر على طاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ الصبر في طلب العلم، الصبر على أداء ما افترضه الله وما أوجبه.
والثاني: الصبر عما حرم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كالصبر على غض البصر عن غير المحارم، الصبر على كف اللسان عن الغيبة والنميمة، الصبر على كف القلب عن الغل للمؤمنين وعن الحسد وما أشبه ذلك.
والثالث: الصبر على أقدار الله الكونية؛ فإن هذه الدنيا مليئة بالمصائب والمتاعب، فلا بد من الصبر عليها.
أما اليقين، فإنه يشمل العلم، إذ لا يقين لمن لا علم لديه، فهو يشمل العلم ويشمل حسن الظن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا يقين لمن ليس له ظَنٌ حسنٌ برب العالمين سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وصدقٌ ويقين بوعد الله الصادق له, واليقين هو عمل قلبي يكون تحقيقاً للدرجة أو للمرتبة العليا من مراتب الدين، وهي مرتبة الإحسان؛ أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
فهذه عبادة الموقنين جعلنا الله وإياكم من الصابرين والموقنين، ورزقنا الإمامة في الدين! فعندما نعرف أن هذه الدعوة لا تكون إلا لمن حقق هذه الشروط العظيمة، وما يتبع ويدخل ضمن كل شرط منها من فروع بالغة الأهمية؛ فإن ذلك يوجب علينا أن نجتهد وأن نكدح وأن نسعى، وندعو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يحقق لنا ذلك، وما ذلك عليه بعزيز.
ترك الطاعات خوفاً من الرياء والعجب
السؤال: أحد الإخوة يقول: عندما آتي لأنصح أحد الإخوة يأتي الشيطان ليلقي في نفسي العُجب؛ فعند ذلك أترك النصيحة؟
الجواب: العُجب داءٌُ خبيث، والشيطان لا يبالي بأي وادٍ هلك الإنسان؛ فإن أهلكه بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فحسن, وهذا ما يريد, وإن غلبه الشاب التقي، وقال : لا يمكن أن يخدعني الشيطان، لابد أن أدعو إلى الله وأن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، كيف والدين النصيحة؟! كيف والله تعالى أمرنا وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104]؟!
إذًا أنا لا أطيع الشيطان في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله.
ولكن إذا أخذ يدعو إلى الله أتاه الشيطان بأمراض القلب؛ أتاه بالعجب والغرور والرياء, وليس ذلك حرصاً منه على علاج قلبك من هذه الأمراض, ولكن ليقول لك: إن دعوت إلى الله فإنك ستعجب بهذا العمل، ويدفعك ذلك إلى الرياء، فخير لك أن تسكت وألاَّ تدعو, فهو يأتي من باب الناصح المشفق المحب، ومتى كان عدو الله ناصحاً مشفقاً؟!
ألم يقاسم أبوينا في الجنة إنه لهما لمن الناصحين، وإنه مشفق، وإنه يريد لهما النعيم والملك الذي لا يبلى، وأن يكونا ملكين وغيرها من الوعود والغرور الكاذب؟!
ولهذا نقاومه من الجهتين :-
- من جهة أننا لا نترك الدعوة إلى الله، ولا طلب العلم، ولا عبادة ربنا عز وجل من أجله.
- ومن جهة أننا إن جاءنا فقال: اتركوا هذه الطاعات خشية الرياء, فإننا لا نطيعه.
لكن مع ذلك لابد أن نحذر من العجب والرياء, ونحذر من كل ما يحبط أعمالنا، لأن هذه المحبطات تجعل أعمالنا هباءً منثوراً, وما قيمة العمل والجهد إذا كان هباءً منثوراً؟! وما قيمته إذا كان لغير لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! فنحن نقاوم ونحارب العجب والغرور والرياء، ونعمل, ولكن لا نثق في أن هذا العدو ينصحنا ويحذرنا من العجب, فتكون نتيجة ذلك أننا لا ندعو إلى الله ولا نأمر بالمعروف ولا ننهى عن المنكر.
كيفية تصحيح النية في طلب العلم
السؤال: إن الإنسان عندما يبدأ بطلب العلم لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خالصاً يلاحظ دخول الرياء بين فترة وأخرى على نفسه، وأيضاً يجد أنه يريد شيئاً غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من طلب الشهادة والوظيفة والمكانة؛ فكيف يصل إلى تصحيح النية في طلب العلم الشرعي؟
الجواب: الذي جاء وبدأ في طلب العلم أو في أي عملٍ من أعمال الطاعة، وهو لا ينوي بذلك وجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن عليه أن يتوب وأن يستغفر الله وأن يصحح نيته ويحولها لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وأما الذي وُفِّق من أول الأمر لأن تكون نيته لله, ولكن يسأل: كيف يثبت تلك النية ويجردها لله؟
فليعلم أن حالنا مع أنفسنا كحالة جهاد عدو لا يفتر؛ عدوٌ أعطاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومكَّنه من قلوبنا يجري منا مجرى الدم, ونفسٌ أمارة بالسوء تحب أن تخلد إلى الأرض, وشهوات ومغريات من كل جانب, ودعاة على أبواب جهنم يريدون إلقاء الناس فيها.
فلا يكفي أنني أبتدئ بالعمل وأنا مجرد للنية خالصة لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأن هؤلاء الأعداء لا يتركونني أبداً، أنا في طريق قُطّاعه كثير، وعقباته كثيرة, ومفاوزه مهلكة موحشة، ولا سبيل إلى الاهتداء إلى هذا الطريق إلا بالحذر واليقظة؛ بأن يكون القلب يقظاً في كل حين ألَّا يخرج ولا يحيد عن الإخلاص, وعن طلب العلم لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وعن طلب الحق والدعوة إليه كما أمر الله وكما شرع؛ فلا بد من الجهاد.
والنفس قد تغلب تارة, والشيطان قد يغلب تارةً أخرى, ولكن نحن نغلبه -بإذن الله- بالاستغفار وبالتوبة وبتصحيح النية وبتجديدها، وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب }.
فلا بد من تجديد الإيمان, ونعلم أنه إذا كان يبلى ويضمحل إلى أن يتلاشى، فلا بد أن نجدده في كل وقت، ولهذا من نظر إلى عبادتنا, وجد أن الله تبارك وتعالى شرع هذه الصلوات الخمس، لنجدد إيماننا في كل يوم وفي كل حين؛ كل يوم خمس صلوات، وشرع الله لنا حلقات الذكر, ومجالس العلم وقراءة القرآن, والتفكر في الآخرة, وما أشبه ذلك؛ كل ذلك ليتجدد الإيمان في قلوبنا.
وإلا فقد كان يكفي أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقولوا: "لا إله إلا الله" وقد قالوها بصدق وحق وإخلاص ثم ينطلقوا، ولا شيء عليهم بعد ذلك!! لكن كم عانوا! وكم عانى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعب في تربيتهم حتى استكملوا الإيمان، ووصلوا إلى الدرجة العليا التي أثنى الله تبارك وتعالى عليهم بها! ونسأله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يلحقنا بهم, إنه سميع مجيب.
الرد على من نسب التأويل والتعطيل للسلف
السؤال: أحد الإخوة يسأل عن تفسير قول الله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42]، وذكر بأن ابن كثير قال: 'عن ابن مسعود وابن عباس والشك من ابن جرير يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42] قال: عن أمر عظيم، كقول الشاعر:
أصبر عناق إنه شر باق قد سن قومك ضرب الأعناق
وقامت الحرب بنا على ساق
وقال صاحب التفسير: قال العوفي عن ابن عباس في قوله: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42] يقول: حين يكشف الأمر وتبدو الأعمال، وكشفه دخول الآخرة، وكشف الأمر عنه' فما رأيكم في هذا التأويل؟ وكيف نوفق بين ذلك وبين من ينفي وجود التأويل بالنسبة لآيات وأحاديث الأسماء والصفات عند السلف رضوان الله عليهم؟
الجواب: الحمد لله! هذا ليس بتأويل، ويجب أن نعلم جميعاً أن السلف الصالح رضوان الله عليهم ولا سيما أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يمكن أبداً أن يكون فيهم مبتدع، ولم يوجد في أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبتدع ولا مؤول، ولا معطل، ولا خارجي، ولا مرجيء، ولا جهمي، ولا شيء من هذه البدع، والحمد لله رب العالمين، فهو جيل مطهر نقي من هذه البدع والضلالات، بل هم الذين حاربوها وأنكروها.
ولكن هل كل واحد من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معصوم عن الخطأ؟ لا.
وهل كل واحد من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حوى العلم كله؟ طبعاً لا. فقد يخفى على أحدهم شيء من العلم, وأيضاً قد يقع آحاد منهم في الخطأ.
فهذه الآية صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن معناها (يكشف الرحمن عن ساقه عز وجل) فهل هذا الحديث بلغ كل صحابي؟ لم يقل أحد من العلماء أنه لا بد لأي حديث أن يبلغ جميع الصحابة أبداً، فعندما قال هؤلاء الصحابة عن الكشف عن الساق: أنه الهول والكرب والشدة هل قالوا ذلك تأويلاً؟ الصحيح لا, وإنما قالوا ذلك استناداً إلى لغة العرب، فلغة العرب هي أحد المصادر التي نعرف بها التفسير، ولكن نستعمله إذا لم نجد من كتاب الله ما يفسره، ثم من سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعد ذلك أقوال الصحابة، ثم اللغة, وهم يجتهدون حسب اللغة؛ لأنهم أهل اللغة المتمكنون فيها، وفي لغة العرب لا يُسمى هذا تأويلاً, لأن الكناية يعلم من درس منكم ذلك في لغة العرب لا تقتضي نفي الحقيقة, وهم يمثلون في البلاغة بقول الخنساء في أخيها :
رفيع العماد طويل النجاد ساد عشيرته أمردا
وإذا قلنا: إن فلاناً كثير الرماد, فهذه كناية عن الكرم, فبدلاً من أن أقول: فلان كريم، أقول: فلان كثير الرماد، فالعرب تمدح بعض الناس أنَّ كلبه لا يهر, أي من كثرة ضيوفه, وهذه كناية عن الكرم، لكن الكناية لا تقتضي نفي الحقيقة، فإن وصفي إياه بأنه كثير الرماد لا يقتضي ذلك أنه لا رماد عند بيته أو أنه ليس عنده كلب، أو أن كلبه لا يهر، فقد يكون فعلاً كثير الرماد -حقيقة- بأن يكون هذا الرماد موجوداً عند البيت، وأيضاً قد يكون كلبه لا ينبح لأنه كريم, لكن أنا لم أقصد هذا المعنى الذي يتبادر من ظاهر اللفظ، وإنما قصدت لازمه الذي كنيته عنه أنه كريم، وكذلك لا يلزم من أن يكون الكشف عن الساق كناية عن الشدة وعما في ذلك اليوم من مواقف رهيبة، لا يلزم من ذلك نفي الصفة وأن نقول: ليس لله تعالى ساق.
نلخص ونقرب ذلك ونقول: هل قال ابن مسعود أو ابن عباس : (إنه ليس لله تعالى ساق أو ليس لله يد)؟ لم يقولوا ذلك كمثل المعطلة والمؤولة الذين قالوا: 'ليس له ساق' فهذا فرق عظيم بين القولين، بين من نظر أن الأمر كناية أو لم يبلغه الحديث، وبين من نفى نفياًَ مطلقاًَ هذه الصفة التي صح بها الحديث.
وليس في الصحابة ولا في السلف مؤول؛ ولهذا نقول: ليس من مذهب السلف التأويل, وكل ما يقال: إن فيه تأويلاً، فإن هذا إنما أتي القائل به من سوء فهمه للغة العرب ومن سوء فهمه لعقيدة السلف ، ومن بدعته إن كان من أهل البدع، أو بالخطأ في ذلك إن كان من أهل السنة , ونعيد هذه القاعدة ونقررها لا نقول: إن كل واحد من أهل السنة معصوم، ولا أن كل أحد من الصحابة معصوم عن الخطأ حتى في العقيدة, لكن العبرة بأنهم إذا أجمعوا فإنهم لا يجمعون على ضلالة ولله الحمد, وكل من أخطأ فإنه يرد إلى الأصل وإلى المنهج القويم، وهو كتاب الله، وسنة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أجمع عليه السلف الصالح .
كيفية قراءة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وفهمها
السؤال: كثير من الإخوة يسألون عن كيفية الوصول إلى فهم كتب شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وما هي الكتب التي تعين على ذلك؟ وكيف يمكن التعرف على عقيدة أهل السنة والجماعة ...؟
الجواب: بالنسبة لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية (ولا نقول ذلك تعصباً، ولا نقوله مجرد عاطفة، ولكن نقول ذلك حقاً وصدقاً) نقول:
إن هذا الرجل نابغ وفذ, ولو أن شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية كان لدى أية أمة من الأمم, بل أنا أحدد وأقول: لو أن شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية ظهر في أوروبا , وظهر منه فقط ما يتعلق بالفلسفة والمنطق، لألَّهه الغربيون ولعبدوه؛ لأنهم أمة جاهلية، ألهت "نيوتن ".
يسمون "نيوتن " إله العلم.
ويسمون "دارون " إله العلم.
ويسمون "هيجل " إله العلم.
هكذا يطلقون عليه عياذاً بالله! ولا إله إلا الله! ونحن أمة لا تؤله إلا الله، عندنا لا إله إلا الله حتى رسول الله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو عبد ولا نؤله أحداً غير الله.
لكن نقول: هذه الأمة التي تعبد عظماءها ومفكريها، لو أن هذا الرجل كان منها لعاملته أشد من أولئك، لأنه سبق هؤلاء جميعاً في مسألة نقد الفلسفة والمنطق اليونانيين اللذين لم تقفز أوروبا وتنهض من كبوتها وتدخل في عصر النهضة إلا عندما تخلصت من الفكر اليوناني، ومن المنطق الصوري الذي فرضه أرسطو ومنهجه، ومن الفكر الفلسفي الذي فرض على أوروبا تقليدها وتبعيتها للفكر الإغريقي ولليونان وللجاهلية القديمة.
فيجب على كل طالب علم أن يحرص على اقتناء الكتب، ويبذل جهده لفهمها، ومع أن العصر، والأسلوب، والموضوعات كلها تختلف، ولكن كل شيء يستعان عليه بالمران وبالمراس؛ فمن قرأ له مرة ثم مرة، فإنه سيجد أسلوبه سهلاً شيقاً.
بل من يقرأ لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله, ثم يجد من ينقل عنه ولم يشر إلى هذا النقل، فتقرأ في ثنايا الكلام سطرين أو ثلاثة أسطر، فيقول لك قلبك: هذا من كلام شَيْخ الإِسْلامِ , وإن كان الرجل لم يذكر ذلك؛ لأن له أسلوباً متميزاً جداً في غاية القوة من الناحية اللغوية وبالمعاني العظيمة التي يتضمنها أسلوبه, ولا غرابة في ذلك؛ لأن الغذاء الذي تغذَّى به قلبه وفكره وعقله هو كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكلام السلف الصالح .
فالفضل إذاً لذلك المنهج الذي أخرج ذلك الرجل وأمثاله، وسيخرج أمثاله بفضل الله تعالى الذي منَّ علينا بهذا المنهج الذي هو كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكلام الصحابة والتابعين والسلف الصالح رضوان الله عليهم.
وبهذه المناسبة أكرر وأقول: إن بعضاًَ من كتب شَيْخ الإِسْلامِ ومن آرائه العظيمة التي ألفها تكاد تكون شروحاً لعبارات الإمام أحمد رحمه الله، وتعلمون ما أعطاه الله من الفضل، المنزلة، الكرامة، الإمامة في الدين.
فمن أراد الخير والحق والهدى، فليتعلق بهذا المنهج الكريم وبهؤلاء الرجال الأفاضل، وليأخذ من حيث أخذوا، وليتبع آثارهم وليقتد بهم، وسيكون -بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فاهماً لكلامهم، وداعية إلى ما دعوا إليه، وعاملاً كما عملوا وكما جاهدوا.
وأما الكتب التي تطلبون فهي معروفة لديكم, وأول كتاب أوصي به إخواني في الله هو كتاب الله عز وجل، كتاب الله: العقيدة، الأحكام, الإيمان، اليقين، الإخلاص، الإخبات الذي تحتاجه قلوبنا، الإنابة، التوكل، الرغبة عن الدنيا والرغبة في الآخرة، كل ذلك نحصل عليه وأضعافه إذا قرأنا كتاب الله عز وجل قراءة المتدبر المتفكر المتعقل، وقرأنا في تفسير السلف الصالح رضوان الله عليهم من التفاسير الموثوقة، وكذلك سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فقد حفظ لنا أئمة السنة رضي الله تعالى عنهم أبواباً عظيمة أو كتباً ضمن السنن؛ كتاب الإيمان -كتاب القدر- كتاب التوحيد, وكتاب الرد على الجهمية وغير ذلك من الكتب الموجودة في الصحيحين وغيرهما, هذه المصادر الأساسية وما تبعها من شروح ومن كتب ككتب شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وابن القيم , وكتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله أجمعين, وكتب الشيخ حافظ حكمي رحمه الله, فهذه مما تعينكم بإذن الله على معرفة العقيدة الصحيحة التي كان عليها السلف الصالح ، جعلنا الله وإياكم من أتباعها.
أخذ العلم والرواية عن أهل البدع
السؤال: حول كتاب أهل السنة والجماعة معالم الانطلاقة الكبرى وما ذكر في كيفية معاملة أهل البدع, وقد يكون لبعضهم من لديه شيء من العلم، هل يؤخذ عنه العلم الشرعي؟
الجواب: بالنسبة للكتاب، هو كما ذكر صاحبه أنه جمعه من كلام شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية , وهو يحتوي على فوائد طيبة، منها هذا الجمع، ومنها ما ذكره فيما بعد من كلام حسن, وجدير بنا أن نقرأه.
وأما بالنسبة للبدعة فقد يقع ذلك, والأمة -كما تعلمون- تتمحض للخير وتتمحض للشر, وبين ذلك أمور متفاوتة، والحال أنه وقع في هذه الأمة في العصور المتأخرة أن التمحض للخير قليل, فلا بد أن يؤخذ شيء من الحق إذا أريد أن يؤخذ الحق ومعه شيء من الباطل, ولكننا نرفض الباطل ونأخذ الحق وحده بحسب المستطاع, وهذا بعد أن نكون عرفنا أن هذا الرجل مبتدع فعلاً، أي أن هذا الكلام مما ثبت عنه.
وهنا أنبه إلى قضية أخرى قد يتعلق بها بعض أهل البدع، وهي قضية الرواية عن أهل البدع، وهو أمر آخر غير تلقي العلم عنهم، لأن الرواية أساسها هو الضبط والثقة والصدق، ولهذا قد يُروى عن أهل البدع الذين لا يكذبون، وكذلك الذين ليسوا من الغلاة في بدعهم والذين ليس لما رووه أثر في بدعتهم، فقد يروى عن بعضهم لضبطه ولثقته, ونحن أهل السنة أمة الإنصاف, وإن لم ينصف أهل السنة فمن ينصف؟ أهل البدعة؟!
وإن لم يعدل أهل السنة فمن يعدل؟ أهل البدعة!
فنحن إن كان للإنسان فضل من علم أو ضبط وحفظ وإتقان أو زهد وعبادة وفيه بدع, فإننا مع تحذيرنا من بدعته وعلمنا بها لا ننكر فضله فيما له فيه فضل, هذا لا بد منه.
أما من تمحَّض في الشر كغلاة الرافضة أو غلاة الخوارج الذين أنكروا بعض سور القرآن، أو كان من الباطنية وأشباهها، ممن ارتد عن الإسلام وتمحَّض للشر وللكفر، فإن هذا لا تقبل روايته، لا يروى عنه ولا يقبل علمه، ولا يُتلقى عنه العلم مطلقاًَ، هذا ما أستطيع أن أوجزه. والله أعلم.
منشأ الحداثة وغيرها من المذاهب الفكرية المعاصرة وكيفية علاجها
السؤال: نسمع كثيراً عن الحداثة والحداثيين، فما المقصود بـالحداثة ؟
الجواب: الكلام عن الحداثة لا نستطيع أن نستوفيه، لكن نحن نضع الأصل الذي تعرفون به هذه الفكرة وغيرها من الأفكار، وهي أن هذه الفكرة لم تنبت ولم تخرج من بلاد الإسلام ولا من التراث أو الفكر أو العلم الشرعي الإسلامي أبداً، إنما هي فكرة غربية، وحسبنا أن نعلم أنها غربية, وأية فكرة وافدة، فالواجب علينا أن يكون موقفنا حيالها أياً كانت قبل أن نؤمن بها أو نعتقدها أو نعمل بها أن نشك ونتوقف فيها؛ لأن مصدرها هم هؤلاء الكفار الغربيون.
وما وصل إلينا في مجتمعنا من الحداثة ما هو إلا الفقاقيع, لأن الأصول الفكرية أصلها في الغرب منذ قرن أو قرنين, وأصل هذه الفكرة أنها تستمد من النظرية الداروينية نظرية "دارون ", وتستمد من "الفرويدية " نظرية "فرويد " في حيوانية الإنسان, وتستمد من الماركسية , وتستمد أيضاًَ من المذاهب الأدبية الأوروبية التي عانى منها الغرب مثل المذهب الرومانسي كردة فعل له أو متأثرة به والمذهب الرمزي الذي ظهر في القرن التاسع عشر وهو مذهب أدبي رمزي -أيضاً- طوره البعض وطعنوا في تلك النظريات وأصبحوا يدعونه ويسمونه بهذا الاسم, والحقيقة أن هذا المصطلح هو مصطلح عام يشمل عدة مدارس وعدة اتجاهات هناك في الغرب ومعظمها في فرنسا بالذات، ويصعب حصرها حتى أن بينها من الشقاق ومن العداء ومن الاختلاف الشيء الكثير.
هنالك الاتجاه الوجودي أو ما تطور عن الوجودية وهؤلاء لهم اتجاه, الماركسيون الشيوعيون هؤلاء لهم اتجاه, والشيوعيون أنفسهم لهم أكثر من اتجاه, وهناك أيضاً الاتجاه الكاثوليكي الذي ظل متمسكاً بالتراث، أي الاتجاه الشيوعي المتمسك بمبادئ لينين وماركس .
وهناك الاتجاه الشيوعي المتطور، الذي كان من دعاته "رجاء جارودي " الذي ألف كتاب "ماركسية القرن العشرين " وقد اعتنق الإسلام بعد ذلك, أي أن هناك عدة اتجاهات فكرية، وذلك نتيجة مجتمع لا يؤمن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، نتيجة مجتمع غلا في الجاهليات وأشبع بها من قرون.
تصوروا أن هناك جماعة من هذه الجماعات في باريس واسمها جماعة الضفادع وجماعة الخنازير ، وهذه جمعيات أدبية ويجتمعون ولهم فكر، ولهم شعر مختلف عن الآخرين، فضلاً عن البنيوية ومؤسسها رجل يهودي، وأيضاً من المؤسسين لمذهب الحداثة في الاتجاه الشيوعي رجل شيوعي معروف اسمه "رولانده " وآخر اسمه "لفيفر ", وكلهم دعاة للشيوعية ، وهم مكشوفون ومعروفون في بلادهم.
وقد جاءتنا إما لأن فينا سماعين لهم، وإما لأسباب كثيرة غيرها أدَّت إلى أن يتأثر بهذا الغزو الفكري شواذ من الشباب, وهذا يجب أن نحسب حسابه كأحد المؤثرات للاحتكاك الفكري مع الغرب؛ فالصراع الفكري مع الغرب أحد الأوجه للغزو الوافد إلينا, ووجه من الوجوه الكثيرة جداً.
وبهذه المناسبة أذكر ما حذر منه وزير الثقافة الفرنسي منذ سنوات حيث وقف يحذر أمته وبلاده فرنسا من خطر السيطرة الفكرية الأمريكية يقول: 'إن الذوق الفرنسي أصبح أمريكياً والهدف الفرنسي أصبح أمريكياً والأفلام تأثرت بأفلام هوليود ' وهكذا رجل في باريس يحذر من هوليود !!! ولا فرق بينهما عند المؤمن.
وإذا كانت هذه الأمم تحافظ على أصالتها كما تزعم، وترى أن أصالتها لا تكون إلا بأن تحمي نفسها من خطر الغزو الفكري القادم إليها من أمم غربية مثلها لا تختلف عنها من حيث المادية عدم الإيمان بالله إنكار الدين ومن حيث الإباحية والانحلال، فكل ذلك سواء هنا أو هناك, لكن يرون أن ثقافتهم لا بد أن تتميز، فما بالكم بالمسلم الذي يؤمن بالله، والذي يستمد إيمانه وعلمه وفكره وثقافته من كتاب الله ومن سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعلم الشرعي الصحيح؟!
كيف تكون مقاومته؟! وكيف يكون تحذيره من هذه الآراء؟!
فهي موجة من موجات الغزو الفكري الوافد, ولا بد أن تنحسر, وتأكدوا أنه لا بد أن تنحسر، لكن لا بد -مع ذلك- من التنبه لهذه الأخطار جميعاً.
وإذا أردنا أن نعالجها, وأنا أقول هذا لأنني أمام إخوة -ولله الحمد- على مستوى العلاج, كيف نعالج هذه الظواهر السيئة؟
ابدءوا بالوقاية، انشروا العقيدة الصحيحة، والعلم الصحيح، والدعوة إلى الله, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع، وأنتم بذلك تجعلونه في وقاية محصنة تامة عن أية فكرة وافدة, لكن إذا اشتغلنا بفكرة ما، قد يشغلنا بها أعداء الله لمدة عشرين أو ثلاثين سنة ثم يغيرونها، كما يغيرون من الإباحية إلى الشيوعية ومن الشيوعية مثلاً إلى الحداثة ، وهكذا..
وقد يغيرون ويغيرون، ولا ننتهى أبداً من الجهل، لكن إذا نظرنا إلى الأصل الوقائي, فلا بد منه لنا لكي نكون مؤمنين ومسلمين حقاً، وهو أن نعبد الله على علم وبينة وبصيرة, وأن ندعو إلى الله على بصيرة وأن نوعي أمتنا, بحيث لا ترتكب معصية ولو صغيرة فضلاً عما ترتكب من الإلحاد، فإن هذا يعطيها وقاية عامة، ولولا الخواء الموجود لدى شباب العالم الإسلامي من العقيدة الصحيحة، ما تقبلوا أفكار الغرب وما رضوا بها، وهم يعلمون أن وراءها الأيدي الهدامة، وأن وراءها اليهود، وأن وراءها المستشرقين والمبشرين.
إذاً محاربة هذا الخواء هو بتعبئة هذا الفراغ الروحي بالإيمان الصحيح بالله والعقيدة الصحيحة، هذا الذي به نقاوم جميع العلل وجميع الأدواء بإذن الله تبارك وتعالى، ومع ذلك فإن وجد فينا متخصصون في الرد على هذه الضلالات وكشف زيفها بالتفصيل، فهو أفضل.
مقتضيات ولوازم الأخوة
السؤال: أحد الإخوة يسأل عن حد الأخوة، وما هي المقتضيات العامة لها؟ لأنها تستخدم كشعار عند كثير من الإخوة عندما يكون له رغبة ومراد في بعض الأمور التي يسعى لتحقيقها؟
الجواب: الأخوة المطلوبة هي الأخوة الإيمانية التي تقتضي أن يكون المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، وتقتضي أن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه، وتقتضي أن ينصحه لأن الدين النصيحة، ومن ذلك النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، وتقتضي حسن الخلق مع المؤمنين جميعا،ً والتعاون على البر والتقوى، وتقتضي عدم الشذوذ عن أهل الإيمان والخير والصلاح، الشذوذ إما ببدعة أو برأي أو بتخاذل عنهم، وهكذا مقتضيات واضحة جاءت في الكتاب والسنة.
نعلم بها أن الأخوة الإيمانية هي تحقيق لموالاة المؤمنين، والبراءة من الكافرين ومن المعاصي والفجور وأصحابها.
فكون بعض الناس قد يستغلها سُلَّماً أو ذريعة لغرض غير شرعي، نعم! قد يوجد، لكن ذلك لا يجعلنا نتخلى عنها، المؤمن الشاب التقي -جعلني الله وإياكم كذلك- الذي يتقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتخلق بأخلاق المتقين، بأخلاق أولياء الله وعباده الصالحين، ولا يبالي أن غيره يستغل ذلك الأمر.
نعم! المؤمن فطن وحذر، ولكن ربما يكون في أخلاقك وتمسكك بالدين ما يردعه ويعلمه تعليماً عملياً أن يكون مثلك بإذن الله عز وجل، فالأصل في هذا أن تُقَابِل الإساءة بالإحسان، وأن تُقَابِل الجهل بالحلم، وأن تُقَابِل الاستغلال أو الانتهازية بالإخلاص لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وما دمت تحتسب ذلك عند الله فلا تُبالِ بأهداف المخلوقين ومآربهم وبأغراضهم.
لكن لو شعرت أو رأيت أن إنساناً ما؛ إما صاحب هوى أو بدعة أو معصية ليس غرضه إلا أن يصل إلى ما أراد، وأنت عرفت ذلك يقيناً, فإنه لا يصح أن تتخلى عن هذا الخلق مع غيره من الناس, لكن معه ينبغي لك أن تحذر منه وألاَّ تتيح له فرصة, ومع ذلك لا تكف عن الدعوة له، ولو بدعاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له أن يهديه وأن يوفقه للحق, كيف ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو للمشركين أن يهديهم الله وأن يأتي بهم مؤمنين وأن يسلموا؟! فكيف بنا نحن مع المؤمنين؟!
فيجب أن يكون خلقنا أرفع وأسمى من كل هذه المؤثرات، وفي نفس الوقت أن يكون منهجنا في الدعوة هو التعامل على السنة الصحيحة التي لا محاباة ولا مداهنة ولا مجاملة فيها في الحق، ولا تحريف للحق من أجل إرضاء أي إنسان كائناً من كان, لكن التعامل شيء آخر, فإن التعامل قد يتغير بسبب المواقف، أما التمسك بالمنهج فهو شيء آخر, التمسك بالحق مبدأ, والمبادئ ثابتة لا تتحول ولا تتغير.
الجمع بين قول الله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) وحديث (كل مولود يولد على الفطرة)
السؤال: يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن:2] والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه }، فكيف نأخذ من ذلك كون الإنسان يولد على الفطرة مع أن الآية تبين أنه على الدين؟
الجواب: ليس بين الآية والحديث منافاة -ولله الحمد- بل صريح القرآن يدل على الحديث، وهو قول الله تبارك وتعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30]، فإن الله خلق النفوس على هذه الفطرة النقية التي هي الإسلام، وهي التوحيد، وهي هذه الملة القويمة، وكما أوضح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إحدى روايات الحديث: {كما تنتج البهيمة جمعاء هل ترون فيها من جدعاء }، أي: البهيمة تلد بهيمة مستوية كاملة الخلقة, ليس فيها جدع ولا شعار ولا إشارة, وبعد ذلك يضع الناس هذه الرموز وهذه الإشارات وهذه العلامات للانتماء لشيء ما.
أما الآية هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن:2] فهذا إخبار من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن حال الناس أن منهم المؤمنين وأن منهم الكافرين، وأنه خلقهم جميعاً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وحكمته وقدره بالأزل اقتضى أن يكون منهم مؤمنون وكافرون, مع أن كل مولود يولد على الفطرة، ولكن أبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، فيصبح الخلق على نوعين: كافر ومؤمن, مع أن كلاً منهما قد ولد على الفطرة, فلا منافاة إذن بين الآية والحديث، والله أعلم.
حكم الاستثناء في الإيمان
السؤال: ما حكم الاستثناء في الإيمان، وما هو قول أهل السنة في ذلك؟
الجواب: الاستثناء في الإيمان هو أن يقول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله, وخلاصة القول فيه بإيجاز: إن أراد الإنسان أن يبعد عن نفسه شبهة التزكية، كما قال تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32] فيقول: "أنا مؤمن إن شاء الله", فإنه لا بأس بذلك، ويقصد بذلك كمال الإيمان، أي: أنه مؤمن الإيمان السلفي الذي هو أعلى من درجة الإسلام, الذين وصفهم بقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].
فمن السلف من كان يتحرج عندما يقرأ هذه الآيات ويُسأل أمؤمن أنت؟ وقد سُئِلَ الحسن البصري رحمه الله عن ذلك فقال: 'إن كان من هؤلاء الذين وصفهم الله بقوله: الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً [الأنفال:2] إلى آخر الآيات في وصفهم فلست منهم، وإنما أرى نفسي ممن قال الله عز وجل فيهم: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التوبة:102] ' .
فهذا من باب حط النفس واتهامها وعدم تزكيتها، وأما بالنظر إلى كمال الإيمان وتحقيقه فإنه جائز، وأما إن قالها على سبيل الشك عياذاً بالله، ويقصد بالإيمان الإسلام أنه مؤمن إن شاء الله - يعني أنه شاك في إسلامه- أي: أنا مسلم إن شاء الله، على سبيل الشك، فذلك لا يجوز.
وهذا يجمع ما ورد عن السلف من الاستثناء وما ورد عنهم من النهي عنه, فمن نظر إلى كمال الإيمان وإلى التزكية استثنى، ومن لم يستثن فإنه نظر إلى أن المؤمن لا يشك في دينه، كما قال قائلهم: أشك في كل شيء إلا في إيماني، فأنا مسلم، ويقصد من ذلك أنه لا شك عندي بأن الله حق وأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فكيف أستثني وأقول: أنا مسلم إن شاء الله بنية الشك، وبهذا يجمع بين القولين ولا منافاة بينهما، ولله الحمد.
وحدة المسلمين تكون بالاجتماع على الكتاب والسنة
السؤال: ألا ترى بأن التركيز على منهج أهل السنة يعتبر معاداة للملل والفرق الأخرى، وبالتالي فإنه يؤدي إلى نبذ الوحدة بين المسلمين, واليوم نحن في حاجة إلى الوحدة وهدم الخلاف وترك التشكيك في بعضنا؟
الجواب: لا خيار لنا في أن ندعو إلى السنة، وهذا الأمر ليس من النوافل ولا من التطوعات, بل هو الواجب الذي يجب على طلاب العلم جميعاً وعلى الدعاة إلى الله وعلى كل مسلم أن يدعو إلى السنة وإلى منهج أهل السنة والجماعة ، ليس لنا خيار في ذلك؛ لأن ما عدا السنة هو البدعة وهو الضلالة, أما أن ذلك يفرق فننظر يفرق بين من؟ إن كان يفرق بين أهل السنة ، فإن هذا لا يتصور, لأن أهل السنة إنما يريدون السنة ويريدون الحق، فلا يمكن أن يفرق بينهم من يدعوهم إلى السنة، وليس عند أهل السنة شيء أفرح من أن يظهر فيهم أو يدعوهم أحد إلى السنة، ويبينها لهم ويعرف أنهم كانوا على خطأ، ثم ظهرت لهم السنة، أو كانوا على بدعة فبانت لهم السنة، هذا أحب شيء إلى نفوس أهل السنة ، فلا تفريق بين أهل السنة الراغبين في الحق وفي الكتاب والسنة أبداً.
وأما إن كان القصد أن يفرق بين الأمة، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أخبرنا في الحديث الذي يُروى عن كثير من الصحابة عن أبي هريرة ، وأنس ، ومعاوية { أن هذه الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل من هم يا رسول الله ما أنا عليه وأصحابي } وهم أهل أهل السنة .
إذاً الفرقة الناجية والطائفة المنصورة هم أهل السنة ، وكلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يتخلف وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:2-3]، لا بد أن يقع التفرق, فلو قال قائل: نريد أن نجمع هذه الثلاث والسبعين وندمجها لتكون سبعين؟ نقول: لا تستطيع أبداً؛ لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: على ثلاثٍ وسبعين.
فالتفرق حقيقة قائمة، أي لا يمكن لنا واقعاً أن نجعل الأمة الإسلامية كلها واحدة، كما أننا مأمورون أن ندعو أمم الأرض جميعاً إلى الإسلام، ولكن في الواقع هل نستطيع أن نقضي على اليهود والنصارى والمشركين مع أن ذلك واجب علينا ونحن نسعى إليه، ونحبه، ونبذل جهدنا فيه؟
هذا الواقع لا يكون إلا إذا أنزل الله عيسى عليه السلام، وخلت الأرض من الشرك نهائيا،ً هذا أمر آخر، لكن في واقعنا نحن الآن لا نستطيع ذلك, ومع ذلك ندعو إليه ونحبه.
فكذلك السنة ندعو بأن تكون أمة الإسلام أمة واحدة, ونحرص على إزالة كل سبب يفرق ويباعد بينها, ونبذل جهدنا لئلا تتفرق, لكن الواقع أن الأمة ستظل متفرقة, فهل نقول: نضحي بالعقيدة الصحيحة وبالمنهج الصحيح من أجل أن تجتمع الأمة, وهي لن تجتمع أصلاً، هذا عكس ما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، فالتفرق واقع، والمأمور به أن نعتصم بحبل الله, وحبل الله هو: منهجه وطريقه وسبيله، وهو الكتاب والسنة، نعتصم بالكتاب والسنة ولا نتفرق.
فندعو الأمة -جميعاً- أن تتحد على الكتاب والسنة،ومن الخطأ أن نقول: اللهم اجمع كلمة المسلمين فقط, بل نقول: اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق، فما الفائدة على أن يجتمع المسلمون كلهم على أن يكونوا خوارج أو روافض أو صوفية -عياذاً بالله- فعند أهل الحق الاجتماع ليس مطلباً في ذاته, إنما الاجتماع على الحق هذا هو الصحيح.
والواقع أنه لا يجمع المسلمين شيء غير الكتاب والسنة أبداً، لأنك لو دعوت الناس إلى مذهب فلان من الناس، فإنه سيقابلك آخر برأي آخر، فيرى أن مذهب فلان الآخر هو الأفضل، وبهذا لا يمكن أن نجتمع، لكن إذا قلت لهم: الكتاب والسنة فسيوافقني -ولله الحمد- كثير من الناس, فالذي يجمع الأمة الإسلامية الكتاب والسنة, وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة ومن شذ عنه فلن يشذ عن إمام أو طائفة أو شيخ طريقة أو فرقة أو أمير دعوة وإنما سيشذ عن الكتاب والسنة.
فقد حكم على نفسه بالشذوذ, وأخرج نفسه من أهل الحق، وسوف يحاسب يوم القيامة على ذلك، لم يخرجه أحد بل هو أخرج نفسه, لكن أي شيء يجمع المسلمين غير ذلك؛ فإنه قد يخرج عنه من هو من أهل التقى والإيمان والحق، وقد يدخل في ذلك الاجتماع من هو من أهل الفجور والضلال والباطل، لأن المعيار وهو اتباع الكتاب والسنة، فلا أحد أحرص في هذه الأمة على المحبة بين المسلمين والألفة والاتفاق من أهل السنة والجماعة .
لكن لا يكون ذلك بالتضحية بالعقيدة الصحيحة والإيمان الصحيح أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والموالاة في الله والمعاداة في الله, وذلك لا يكون أبداً, وإلا فسنكون أضعنا هذه الأهداف العظيمة, وعصينا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وخالفنا أمره؛ لنحقق هدفاً نحن صنعناه، ولن يتحقق في الواقع أبداً.
ضابط الأصول والفروع في الدين
السؤال: ما أصل ضابط كل من أصول الدين وفروعه؟ وكيف نعرف الأصول من الفروع؟
الجواب: بالنسبة للأصول والفروع عامة، لا نفترض فيها الضبط المنطقي الدقيق حسب الحدود المنطقية الدقيقة، لكن ما كان متعلقاً بأمور الاعتقاد -العقائد والإيمان- فهو من الأصول، وأما الأعمال والشرائع العملية فهي من الفروع، ثم بعد ذلك العقيدة نفسها فيها أصول ويتبعها فروع لنفس الأصول التي هي الاعتقادات.
فمثلاً: الإيمان عند أهل السنة والجماعة هو من الأصول، لكن -مثلاً- من الفروع مسألة الاستثناء في الإيمان، وأن ننظر إلى فلان والتطبيق الواقعي له.
من الفروع أن ننظر إلى بعض الأمور التي اختلف فيها السلف في مسائل واقعية أو عملية تتفرع عن مسألة الإيمان أو القدر أو الصفات أو ما أشبه ذلك.
فمثلاً: الأصل العام في الصفات أننا نثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه من غير تحريف ولا تكييف ولا تعطيل ولا تمثيل، قد يكون من الفروع لها ما هو صفة من صفات الله عز وجل ورد بها حديث رأى بعض العلماء صحته ورأى بعض العلماء عدم صحته، هذه من الفروع، لكن -مثلاً- من يرى أن الحديث صحيح فيجب عليه ألَّا يؤول هذا الحديث, لأن ذلك يُعتبر نقضاً للأصل، أما الإنسان الذي يقول: "أنا الآن لم يثبت عندي" وهو عالم متبع للحق وللسنة, فهذا من الفروع.
مثلاً: إثبات رؤية الله يوم القيامة للمؤمنين هو أصل من الأصول، والمخالف فيه ضال مبتدع, لكن مسألة هل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه ليلة الإسراء أو لم يره، هذا من الفروع، وهكذا.
الخلاف في مسائل الفروع فيها الراجح والمرجوح، فالأمر فيها دائر بين الخطأ والصواب، أما المخالفة في الأصول فهي دائرة بين السنة والبدعة، بين الهدى والضلال، ولذلك يجب علينا أن نعرف أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يضيع الأصول بحجة أن بعض الفروع فيها خلاف.
مثال: بعض السلف لم يثبت صفة الساق فهل نهدم أصلاً كبيراً وهو توحيد الأسماء والصفات وما يبنى ويترتب عليه لهذا السبب؟! لا.
لو أن الخلاف في الأصل نفسه، لكان المخالف مبتدعاً لا يُعتد بخلافه أصلاً، أما إن كان من الصحابة أو من أهل السنة في مسألة من فروع العقيدة فإنه يحتمل النظر والاجتهاد، فإن هذا يجعل المسألة تدور بين الصحة والخطأ -كما قلنا- ولا يتعدى ذلك إلى إبطال الأصل، في أي حال من الأحوال، ومن فعل ذلك فهو إما جاهل وإما ملبس يريد أن يلبس على المسلمين ويفسد عليهم عقيدتهم متعللاً بما قد يتعلق بهذه الأمور، ويقول : إنها كلها أصول.
إثبات أن الأراضي السبع هي غير السموات السبع
السؤال: هل كل سماء هي أرض بالنسبة لما فوقها؟
الجواب: القول بأن كل سماء هي أرض لما فوقها هو قول خاطئ ليس بصحيح, والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق:12] السماء الدنيا هي سماء من الناحية الاعتبارية المجردة. لكن لا تسمى أرضاً بالنسبة لما فوقها من سماء، فما كان من السماء الدنيا جهة الأرض فهو سماء، وما كان منها جهة السماء لا يُسمى أرضاً.
والأنبياء الذين قابلهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الإسراء والمعراج في السماء الأولى، ثم في الثانية، ثم في الثالثة، وجبريل يستفتح له ويفتح له الباب، ولم يقل أحد: إنه قابلهم في الأرض -أي: في الأرض التي بالنسبة للسماء- فلا يصح هذا, هؤلاء في السماء وهم مرفوعون عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهذا هو الملأ الأعلى.
وإنما قصد بعض الناس التخلص من مسألة كيف نقول: إنها سبع أراض, بينما ليس هناك إلا الأرض هذه وهي واحدة, والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يقل: إن الأرض سبع أراض, وإنما قال: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق:12], هذا شيء.
الشيء الثاني: أن الحديث يدل على ذلك وهو: {من ظلم شبراً من الأرض طوقه من سبع أرضين } لأنها كلها تحت بعضها، حتى استدل بها العلماء -كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح - على أنه من ملك شيئاً فإنه مباشرة ملك باطنه وأرضه، لأنه إذا أنت ملكت قطعة من الأرض، فلك أن تحفر بئراً إلى الأعماق, فأنت تملك ذلك، فالمسألة إذاً هي كونها من السبع الطبقات، هي السبع، التي يقول علماء الجيولوجيا أو سبع أو خمس.. ولا يهمنا هذا وهي قضايا نظرية، لكن يهمنا أن الله جعل من الأرض مثلها -أي: سبعاً- كما ورد في الحديث، وكما دلَّ عليه ظاهر القرآن، ويكفينا أن نقف عند هذا.
العرش وإحاطته بالكون
السؤال: قرأت أن العرش كمثل القبة على السماوات والأرض. فكيف ذلك؟
الجواب: بالنسبة للأرض فهي من جميع الجهات محاطة بالسماء وهذا معروف، لكن لعله حديث: وما نسبة السماوات السبع جميعاً إلى الكرسي، وما نسبة الكرسي إلى العرش، والعرش شكله كالقبة، كما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشبَّك بين يديه هكذا، نحن الآن أصبحنا نتكلم في خيال، فنحن عندما نُفكر في الكيفية نفسها، فإن الكيفية خيال محض، لا نستطيع أن نتصورها على الإطلاق، العقل يتقاصر عن الكيفية, لكن من فضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علينا أن الله أوحى إلينا أننا نعرف ذلك على سبيل التقريب, نعرفه نظرياً، لكن كيفيته؟ لا نستطيع أن نعرف ذلك، والقائل بهذا القول ينبغي أن يُبين له إن شاء الله،ولا يدخل في ضمن الابتداع إن شاء الله.
والسماوات مثل سبعة دراهم ملقاة على ترس بالنسبة إلى الكرسي -أي: أعظم منها وأكبر وسعاً- ولا يشترط أن يكون وسعها بأنه يتضمنها ويحويها، ولكن يكفي أن يعلم أنه أعظم منها، وهذا يكفي، وسعه أعظم منها بكثير، كما تقول العرب: وسع حلم فلان جهله، بمعنى أنه اتسع عنه فاستوعبه، وليس هو شرط الإحاطة الحسية.
وفي الرسالة العرشية لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية المجلد السادس من الفتاوى ، ذكر فيها مسألة العرش والأفلاك وشكل الكون، والله أعلم.
حكم تحديد أسماء الثلاثة والسبعين فرقة
السؤال: هل الثلاثة والسبعين فرقة هي فعلاً ثلاثة وسبعون أم أن الرقم لغرض التكثير فقط؟
الجواب: قد يحتمل التكثير وقد يحتمل العدد نفسه، لكن عندما ننظر في الحديث أن اليهود افترقوا على إحدى وسبعين، والنصارى اثنتين وسبعين، وهذه الأمة على ثلاث وسبعين، فهذا يجعلنا نرجح أن الرقم محدد، لكن أيضاً هذا لا يعني أن نفعل كما فعل بعض المصنفين، يقول: ثلاث وسبعين ويقسم الخوارج ويقسم المعتزلة ويقسم كذا، حتى ينهي ثلاثاً وسبعين، وبعد قرن -مثلاً- تظهر فرقة جديدة.
فلا يقال: إن هذه الفرقة هي كذا وهذه رقمها كذا إلا بدليل، هذا لا يمكن؛ لأن أحداً لا يعلم الغيب، ولا يعلم ما سيكون من الفرق وما يظهر منها، فنفهم من هذا أن الثلاث والسبعين هي عبارة عن ثلاث وسبعين سبيلاً ومنهجاً، وقد يدخل في الفرقة الواحدة عدة فرق، لكن طرقها ومناهجها ومناحيها هي كذلك، وهذا يريحنا من التكلف في أن نعين ونعد ونحدد كل فرقة وكم رقمها.. والله أعلم.
التوحيد وعلم الكلام
السؤال: ما صحة من يقول: إن علم الكلام هو علم أصول الدين وعلم العقيدة؟
الجواب: من يقول: إن علم الكلام هو علم أصول الدين والعقيدة فهو مخطئ، هذا الكلام غير صحيح، ونرد عليه بما رد عليه السلف الصالح ، الذين أنكروا علم الكلام، فمثلاً في أول شرح العقيدة الطحاوية ذكر الإمام ابن أبي العز رحمه الله كلام الإمام أبي حنيفة وكلام الإمام الشافعي وكلام القاضي أبي يوسف رحمه الله وغيرهم من الأئمة.
يقول الشافعي : 'حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في الأسواق، ويقال: هذا جزاء من خالف الكتاب والسنة' .
وكيف يكون علم الكلام هو علم التوحيد، وكلامه هذا غير توحيد، ولو رجعنا إلى كتب وشروح أصول أهل السنة والجماعة ككتاب اللالكائي وغيره من الكتب، نجد الذم والنقد لمن تعلم علم الكلام.
وكل الكتب التي كتبت في بيان العلم: ما هو العلم الصحيح الشرعي، ككتاب فضل علم السلف على علم الخلف , وهي كتب كثيرة من كتب الأئمة الذين يُقتدى بهم، والذين عاصروا علم الكلام يعتبرون الكلام ليس من الدين.
وتجدون -أيضاً- المتكلمين ليسوا من العلماء، بل في فتاوى الحنفية وغيرها يقولون: لو أن رجلاً أوقف مالاً أو أوقف وقفاً وقال: هذا الوقف للعلماء لم يدخل فيه أهل الكلام، هذه عقوبة لأنهم ليسوا من العلماء، فكيف نقول: علم الكلام هو علم التوحيد؟! هذا إن كان القائل بهذا لمجرد أنه أخطأ أو أنه تربى أو تعلم في مكان ليست السنة منتشرة فقد يُعذر، لكن أن يقول: إن علم التوحيد هو علم الكلام!! هذا لا يجوز.
فرقة الإباضية
السؤال: فرقة الإباضية ما هي علاقتها بـالخوارج ؟
الجواب: الإباضية في هذا العصر هي الإباضية التي في كل العصور، فليس هناك أي تناقض، وهم فرقة من الخوارج .
وبالنسبة لتصنيف الخوارج نجد أن الإباضية هي أخف الخوارج غموضاً، فأكثر الخوارج غموضاً هم الأزارقة يرون من عداهم من الأمة أنهم كفرة حتى من كان من الخوارج وهو مقيم في دار المسلمين يعتبرونه كافراً، بل أشد كفراً من اليهود.
وأخف منهم بقليل النجدات أتباع نجدة بن عامر قال: هؤلاء المسلمين كفار لكن من كان على منهجنا وأقام عندنا لا نكفره، أي أنهم أخف لكنهم على نفس الغموض.
أما الإباضية فإنهم قالوا: من كان مخالفاً لمنهجنا فإنه كافر، ولكنه كافر كفراً لا يخرجه من الملة هذا في الأصل، فهؤلاء أخف بقليل من الفرقتين السابقتين.
ثم بعد ذلك دخل في عقيدة الإباضية في باب الأسماء والصفات مذهب المعتزلة ، فأصبحت الإباضية تعتقد -وإلى يومنا هذا- أن من يؤمن بأن الله عز وجل يرى في الآخرة فإنه كافر، ولازم ذلك أن أهل السنة والجماعة كلهم كفار، ونحن نؤمن بذلك، بل والله نسعى إليه ونشتاق إليه، بأن نرى ربنا وأي فوز أعظم من هذا كما قال الزمخشري أي: من دخول الجنة, مع أن أعظم فوزاً من ذلك أن يرى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الجنة.
ويقولون -أيضاً-: إن القرآن مخلوق, فما كان غير الله فهو مخلوق، ففرقة الإباضية التي أسسها عبد الله بن إباض التميمي أضافت إلى مذهب الخوارج بدعة الاعتزال وإنكار الصفات وإنكار الرؤية, وصاحب الكبيرة عندهم كافر، لكن الكفر عندهم لا يخرج من الملة.
والذين يقولون: إن القرآن مخلوق هم قوم ابتدعوا هذه البدعة، وتأثروا باليهود والنصارى، حيث فلاسفة اليهود ومتكلميهم، قالوا: إن القرآن مخلوق، أي: مثل سائر المخلوقات كما أن الله خلق الناقة وخلق الإنسان، فكذلك خلق القرآن.
وهذا تكذيب لكلام الله عز وجل ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن الله أخبر أن القرآن كلامه: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6] وهذا كلام الله، وكلامه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صفته، فهل يكون شيء من صفات الله مخلوقة؟! لا يمكن ذلك أبداً!
ولهذا لو قال واحد: أقسم بالقرآن، أو بالذكر الحكيم، أو بآيات الله المحكمة؛ لكان هذا القسم صحيحاً، لأنه لا يجوز أن يُقسم إنسان بالمخلوق، وهذا أقسم بغير المخلوق، أقسم بكلام الله، بصفة الله، والقسم لا يكون إلا بصفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولم يعهد عن أحد من السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أنه قال : إن القرآن مخلوق.
ولهذا فإن بعض السلف من باب الإلزام بذلك، جعلهم بين أمرين: إما أن يكون السلف علموا أن القرآن مخلوق كما قال هؤلاء أو لم يعلموا، فإن قال: ما علموه, فهم يرون بذلك أنهم جهال، وإن قال علموه، قيل: إما أن يكونوا بلغوه أو كتموه، فاحتار وبهت الذي كفر، لأنهم لو بلغوه لنقل إلينا ذلك, ولو قال: إنهم كتموه لكان هذا قدحاً فيهم أو أننا أعلم منهم, وهذا لا يمكن!
فعلى أي حال يكون هذا بدعاً من القول.
1 - نصائح في طلب العلم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ونسأل الله تبارك وتعالى بفضله وكرمه أن يكتب لنا جميعاً أجر هذا الدرس، وأن يجعلنا من المقبولين، وأن يثيبنا، وأن يرزقنا حسن الاستماع والقول، وأن ينفعنا بما نقول ونسمع؛ إنه سميع مجيب.
أحب بين يدي هذا اللقاء بكم والسماع إلى بعض استفساراتكم أن أتقدم أولاًَ بكلمة أرجو الله أن ينفعنا جميعاً بها.
نحن ننتمي -ولله الحمد والشكر- إلى طلب العلم، ولم يجمعنا إلا رباط العلم، وهو علم قائم على كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه نعمة عظيمة أن يُهيئ الله تبارك وتعالى لنا أن نطلب العلم في البلد الأمين، وأن يُكثر لنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما ترون من الوسائل والتسهيلات التي تمت بفضل منه عز وجل، ثم بجهود الإخوة القائمين على هذه الأنشطة والوسائل، وهذا يستوجب منا شكر الله تبارك وتعالى، ويستتبع واجبات يجب أن نعلم أنها مُلقاة على أعناقنا.
الأمانة الملقاة على طالب العلم
إن كثيراً من الناس يريد أن يطلب العلم في هذه البلاد وفي بلاد أخرى، ويتمنى ويحرص على أن يأتي إلى هذا البلد الأمين, ويطلب العلم ويتلقاه من هذه المنابع النقية الصافية، ولكن لا يتاح له ذلك، وهذا يوجب على من أنعم الله عليه بهذه النعمة أن يُعطيها حقها من الشكر، والإخلاص لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في طلب العلم, ومن الدعوة إلى الله عز وجل ونشر هذا العلم، وتحقيق ثمرته، ومن التعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر، في سبيل نشر هذا الدين؛ الصبر على طلب العلم، والصبر في سبيل الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وإن مما ينبغي لطالب العلم أن يعلمه: أمر الأمة الإسلامية وحالها لا يخفى على أحد منكم، وأنتم خلاصة مختارة، وصفوة منتقاة من هذه الأمة، والآمال بعد الله تبارك وتعالى معلقة عليكم, سواءٌ كان الواحد منكم من المملكة أومن خارجها، فلا بد أن وراءه من ينتظره؛ المدرس تنتظره مدرسته، وتنتظره مدينته، أو بلدته، أو قبيلته، وأي عمل من الأعمال فالآمال تعلق على شباب جاءوا لطلب العلم, ويريدون وجه الله تبارك وتعالى, ويراد منهم أن ينفعوا هذه الأمة التي تعاني -كما ترون جميعاً- من نقصٍ في المتخصصين في العلم الشرعي الداعين إلى الله تبارك وتعالى على بصيرة وبينة.
إنّ أمتكم -ولله الحمد- في إقبال وهذه بشرى، ونحمد الله الذي منَّ بهذه الرجعة والأوبة والتوبة إلى الله، فالأمة الإسلامية في حالة غليان، وفي حالة توبة وأوبة وعودة إلى الله عز وجل، ولكن من الذي يرسم لها معالم الطريق؟!
ومن الذي يأخذ بيدها إلى النهج القويم؟! ومن الذي يرشد هذه المسيرة والأوبة والتوبة؟!
إن الأمانة -بلا شك- مُلقاة على طلبة العلم من أمثالكم، وهذه الأمانة لا يقوم بها إلا من بدأ يعد العدة للقيام بها، ويجب أن نعلم أن هذا الإعداد مُتنوِّع وثقيل, ولكن لا بد منه, وإلا فليتهم الإنسان نفسه.
الإخلاص في طلب العلم
نحن نخشى على أنفسنا -جميعاً- من النفاق, ولا نستنكف ذلك؛ فإن أحد التابعين وهو ابن أبي مليكة رضي الله عنه يقول: [[أدركت ثلاثين -وفي رواية ثمانين- من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلهم كان يخشى على نفسه النفاق ]].. عافنا الله وإياكم من النفاق!
فطلب العلم إذا كان خالصاً لوجه الله تبارك وتعالى, وصاحبه يريد أن يدعو إلى الله، وأن يحقق ثمرة هذا العلم؛ فإن علامة ذلك وآيته: أنه يعد العدة من الآن لهذا العمل الجليل، والله تبارك وتعالى قد أخبرنا بحال المنافقين حينما أخذوا يعتذرون إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويحلفون في غزوة تبوك، فقال: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً [التوبة:46].
فبيَّن الله تعالى كذب المعتذرين الذين تخلفوا وخُذلوا عن القيام بأمر الله -عز وجل- مهما حلفوا من الأيمان، ومهما ظهر عليهم أو أظهروا من علامات البراءة والصدق, فأبطل الله -تبارك وتعالى- دعواهم هذه بحقيقة مهمة جلية، وهي: أن الذي يريد الحق وسعى إليه ثم حال دونه عذر، فإنه يعد العدة، ولكن يمنعه العذر.
أما هؤلاء فإنهم لم يعدوا العدة لذلك وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ [التوبة:46]، أي: لو كانوا حقاً يريدون الخروج لأعدوا له العدة، ولكنهم كانوا متخاذلين متكاسلين إلى أن انتهت الغزوة وعاد الجيش, فأخذوا يقسمون الأيمان ويحلفون أنهم صادقون، وأنهم يريدون الخروج.
فالإخلاص في طلب العلم لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو أول ما يجب على طالب العلم؛ وكما تعملون أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة -كما ثبت ذلك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومنهم: العالم المرائي أو القارئ المرائي طالب العلم الذي تعلم رياءً أو طلب العلم من أجل الدنيا.
وقد عقد الشيخ الداعية المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه في "كتاب التوحيد " باباً بعنوان (باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا)، وذكر فيه قول الله تبارك وتعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ [هود:15-16] أي: ليسوا من أهل التوحيد أهل المعاصي, لأن المؤمنين الموحدين من أهل المعاصي ما داموا على التوحيد والإيمان، فإن لهم في الآخرة الجنة وإن دخلوا النار، لكن الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار هم الذين تمحَّضت قلوبهم ونياتهم وتجردت عن الإخلاص، وتمحَّضت لغير الله تبارك وتعالى, وذكر بعد ذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {تعس عبد الدرهم! تعس عبد الدينار! تعس عبد القطيفة } إلى آخر الحديث، وفيه الزجر والوعيد لمن يسعى ويعمل ويكدح من أجل الدنيا ومن أجل طلب هذا المتاع الفاني.
فأوصي نفسي وإخواني بالإخلاص في طلب العلم لوجه الله تبارك وتعالى، وبتقوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التي هي وصية الله للأولين والآخرين.
الحرص على الوقت أثناء طلب العلم
وإن مما يجب أن أوصي نفسي وإخواني به: أن نَجِدَّ في طلب العلم، وأن نحفظ أوقاتنا, فما أكثر ما تضيع الأوقات للأسف الشديد!!
يجب علينا أن نضيِّق الأسباب المضيعة لأوقاتنا، سواءٌ منها ما كان متعلقاً بالنظام، أو ما كان منها متعلقاً بالسكن وبظروف الحياة؛ فإن هذه ولا شك تقتطع من وقت الإنسان جزءاً غير هين.
لكن يجب أن نغالب هذه الأسباب, ونبذل جهدنا لكي تكون أوقاتنا معمورة دائماً بالخير والنفع، وبما يقربنا من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن تكون مجالسنا في السكن وفي الجامعة مجالس خير وذكر ومساءلة وطلب علم وحرص ومحبة لبعضنا بعضاً، وأن نستفيد من هذه الفرصة المتاحة لنا، وهو أننا طُلاَّب وما نزال في مرحلة الطلب, وكلنا إخوة ولا يعاب على أحدٍ أن يسأل مهما بلغت منزلته من العلم، أو أن يقول: الله أعلم؛ فهذا من أصول السلف الصالح ومن آدابهم، لكن مع ذلك طالب العلم وهو ما يزال في مرحلة الطلب هو الذي لا يجد غضاضة في أن يسأل وأن يناقش وأن يبحث، فهذه فرصة مهيأة.
والإنسان إذا تصدَّر للحياة فيما بعد التخرج سيجد نفسه تجد أن السؤال ثقيل، وقول: الله أعلم تجده ثقيلاً، وهذا من أمراض النفوس التي يجب أن تُحارب، لكن ينبغي لنا ألا نتيح الفرصة لهذه النفس ولهذا الشيطان الماكر؛ فالشيطان يمتلك الكثير من الوسائل لأن يوسوس وأن يخدع ويغرر بهذه النفس، فينبغي أن تكون أوقاتنا دائماً كذلك، وأن يسأل بعضنا بعضاً، وأن نسأل أساتذتنا الكرام ومن نثق بعلمه لنستفيد جميعاً.
المحبة والأخوة أثناء الطلب
وهناك أمر أرى أنه لا بد أن أنبه إليه, وهو: أن تكون علاقة بعضنا ببعض علاقة الأخوة والمحبة والنصيحة, فالأمر المؤلم والمؤسف أن يوجد -أحياناً- إخوة في كلية واحدة، وفي سكن واحد ولا يتعارفون, وأشد ألماً أن يكونوا غير متحابين وغير متوادين, فهذا أمر لا ينبغي، فنحن يجب أن نكون إخوة في الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن يحب بعضنا بعضاً، وأن نتناصح، فالأخ المقصر نعامله بالرحمة والشفقة، وكل منا يتودد إليه وينصحه ويتحبب إليه، وكُلٌّ بأسلوبه الخاص، ولعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينقذه مما هو فيه.
ولنعلم -جميعاً- أن الأمر هو كما قال الله تعالى: كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [النساء:94]، فنشفق ونرفق بالأخ الذي فيه تقصير دون أن نجامله ونداهنه ونقره ونرضاه على معصيته, لا!
أخ يتخلف -مثلاً- عن صلاة الفجر، أو عن بعض الصلوات!! لا نقره على ذلك, ولكن نخاطبه بالمحبة وبالمودة، وكذلك أخ فيه معصية أو منكر يجب علينا أن نتعاون -جميعاً- قبل أن يصل الأمر إلى الجهات المسئولة في الجامعة أو في غيرها... نحاول أن نتدارك هذا الأخ، ولا نعين الشيطان على أخينا، وإذا نصحناه وبذلنا الجهد، ثم بعد ذلك حصل له ما حصل، فإننا لا نلوم أنفسنا, ولكن أرأيتم إذا وقع إنسان في أوحال المعاصي, أو قبض عليه, ونحن لم نعذر إلى الله بالنصيحة, كيف يكون شعورنا بالألم؟!
لا شك أن كلاً منا يقول: يا ليتني نصحته! وربما لو نصحته لانتصح!
وكذلك ما قد يوجد من بعض الأفكار أو الآراء أو بعض البدع التي قد توجد سواء بيننا أو خارجنا, فنحن لا نستغرب أن يوجد أمثال هذه لأننا أمة أصيبت بعلل وبأمراض, ولكن نحن الأساتذة والأطباء الذين نعامل الناس بالرفق، ونحن أحرص ما نكون أن نستأصل هذه الأمراض بالأسلوب الطيب، وهذا واجبنا جميعاً.
فيرفق بعضنا ببعض, وينصح بعضنا بعضاً، ويُحب بعضنا بعضاً، وأرجو ألَّا يكون للشيطان بيننا مجال بتشهير أو ببغضاء أو شحناء، فإن هذا أفضل ما يتمناه عدو الله. ولا ينبغي أن نعطي له الفرصة لينزغ فيما بيننا.
وتأكدوا وثقوا أن كل عملٍ خالصٍ لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فإنه لن يجد الإنسان نفسه به إلا في محبة لإخوانه, ولن يجدها على أهل الشر والبدع والفسق إلا مشفقةً عليهم راحمةً لهم حريصةً على هدايتهم.
وفي رسول الله صلى الله عليه سلم أسوة حسنة.. كيف كان صلى الله عليه سلم؟ كيف قابله المشركون بصنوف الأذى والتهم؟ ولكن رسول الله صلى الله عليه سلم كان يقابلهم بالصبر الجميل, بالهجر الجميل, ويقابلهم بالإعراض، وإن أعرض كان إعراضاً لا قطيعة معه، ولكنه ترفع عن سفاهتهم وعن إيذائهم.
فهذا ما أحببت أن أنصح به نفسي وإخواني، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينفعنا جميعاً بما نسمع وبما نقول, وأن نكون طلبة علم مخلصين لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, داعين إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة, والحمد لله رب العالمين.
2 - الأسئلة
الحكمة من اقتران الإيمان باليوم الآخر مع الإيمان بالله
السؤال: أغلب النصوص القرآنية التي تتحدث عن الإيمان باليوم الآخر، تربطه بالإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فما الحكمة من اقتران الإيمان باليوم الآخر بالإيمان بالله؟ ولماذا لم يذكر أي ركن آخر من أركان الإيمان مع الإيمان باليوم الآخر؟
الجواب: قد ورد في غيرما آية من الكتاب ذِكَر الإيمان باليوم الآخر مع الإيمان بالله عز وجل، ولكن أيضاً قد وردت أركان الإيمان الأخرى مع الإيمان بالله كالإيمان بالملائكة والكتب والرسل.
فليس الأمر على إطلاقه، وأما الحكمة فنحن نتلمس ونحاول, ولكن قد لا يكون ما نقول هو عين الحكمة؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنزل القرآن، وفيه من الحكم والعبر والعظات ما لا يطيقه كل أحد وما لا يستطيع أن يستوعبه أو يفهمه كل أحد، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي منَّ علينا بهذا القرآن، وأنزله شفاء ورحمة وهدى، وأمرنا أن نتدبره ونتفكر في آياته الكونية والمحسوسة، وأيضاً آياته المنزلة وهو كلامه الحكيم.
ذكر الإيمان باليوم الآخر مقروناً بالإيمان بالله, لأن الإنسان الذي لا يؤمن باليوم الآخر لا يكون مؤمناً بالله -تبارك وتعالى, والإنسان إذا لم يؤمن باليوم الآخر, فلا معنى لكونه يكون مؤمناً بالله في هذه الحياة الدنيا؛ لأن العمل في الحياة الدنيا يرتبط أساساً بالإيمان بالآخرة.
وأيضاً لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غيب، وكذلك اليوم الآخر من أمور الغيب؛ فذات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الغيب, وإنما أخبرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بصفاته، وعرَّفنا بنفسه عز وجل، وكذلك عرَّفنا باليوم الآخر وبأحواله.
وأيضاً لأن أول علامة للمؤمنين أنهم يؤمنون بالغيب، وهذه أول ميزة وعلامة, ثم تتفرع عنها بعد ذلك كل أمور وشعب الإيمان؛ والذي لا يؤمن بالآخرة لا يمكن أن يعيش الحياة الإيمانية، وإن قال: أنا أومن بالله؛ فإن ذلك لن يكون إلا فكرة في عقله أو خاطرة في فؤاده، ولا يكون حقيقة واقعة في حياته.
ومن هنا نعلم أهمية الإيمان بذلك اليوم, والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُذكِّرنا بذلك -أيضاً- في هذه السورة العظيمة في السبع المثاني، والتي أنزلها الله تبارك وتعالى على نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي أعظم ما أنزله الله تبارك وتعالى في الكتب جميعها, وهي سورة الفاتحة, وفيها عرفنا الله تبارك وتعالى بنفسه، وبأنواع التوحيد الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] توحيد الربوبية.
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] توحيد الأسماء والصفات.
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] فيها الإيمان باليوم الآخر.
ثم بعد ذلك إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] توحيد الألوهية، الذي هو أول واجب على العباد، والذي بعث الله تبارك وتعالى به الرسل، وأنزل به الكتب.
فيأتي الإيمان باليوم الآخر بين ثنايا أنواع التوحيد، وبأنه تعالى مالك يوم الدين، لأن من لم يؤمن باليوم الآخر وبأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو مالك ذلك اليوم العظيم، فإنه لا ينفعه إقراره بربوبية الله أو بأسمائه، أو بأن الله وحده هو المعبود، وبالتالي فلا يرجو ثواب الله وما عند الله في اليوم الآخر.
ولهذا قال السلف الصالح رحمهم الله تعالى تلك العبارات العظيمة: [[من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق -الذين يقولون: إننا نعبده لذاته ولا نرجو الآخرة، ولا نطمع في الجنة، ولا نخاف من النار فهؤلاء زنادقة- ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري -أي: خارجي- ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو المؤمن ]] نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المؤمنين!
الإمامة في الدين
السؤال: كيف تنال الإمامة في الدين؟
الجواب: قد ذكر الله تبارك وتعالى في كتابه الحكيم بما تنال الإمامة فيما أخبرنا به عن بني إسرائيل، حين قال: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]، فهذان شرطان أو ركنان عظيمان لتحقيق الإمامة في الدين.
والإمامة في الدين لا تكون إلا بهما: الصبر واليقين، فالصبر يشمل الأنواع التالية:
الأول: الصبر على طاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ الصبر في طلب العلم، الصبر على أداء ما افترضه الله وما أوجبه.
والثاني: الصبر عما حرم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كالصبر على غض البصر عن غير المحارم، الصبر على كف اللسان عن الغيبة والنميمة، الصبر على كف القلب عن الغل للمؤمنين وعن الحسد وما أشبه ذلك.
والثالث: الصبر على أقدار الله الكونية؛ فإن هذه الدنيا مليئة بالمصائب والمتاعب، فلا بد من الصبر عليها.
أما اليقين، فإنه يشمل العلم، إذ لا يقين لمن لا علم لديه، فهو يشمل العلم ويشمل حسن الظن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا يقين لمن ليس له ظَنٌ حسنٌ برب العالمين سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وصدقٌ ويقين بوعد الله الصادق له, واليقين هو عمل قلبي يكون تحقيقاً للدرجة أو للمرتبة العليا من مراتب الدين، وهي مرتبة الإحسان؛ أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
فهذه عبادة الموقنين جعلنا الله وإياكم من الصابرين والموقنين، ورزقنا الإمامة في الدين! فعندما نعرف أن هذه الدعوة لا تكون إلا لمن حقق هذه الشروط العظيمة، وما يتبع ويدخل ضمن كل شرط منها من فروع بالغة الأهمية؛ فإن ذلك يوجب علينا أن نجتهد وأن نكدح وأن نسعى، وندعو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يحقق لنا ذلك، وما ذلك عليه بعزيز.
ترك الطاعات خوفاً من الرياء والعجب
السؤال: أحد الإخوة يقول: عندما آتي لأنصح أحد الإخوة يأتي الشيطان ليلقي في نفسي العُجب؛ فعند ذلك أترك النصيحة؟
الجواب: العُجب داءٌُ خبيث، والشيطان لا يبالي بأي وادٍ هلك الإنسان؛ فإن أهلكه بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فحسن, وهذا ما يريد, وإن غلبه الشاب التقي، وقال : لا يمكن أن يخدعني الشيطان، لابد أن أدعو إلى الله وأن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، كيف والدين النصيحة؟! كيف والله تعالى أمرنا وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104]؟!
إذًا أنا لا أطيع الشيطان في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله.
ولكن إذا أخذ يدعو إلى الله أتاه الشيطان بأمراض القلب؛ أتاه بالعجب والغرور والرياء, وليس ذلك حرصاً منه على علاج قلبك من هذه الأمراض, ولكن ليقول لك: إن دعوت إلى الله فإنك ستعجب بهذا العمل، ويدفعك ذلك إلى الرياء، فخير لك أن تسكت وألاَّ تدعو, فهو يأتي من باب الناصح المشفق المحب، ومتى كان عدو الله ناصحاً مشفقاً؟!
ألم يقاسم أبوينا في الجنة إنه لهما لمن الناصحين، وإنه مشفق، وإنه يريد لهما النعيم والملك الذي لا يبلى، وأن يكونا ملكين وغيرها من الوعود والغرور الكاذب؟!
ولهذا نقاومه من الجهتين :-
- من جهة أننا لا نترك الدعوة إلى الله، ولا طلب العلم، ولا عبادة ربنا عز وجل من أجله.
- ومن جهة أننا إن جاءنا فقال: اتركوا هذه الطاعات خشية الرياء, فإننا لا نطيعه.
لكن مع ذلك لابد أن نحذر من العجب والرياء, ونحذر من كل ما يحبط أعمالنا، لأن هذه المحبطات تجعل أعمالنا هباءً منثوراً, وما قيمة العمل والجهد إذا كان هباءً منثوراً؟! وما قيمته إذا كان لغير لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! فنحن نقاوم ونحارب العجب والغرور والرياء، ونعمل, ولكن لا نثق في أن هذا العدو ينصحنا ويحذرنا من العجب, فتكون نتيجة ذلك أننا لا ندعو إلى الله ولا نأمر بالمعروف ولا ننهى عن المنكر.
كيفية تصحيح النية في طلب العلم
السؤال: إن الإنسان عندما يبدأ بطلب العلم لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خالصاً يلاحظ دخول الرياء بين فترة وأخرى على نفسه، وأيضاً يجد أنه يريد شيئاً غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من طلب الشهادة والوظيفة والمكانة؛ فكيف يصل إلى تصحيح النية في طلب العلم الشرعي؟
الجواب: الذي جاء وبدأ في طلب العلم أو في أي عملٍ من أعمال الطاعة، وهو لا ينوي بذلك وجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن عليه أن يتوب وأن يستغفر الله وأن يصحح نيته ويحولها لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وأما الذي وُفِّق من أول الأمر لأن تكون نيته لله, ولكن يسأل: كيف يثبت تلك النية ويجردها لله؟
فليعلم أن حالنا مع أنفسنا كحالة جهاد عدو لا يفتر؛ عدوٌ أعطاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومكَّنه من قلوبنا يجري منا مجرى الدم, ونفسٌ أمارة بالسوء تحب أن تخلد إلى الأرض, وشهوات ومغريات من كل جانب, ودعاة على أبواب جهنم يريدون إلقاء الناس فيها.
فلا يكفي أنني أبتدئ بالعمل وأنا مجرد للنية خالصة لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأن هؤلاء الأعداء لا يتركونني أبداً، أنا في طريق قُطّاعه كثير، وعقباته كثيرة, ومفاوزه مهلكة موحشة، ولا سبيل إلى الاهتداء إلى هذا الطريق إلا بالحذر واليقظة؛ بأن يكون القلب يقظاً في كل حين ألَّا يخرج ولا يحيد عن الإخلاص, وعن طلب العلم لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وعن طلب الحق والدعوة إليه كما أمر الله وكما شرع؛ فلا بد من الجهاد.
والنفس قد تغلب تارة, والشيطان قد يغلب تارةً أخرى, ولكن نحن نغلبه -بإذن الله- بالاستغفار وبالتوبة وبتصحيح النية وبتجديدها، وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب }.
فلا بد من تجديد الإيمان, ونعلم أنه إذا كان يبلى ويضمحل إلى أن يتلاشى، فلا بد أن نجدده في كل وقت، ولهذا من نظر إلى عبادتنا, وجد أن الله تبارك وتعالى شرع هذه الصلوات الخمس، لنجدد إيماننا في كل يوم وفي كل حين؛ كل يوم خمس صلوات، وشرع الله لنا حلقات الذكر, ومجالس العلم وقراءة القرآن, والتفكر في الآخرة, وما أشبه ذلك؛ كل ذلك ليتجدد الإيمان في قلوبنا.
وإلا فقد كان يكفي أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقولوا: "لا إله إلا الله" وقد قالوها بصدق وحق وإخلاص ثم ينطلقوا، ولا شيء عليهم بعد ذلك!! لكن كم عانوا! وكم عانى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعب في تربيتهم حتى استكملوا الإيمان، ووصلوا إلى الدرجة العليا التي أثنى الله تبارك وتعالى عليهم بها! ونسأله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يلحقنا بهم, إنه سميع مجيب.
الرد على من نسب التأويل والتعطيل للسلف
السؤال: أحد الإخوة يسأل عن تفسير قول الله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42]، وذكر بأن ابن كثير قال: 'عن ابن مسعود وابن عباس والشك من ابن جرير يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42] قال: عن أمر عظيم، كقول الشاعر:
أصبر عناق إنه شر باق قد سن قومك ضرب الأعناق
وقامت الحرب بنا على ساق
وقال صاحب التفسير: قال العوفي عن ابن عباس في قوله: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42] يقول: حين يكشف الأمر وتبدو الأعمال، وكشفه دخول الآخرة، وكشف الأمر عنه' فما رأيكم في هذا التأويل؟ وكيف نوفق بين ذلك وبين من ينفي وجود التأويل بالنسبة لآيات وأحاديث الأسماء والصفات عند السلف رضوان الله عليهم؟
الجواب: الحمد لله! هذا ليس بتأويل، ويجب أن نعلم جميعاً أن السلف الصالح رضوان الله عليهم ولا سيما أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يمكن أبداً أن يكون فيهم مبتدع، ولم يوجد في أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبتدع ولا مؤول، ولا معطل، ولا خارجي، ولا مرجيء، ولا جهمي، ولا شيء من هذه البدع، والحمد لله رب العالمين، فهو جيل مطهر نقي من هذه البدع والضلالات، بل هم الذين حاربوها وأنكروها.
ولكن هل كل واحد من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معصوم عن الخطأ؟ لا.
وهل كل واحد من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حوى العلم كله؟ طبعاً لا. فقد يخفى على أحدهم شيء من العلم, وأيضاً قد يقع آحاد منهم في الخطأ.
فهذه الآية صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن معناها (يكشف الرحمن عن ساقه عز وجل) فهل هذا الحديث بلغ كل صحابي؟ لم يقل أحد من العلماء أنه لا بد لأي حديث أن يبلغ جميع الصحابة أبداً، فعندما قال هؤلاء الصحابة عن الكشف عن الساق: أنه الهول والكرب والشدة هل قالوا ذلك تأويلاً؟ الصحيح لا, وإنما قالوا ذلك استناداً إلى لغة العرب، فلغة العرب هي أحد المصادر التي نعرف بها التفسير، ولكن نستعمله إذا لم نجد من كتاب الله ما يفسره، ثم من سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعد ذلك أقوال الصحابة، ثم اللغة, وهم يجتهدون حسب اللغة؛ لأنهم أهل اللغة المتمكنون فيها، وفي لغة العرب لا يُسمى هذا تأويلاً, لأن الكناية يعلم من درس منكم ذلك في لغة العرب لا تقتضي نفي الحقيقة, وهم يمثلون في البلاغة بقول الخنساء في أخيها :
رفيع العماد طويل النجاد ساد عشيرته أمردا
وإذا قلنا: إن فلاناً كثير الرماد, فهذه كناية عن الكرم, فبدلاً من أن أقول: فلان كريم، أقول: فلان كثير الرماد، فالعرب تمدح بعض الناس أنَّ كلبه لا يهر, أي من كثرة ضيوفه, وهذه كناية عن الكرم، لكن الكناية لا تقتضي نفي الحقيقة، فإن وصفي إياه بأنه كثير الرماد لا يقتضي ذلك أنه لا رماد عند بيته أو أنه ليس عنده كلب، أو أن كلبه لا يهر، فقد يكون فعلاً كثير الرماد -حقيقة- بأن يكون هذا الرماد موجوداً عند البيت، وأيضاً قد يكون كلبه لا ينبح لأنه كريم, لكن أنا لم أقصد هذا المعنى الذي يتبادر من ظاهر اللفظ، وإنما قصدت لازمه الذي كنيته عنه أنه كريم، وكذلك لا يلزم من أن يكون الكشف عن الساق كناية عن الشدة وعما في ذلك اليوم من مواقف رهيبة، لا يلزم من ذلك نفي الصفة وأن نقول: ليس لله تعالى ساق.
نلخص ونقرب ذلك ونقول: هل قال ابن مسعود أو ابن عباس : (إنه ليس لله تعالى ساق أو ليس لله يد)؟ لم يقولوا ذلك كمثل المعطلة والمؤولة الذين قالوا: 'ليس له ساق' فهذا فرق عظيم بين القولين، بين من نظر أن الأمر كناية أو لم يبلغه الحديث، وبين من نفى نفياًَ مطلقاًَ هذه الصفة التي صح بها الحديث.
وليس في الصحابة ولا في السلف مؤول؛ ولهذا نقول: ليس من مذهب السلف التأويل, وكل ما يقال: إن فيه تأويلاً، فإن هذا إنما أتي القائل به من سوء فهمه للغة العرب ومن سوء فهمه لعقيدة السلف ، ومن بدعته إن كان من أهل البدع، أو بالخطأ في ذلك إن كان من أهل السنة , ونعيد هذه القاعدة ونقررها لا نقول: إن كل واحد من أهل السنة معصوم، ولا أن كل أحد من الصحابة معصوم عن الخطأ حتى في العقيدة, لكن العبرة بأنهم إذا أجمعوا فإنهم لا يجمعون على ضلالة ولله الحمد, وكل من أخطأ فإنه يرد إلى الأصل وإلى المنهج القويم، وهو كتاب الله، وسنة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أجمع عليه السلف الصالح .
كيفية قراءة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وفهمها
السؤال: كثير من الإخوة يسألون عن كيفية الوصول إلى فهم كتب شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وما هي الكتب التي تعين على ذلك؟ وكيف يمكن التعرف على عقيدة أهل السنة والجماعة ...؟
الجواب: بالنسبة لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية (ولا نقول ذلك تعصباً، ولا نقوله مجرد عاطفة، ولكن نقول ذلك حقاً وصدقاً) نقول:
إن هذا الرجل نابغ وفذ, ولو أن شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية كان لدى أية أمة من الأمم, بل أنا أحدد وأقول: لو أن شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية ظهر في أوروبا , وظهر منه فقط ما يتعلق بالفلسفة والمنطق، لألَّهه الغربيون ولعبدوه؛ لأنهم أمة جاهلية، ألهت "نيوتن ".
يسمون "نيوتن " إله العلم.
ويسمون "دارون " إله العلم.
ويسمون "هيجل " إله العلم.
هكذا يطلقون عليه عياذاً بالله! ولا إله إلا الله! ونحن أمة لا تؤله إلا الله، عندنا لا إله إلا الله حتى رسول الله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو عبد ولا نؤله أحداً غير الله.
لكن نقول: هذه الأمة التي تعبد عظماءها ومفكريها، لو أن هذا الرجل كان منها لعاملته أشد من أولئك، لأنه سبق هؤلاء جميعاً في مسألة نقد الفلسفة والمنطق اليونانيين اللذين لم تقفز أوروبا وتنهض من كبوتها وتدخل في عصر النهضة إلا عندما تخلصت من الفكر اليوناني، ومن المنطق الصوري الذي فرضه أرسطو ومنهجه، ومن الفكر الفلسفي الذي فرض على أوروبا تقليدها وتبعيتها للفكر الإغريقي ولليونان وللجاهلية القديمة.
فيجب على كل طالب علم أن يحرص على اقتناء الكتب، ويبذل جهده لفهمها، ومع أن العصر، والأسلوب، والموضوعات كلها تختلف، ولكن كل شيء يستعان عليه بالمران وبالمراس؛ فمن قرأ له مرة ثم مرة، فإنه سيجد أسلوبه سهلاً شيقاً.
بل من يقرأ لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله, ثم يجد من ينقل عنه ولم يشر إلى هذا النقل، فتقرأ في ثنايا الكلام سطرين أو ثلاثة أسطر، فيقول لك قلبك: هذا من كلام شَيْخ الإِسْلامِ , وإن كان الرجل لم يذكر ذلك؛ لأن له أسلوباً متميزاً جداً في غاية القوة من الناحية اللغوية وبالمعاني العظيمة التي يتضمنها أسلوبه, ولا غرابة في ذلك؛ لأن الغذاء الذي تغذَّى به قلبه وفكره وعقله هو كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكلام السلف الصالح .
فالفضل إذاً لذلك المنهج الذي أخرج ذلك الرجل وأمثاله، وسيخرج أمثاله بفضل الله تعالى الذي منَّ علينا بهذا المنهج الذي هو كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكلام الصحابة والتابعين والسلف الصالح رضوان الله عليهم.
وبهذه المناسبة أكرر وأقول: إن بعضاًَ من كتب شَيْخ الإِسْلامِ ومن آرائه العظيمة التي ألفها تكاد تكون شروحاً لعبارات الإمام أحمد رحمه الله، وتعلمون ما أعطاه الله من الفضل، المنزلة، الكرامة، الإمامة في الدين.
فمن أراد الخير والحق والهدى، فليتعلق بهذا المنهج الكريم وبهؤلاء الرجال الأفاضل، وليأخذ من حيث أخذوا، وليتبع آثارهم وليقتد بهم، وسيكون -بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فاهماً لكلامهم، وداعية إلى ما دعوا إليه، وعاملاً كما عملوا وكما جاهدوا.
وأما الكتب التي تطلبون فهي معروفة لديكم, وأول كتاب أوصي به إخواني في الله هو كتاب الله عز وجل، كتاب الله: العقيدة، الأحكام, الإيمان، اليقين، الإخلاص، الإخبات الذي تحتاجه قلوبنا، الإنابة، التوكل، الرغبة عن الدنيا والرغبة في الآخرة، كل ذلك نحصل عليه وأضعافه إذا قرأنا كتاب الله عز وجل قراءة المتدبر المتفكر المتعقل، وقرأنا في تفسير السلف الصالح رضوان الله عليهم من التفاسير الموثوقة، وكذلك سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فقد حفظ لنا أئمة السنة رضي الله تعالى عنهم أبواباً عظيمة أو كتباً ضمن السنن؛ كتاب الإيمان -كتاب القدر- كتاب التوحيد, وكتاب الرد على الجهمية وغير ذلك من الكتب الموجودة في الصحيحين وغيرهما, هذه المصادر الأساسية وما تبعها من شروح ومن كتب ككتب شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وابن القيم , وكتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله أجمعين, وكتب الشيخ حافظ حكمي رحمه الله, فهذه مما تعينكم بإذن الله على معرفة العقيدة الصحيحة التي كان عليها السلف الصالح ، جعلنا الله وإياكم من أتباعها.
أخذ العلم والرواية عن أهل البدع
السؤال: حول كتاب أهل السنة والجماعة معالم الانطلاقة الكبرى وما ذكر في كيفية معاملة أهل البدع, وقد يكون لبعضهم من لديه شيء من العلم، هل يؤخذ عنه العلم الشرعي؟
الجواب: بالنسبة للكتاب، هو كما ذكر صاحبه أنه جمعه من كلام شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية , وهو يحتوي على فوائد طيبة، منها هذا الجمع، ومنها ما ذكره فيما بعد من كلام حسن, وجدير بنا أن نقرأه.
وأما بالنسبة للبدعة فقد يقع ذلك, والأمة -كما تعلمون- تتمحض للخير وتتمحض للشر, وبين ذلك أمور متفاوتة، والحال أنه وقع في هذه الأمة في العصور المتأخرة أن التمحض للخير قليل, فلا بد أن يؤخذ شيء من الحق إذا أريد أن يؤخذ الحق ومعه شيء من الباطل, ولكننا نرفض الباطل ونأخذ الحق وحده بحسب المستطاع, وهذا بعد أن نكون عرفنا أن هذا الرجل مبتدع فعلاً، أي أن هذا الكلام مما ثبت عنه.
وهنا أنبه إلى قضية أخرى قد يتعلق بها بعض أهل البدع، وهي قضية الرواية عن أهل البدع، وهو أمر آخر غير تلقي العلم عنهم، لأن الرواية أساسها هو الضبط والثقة والصدق، ولهذا قد يُروى عن أهل البدع الذين لا يكذبون، وكذلك الذين ليسوا من الغلاة في بدعهم والذين ليس لما رووه أثر في بدعتهم، فقد يروى عن بعضهم لضبطه ولثقته, ونحن أهل السنة أمة الإنصاف, وإن لم ينصف أهل السنة فمن ينصف؟ أهل البدعة؟!
وإن لم يعدل أهل السنة فمن يعدل؟ أهل البدعة!
فنحن إن كان للإنسان فضل من علم أو ضبط وحفظ وإتقان أو زهد وعبادة وفيه بدع, فإننا مع تحذيرنا من بدعته وعلمنا بها لا ننكر فضله فيما له فيه فضل, هذا لا بد منه.
أما من تمحَّض في الشر كغلاة الرافضة أو غلاة الخوارج الذين أنكروا بعض سور القرآن، أو كان من الباطنية وأشباهها، ممن ارتد عن الإسلام وتمحَّض للشر وللكفر، فإن هذا لا تقبل روايته، لا يروى عنه ولا يقبل علمه، ولا يُتلقى عنه العلم مطلقاًَ، هذا ما أستطيع أن أوجزه. والله أعلم.
منشأ الحداثة وغيرها من المذاهب الفكرية المعاصرة وكيفية علاجها
السؤال: نسمع كثيراً عن الحداثة والحداثيين، فما المقصود بـالحداثة ؟
الجواب: الكلام عن الحداثة لا نستطيع أن نستوفيه، لكن نحن نضع الأصل الذي تعرفون به هذه الفكرة وغيرها من الأفكار، وهي أن هذه الفكرة لم تنبت ولم تخرج من بلاد الإسلام ولا من التراث أو الفكر أو العلم الشرعي الإسلامي أبداً، إنما هي فكرة غربية، وحسبنا أن نعلم أنها غربية, وأية فكرة وافدة، فالواجب علينا أن يكون موقفنا حيالها أياً كانت قبل أن نؤمن بها أو نعتقدها أو نعمل بها أن نشك ونتوقف فيها؛ لأن مصدرها هم هؤلاء الكفار الغربيون.
وما وصل إلينا في مجتمعنا من الحداثة ما هو إلا الفقاقيع, لأن الأصول الفكرية أصلها في الغرب منذ قرن أو قرنين, وأصل هذه الفكرة أنها تستمد من النظرية الداروينية نظرية "دارون ", وتستمد من "الفرويدية " نظرية "فرويد " في حيوانية الإنسان, وتستمد من الماركسية , وتستمد أيضاًَ من المذاهب الأدبية الأوروبية التي عانى منها الغرب مثل المذهب الرومانسي كردة فعل له أو متأثرة به والمذهب الرمزي الذي ظهر في القرن التاسع عشر وهو مذهب أدبي رمزي -أيضاً- طوره البعض وطعنوا في تلك النظريات وأصبحوا يدعونه ويسمونه بهذا الاسم, والحقيقة أن هذا المصطلح هو مصطلح عام يشمل عدة مدارس وعدة اتجاهات هناك في الغرب ومعظمها في فرنسا بالذات، ويصعب حصرها حتى أن بينها من الشقاق ومن العداء ومن الاختلاف الشيء الكثير.
هنالك الاتجاه الوجودي أو ما تطور عن الوجودية وهؤلاء لهم اتجاه, الماركسيون الشيوعيون هؤلاء لهم اتجاه, والشيوعيون أنفسهم لهم أكثر من اتجاه, وهناك أيضاً الاتجاه الكاثوليكي الذي ظل متمسكاً بالتراث، أي الاتجاه الشيوعي المتمسك بمبادئ لينين وماركس .
وهناك الاتجاه الشيوعي المتطور، الذي كان من دعاته "رجاء جارودي " الذي ألف كتاب "ماركسية القرن العشرين " وقد اعتنق الإسلام بعد ذلك, أي أن هناك عدة اتجاهات فكرية، وذلك نتيجة مجتمع لا يؤمن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، نتيجة مجتمع غلا في الجاهليات وأشبع بها من قرون.
تصوروا أن هناك جماعة من هذه الجماعات في باريس واسمها جماعة الضفادع وجماعة الخنازير ، وهذه جمعيات أدبية ويجتمعون ولهم فكر، ولهم شعر مختلف عن الآخرين، فضلاً عن البنيوية ومؤسسها رجل يهودي، وأيضاً من المؤسسين لمذهب الحداثة في الاتجاه الشيوعي رجل شيوعي معروف اسمه "رولانده " وآخر اسمه "لفيفر ", وكلهم دعاة للشيوعية ، وهم مكشوفون ومعروفون في بلادهم.
وقد جاءتنا إما لأن فينا سماعين لهم، وإما لأسباب كثيرة غيرها أدَّت إلى أن يتأثر بهذا الغزو الفكري شواذ من الشباب, وهذا يجب أن نحسب حسابه كأحد المؤثرات للاحتكاك الفكري مع الغرب؛ فالصراع الفكري مع الغرب أحد الأوجه للغزو الوافد إلينا, ووجه من الوجوه الكثيرة جداً.
وبهذه المناسبة أذكر ما حذر منه وزير الثقافة الفرنسي منذ سنوات حيث وقف يحذر أمته وبلاده فرنسا من خطر السيطرة الفكرية الأمريكية يقول: 'إن الذوق الفرنسي أصبح أمريكياً والهدف الفرنسي أصبح أمريكياً والأفلام تأثرت بأفلام هوليود ' وهكذا رجل في باريس يحذر من هوليود !!! ولا فرق بينهما عند المؤمن.
وإذا كانت هذه الأمم تحافظ على أصالتها كما تزعم، وترى أن أصالتها لا تكون إلا بأن تحمي نفسها من خطر الغزو الفكري القادم إليها من أمم غربية مثلها لا تختلف عنها من حيث المادية عدم الإيمان بالله إنكار الدين ومن حيث الإباحية والانحلال، فكل ذلك سواء هنا أو هناك, لكن يرون أن ثقافتهم لا بد أن تتميز، فما بالكم بالمسلم الذي يؤمن بالله، والذي يستمد إيمانه وعلمه وفكره وثقافته من كتاب الله ومن سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعلم الشرعي الصحيح؟!
كيف تكون مقاومته؟! وكيف يكون تحذيره من هذه الآراء؟!
فهي موجة من موجات الغزو الفكري الوافد, ولا بد أن تنحسر, وتأكدوا أنه لا بد أن تنحسر، لكن لا بد -مع ذلك- من التنبه لهذه الأخطار جميعاً.
وإذا أردنا أن نعالجها, وأنا أقول هذا لأنني أمام إخوة -ولله الحمد- على مستوى العلاج, كيف نعالج هذه الظواهر السيئة؟
ابدءوا بالوقاية، انشروا العقيدة الصحيحة، والعلم الصحيح، والدعوة إلى الله, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع، وأنتم بذلك تجعلونه في وقاية محصنة تامة عن أية فكرة وافدة, لكن إذا اشتغلنا بفكرة ما، قد يشغلنا بها أعداء الله لمدة عشرين أو ثلاثين سنة ثم يغيرونها، كما يغيرون من الإباحية إلى الشيوعية ومن الشيوعية مثلاً إلى الحداثة ، وهكذا..
وقد يغيرون ويغيرون، ولا ننتهى أبداً من الجهل، لكن إذا نظرنا إلى الأصل الوقائي, فلا بد منه لنا لكي نكون مؤمنين ومسلمين حقاً، وهو أن نعبد الله على علم وبينة وبصيرة, وأن ندعو إلى الله على بصيرة وأن نوعي أمتنا, بحيث لا ترتكب معصية ولو صغيرة فضلاً عما ترتكب من الإلحاد، فإن هذا يعطيها وقاية عامة، ولولا الخواء الموجود لدى شباب العالم الإسلامي من العقيدة الصحيحة، ما تقبلوا أفكار الغرب وما رضوا بها، وهم يعلمون أن وراءها الأيدي الهدامة، وأن وراءها اليهود، وأن وراءها المستشرقين والمبشرين.
إذاً محاربة هذا الخواء هو بتعبئة هذا الفراغ الروحي بالإيمان الصحيح بالله والعقيدة الصحيحة، هذا الذي به نقاوم جميع العلل وجميع الأدواء بإذن الله تبارك وتعالى، ومع ذلك فإن وجد فينا متخصصون في الرد على هذه الضلالات وكشف زيفها بالتفصيل، فهو أفضل.
مقتضيات ولوازم الأخوة
السؤال: أحد الإخوة يسأل عن حد الأخوة، وما هي المقتضيات العامة لها؟ لأنها تستخدم كشعار عند كثير من الإخوة عندما يكون له رغبة ومراد في بعض الأمور التي يسعى لتحقيقها؟
الجواب: الأخوة المطلوبة هي الأخوة الإيمانية التي تقتضي أن يكون المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، وتقتضي أن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه، وتقتضي أن ينصحه لأن الدين النصيحة، ومن ذلك النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، وتقتضي حسن الخلق مع المؤمنين جميعا،ً والتعاون على البر والتقوى، وتقتضي عدم الشذوذ عن أهل الإيمان والخير والصلاح، الشذوذ إما ببدعة أو برأي أو بتخاذل عنهم، وهكذا مقتضيات واضحة جاءت في الكتاب والسنة.
نعلم بها أن الأخوة الإيمانية هي تحقيق لموالاة المؤمنين، والبراءة من الكافرين ومن المعاصي والفجور وأصحابها.
فكون بعض الناس قد يستغلها سُلَّماً أو ذريعة لغرض غير شرعي، نعم! قد يوجد، لكن ذلك لا يجعلنا نتخلى عنها، المؤمن الشاب التقي -جعلني الله وإياكم كذلك- الذي يتقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتخلق بأخلاق المتقين، بأخلاق أولياء الله وعباده الصالحين، ولا يبالي أن غيره يستغل ذلك الأمر.
نعم! المؤمن فطن وحذر، ولكن ربما يكون في أخلاقك وتمسكك بالدين ما يردعه ويعلمه تعليماً عملياً أن يكون مثلك بإذن الله عز وجل، فالأصل في هذا أن تُقَابِل الإساءة بالإحسان، وأن تُقَابِل الجهل بالحلم، وأن تُقَابِل الاستغلال أو الانتهازية بالإخلاص لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وما دمت تحتسب ذلك عند الله فلا تُبالِ بأهداف المخلوقين ومآربهم وبأغراضهم.
لكن لو شعرت أو رأيت أن إنساناً ما؛ إما صاحب هوى أو بدعة أو معصية ليس غرضه إلا أن يصل إلى ما أراد، وأنت عرفت ذلك يقيناً, فإنه لا يصح أن تتخلى عن هذا الخلق مع غيره من الناس, لكن معه ينبغي لك أن تحذر منه وألاَّ تتيح له فرصة, ومع ذلك لا تكف عن الدعوة له، ولو بدعاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له أن يهديه وأن يوفقه للحق, كيف ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو للمشركين أن يهديهم الله وأن يأتي بهم مؤمنين وأن يسلموا؟! فكيف بنا نحن مع المؤمنين؟!
فيجب أن يكون خلقنا أرفع وأسمى من كل هذه المؤثرات، وفي نفس الوقت أن يكون منهجنا في الدعوة هو التعامل على السنة الصحيحة التي لا محاباة ولا مداهنة ولا مجاملة فيها في الحق، ولا تحريف للحق من أجل إرضاء أي إنسان كائناً من كان, لكن التعامل شيء آخر, فإن التعامل قد يتغير بسبب المواقف، أما التمسك بالمنهج فهو شيء آخر, التمسك بالحق مبدأ, والمبادئ ثابتة لا تتحول ولا تتغير.
الجمع بين قول الله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) وحديث (كل مولود يولد على الفطرة)
السؤال: يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن:2] والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه }، فكيف نأخذ من ذلك كون الإنسان يولد على الفطرة مع أن الآية تبين أنه على الدين؟
الجواب: ليس بين الآية والحديث منافاة -ولله الحمد- بل صريح القرآن يدل على الحديث، وهو قول الله تبارك وتعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30]، فإن الله خلق النفوس على هذه الفطرة النقية التي هي الإسلام، وهي التوحيد، وهي هذه الملة القويمة، وكما أوضح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إحدى روايات الحديث: {كما تنتج البهيمة جمعاء هل ترون فيها من جدعاء }، أي: البهيمة تلد بهيمة مستوية كاملة الخلقة, ليس فيها جدع ولا شعار ولا إشارة, وبعد ذلك يضع الناس هذه الرموز وهذه الإشارات وهذه العلامات للانتماء لشيء ما.
أما الآية هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن:2] فهذا إخبار من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن حال الناس أن منهم المؤمنين وأن منهم الكافرين، وأنه خلقهم جميعاً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وحكمته وقدره بالأزل اقتضى أن يكون منهم مؤمنون وكافرون, مع أن كل مولود يولد على الفطرة، ولكن أبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، فيصبح الخلق على نوعين: كافر ومؤمن, مع أن كلاً منهما قد ولد على الفطرة, فلا منافاة إذن بين الآية والحديث، والله أعلم.
حكم الاستثناء في الإيمان
السؤال: ما حكم الاستثناء في الإيمان، وما هو قول أهل السنة في ذلك؟
الجواب: الاستثناء في الإيمان هو أن يقول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله, وخلاصة القول فيه بإيجاز: إن أراد الإنسان أن يبعد عن نفسه شبهة التزكية، كما قال تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32] فيقول: "أنا مؤمن إن شاء الله", فإنه لا بأس بذلك، ويقصد بذلك كمال الإيمان، أي: أنه مؤمن الإيمان السلفي الذي هو أعلى من درجة الإسلام, الذين وصفهم بقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].
فمن السلف من كان يتحرج عندما يقرأ هذه الآيات ويُسأل أمؤمن أنت؟ وقد سُئِلَ الحسن البصري رحمه الله عن ذلك فقال: 'إن كان من هؤلاء الذين وصفهم الله بقوله: الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً [الأنفال:2] إلى آخر الآيات في وصفهم فلست منهم، وإنما أرى نفسي ممن قال الله عز وجل فيهم: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التوبة:102] ' .
فهذا من باب حط النفس واتهامها وعدم تزكيتها، وأما بالنظر إلى كمال الإيمان وتحقيقه فإنه جائز، وأما إن قالها على سبيل الشك عياذاً بالله، ويقصد بالإيمان الإسلام أنه مؤمن إن شاء الله - يعني أنه شاك في إسلامه- أي: أنا مسلم إن شاء الله، على سبيل الشك، فذلك لا يجوز.
وهذا يجمع ما ورد عن السلف من الاستثناء وما ورد عنهم من النهي عنه, فمن نظر إلى كمال الإيمان وإلى التزكية استثنى، ومن لم يستثن فإنه نظر إلى أن المؤمن لا يشك في دينه، كما قال قائلهم: أشك في كل شيء إلا في إيماني، فأنا مسلم، ويقصد من ذلك أنه لا شك عندي بأن الله حق وأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فكيف أستثني وأقول: أنا مسلم إن شاء الله بنية الشك، وبهذا يجمع بين القولين ولا منافاة بينهما، ولله الحمد.
وحدة المسلمين تكون بالاجتماع على الكتاب والسنة
السؤال: ألا ترى بأن التركيز على منهج أهل السنة يعتبر معاداة للملل والفرق الأخرى، وبالتالي فإنه يؤدي إلى نبذ الوحدة بين المسلمين, واليوم نحن في حاجة إلى الوحدة وهدم الخلاف وترك التشكيك في بعضنا؟
الجواب: لا خيار لنا في أن ندعو إلى السنة، وهذا الأمر ليس من النوافل ولا من التطوعات, بل هو الواجب الذي يجب على طلاب العلم جميعاً وعلى الدعاة إلى الله وعلى كل مسلم أن يدعو إلى السنة وإلى منهج أهل السنة والجماعة ، ليس لنا خيار في ذلك؛ لأن ما عدا السنة هو البدعة وهو الضلالة, أما أن ذلك يفرق فننظر يفرق بين من؟ إن كان يفرق بين أهل السنة ، فإن هذا لا يتصور, لأن أهل السنة إنما يريدون السنة ويريدون الحق، فلا يمكن أن يفرق بينهم من يدعوهم إلى السنة، وليس عند أهل السنة شيء أفرح من أن يظهر فيهم أو يدعوهم أحد إلى السنة، ويبينها لهم ويعرف أنهم كانوا على خطأ، ثم ظهرت لهم السنة، أو كانوا على بدعة فبانت لهم السنة، هذا أحب شيء إلى نفوس أهل السنة ، فلا تفريق بين أهل السنة الراغبين في الحق وفي الكتاب والسنة أبداً.
وأما إن كان القصد أن يفرق بين الأمة، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أخبرنا في الحديث الذي يُروى عن كثير من الصحابة عن أبي هريرة ، وأنس ، ومعاوية { أن هذه الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل من هم يا رسول الله ما أنا عليه وأصحابي } وهم أهل أهل السنة .
إذاً الفرقة الناجية والطائفة المنصورة هم أهل السنة ، وكلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يتخلف وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:2-3]، لا بد أن يقع التفرق, فلو قال قائل: نريد أن نجمع هذه الثلاث والسبعين وندمجها لتكون سبعين؟ نقول: لا تستطيع أبداً؛ لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: على ثلاثٍ وسبعين.
فالتفرق حقيقة قائمة، أي لا يمكن لنا واقعاً أن نجعل الأمة الإسلامية كلها واحدة، كما أننا مأمورون أن ندعو أمم الأرض جميعاً إلى الإسلام، ولكن في الواقع هل نستطيع أن نقضي على اليهود والنصارى والمشركين مع أن ذلك واجب علينا ونحن نسعى إليه، ونحبه، ونبذل جهدنا فيه؟
هذا الواقع لا يكون إلا إذا أنزل الله عيسى عليه السلام، وخلت الأرض من الشرك نهائيا،ً هذا أمر آخر، لكن في واقعنا نحن الآن لا نستطيع ذلك, ومع ذلك ندعو إليه ونحبه.
فكذلك السنة ندعو بأن تكون أمة الإسلام أمة واحدة, ونحرص على إزالة كل سبب يفرق ويباعد بينها, ونبذل جهدنا لئلا تتفرق, لكن الواقع أن الأمة ستظل متفرقة, فهل نقول: نضحي بالعقيدة الصحيحة وبالمنهج الصحيح من أجل أن تجتمع الأمة, وهي لن تجتمع أصلاً، هذا عكس ما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، فالتفرق واقع، والمأمور به أن نعتصم بحبل الله, وحبل الله هو: منهجه وطريقه وسبيله، وهو الكتاب والسنة، نعتصم بالكتاب والسنة ولا نتفرق.
فندعو الأمة -جميعاً- أن تتحد على الكتاب والسنة،ومن الخطأ أن نقول: اللهم اجمع كلمة المسلمين فقط, بل نقول: اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق، فما الفائدة على أن يجتمع المسلمون كلهم على أن يكونوا خوارج أو روافض أو صوفية -عياذاً بالله- فعند أهل الحق الاجتماع ليس مطلباً في ذاته, إنما الاجتماع على الحق هذا هو الصحيح.
والواقع أنه لا يجمع المسلمين شيء غير الكتاب والسنة أبداً، لأنك لو دعوت الناس إلى مذهب فلان من الناس، فإنه سيقابلك آخر برأي آخر، فيرى أن مذهب فلان الآخر هو الأفضل، وبهذا لا يمكن أن نجتمع، لكن إذا قلت لهم: الكتاب والسنة فسيوافقني -ولله الحمد- كثير من الناس, فالذي يجمع الأمة الإسلامية الكتاب والسنة, وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة ومن شذ عنه فلن يشذ عن إمام أو طائفة أو شيخ طريقة أو فرقة أو أمير دعوة وإنما سيشذ عن الكتاب والسنة.
فقد حكم على نفسه بالشذوذ, وأخرج نفسه من أهل الحق، وسوف يحاسب يوم القيامة على ذلك، لم يخرجه أحد بل هو أخرج نفسه, لكن أي شيء يجمع المسلمين غير ذلك؛ فإنه قد يخرج عنه من هو من أهل التقى والإيمان والحق، وقد يدخل في ذلك الاجتماع من هو من أهل الفجور والضلال والباطل، لأن المعيار وهو اتباع الكتاب والسنة، فلا أحد أحرص في هذه الأمة على المحبة بين المسلمين والألفة والاتفاق من أهل السنة والجماعة .
لكن لا يكون ذلك بالتضحية بالعقيدة الصحيحة والإيمان الصحيح أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والموالاة في الله والمعاداة في الله, وذلك لا يكون أبداً, وإلا فسنكون أضعنا هذه الأهداف العظيمة, وعصينا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وخالفنا أمره؛ لنحقق هدفاً نحن صنعناه، ولن يتحقق في الواقع أبداً.
ضابط الأصول والفروع في الدين
السؤال: ما أصل ضابط كل من أصول الدين وفروعه؟ وكيف نعرف الأصول من الفروع؟
الجواب: بالنسبة للأصول والفروع عامة، لا نفترض فيها الضبط المنطقي الدقيق حسب الحدود المنطقية الدقيقة، لكن ما كان متعلقاً بأمور الاعتقاد -العقائد والإيمان- فهو من الأصول، وأما الأعمال والشرائع العملية فهي من الفروع، ثم بعد ذلك العقيدة نفسها فيها أصول ويتبعها فروع لنفس الأصول التي هي الاعتقادات.
فمثلاً: الإيمان عند أهل السنة والجماعة هو من الأصول، لكن -مثلاً- من الفروع مسألة الاستثناء في الإيمان، وأن ننظر إلى فلان والتطبيق الواقعي له.
من الفروع أن ننظر إلى بعض الأمور التي اختلف فيها السلف في مسائل واقعية أو عملية تتفرع عن مسألة الإيمان أو القدر أو الصفات أو ما أشبه ذلك.
فمثلاً: الأصل العام في الصفات أننا نثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه من غير تحريف ولا تكييف ولا تعطيل ولا تمثيل، قد يكون من الفروع لها ما هو صفة من صفات الله عز وجل ورد بها حديث رأى بعض العلماء صحته ورأى بعض العلماء عدم صحته، هذه من الفروع، لكن -مثلاً- من يرى أن الحديث صحيح فيجب عليه ألَّا يؤول هذا الحديث, لأن ذلك يُعتبر نقضاً للأصل، أما الإنسان الذي يقول: "أنا الآن لم يثبت عندي" وهو عالم متبع للحق وللسنة, فهذا من الفروع.
مثلاً: إثبات رؤية الله يوم القيامة للمؤمنين هو أصل من الأصول، والمخالف فيه ضال مبتدع, لكن مسألة هل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه ليلة الإسراء أو لم يره، هذا من الفروع، وهكذا.
الخلاف في مسائل الفروع فيها الراجح والمرجوح، فالأمر فيها دائر بين الخطأ والصواب، أما المخالفة في الأصول فهي دائرة بين السنة والبدعة، بين الهدى والضلال، ولذلك يجب علينا أن نعرف أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يضيع الأصول بحجة أن بعض الفروع فيها خلاف.
مثال: بعض السلف لم يثبت صفة الساق فهل نهدم أصلاً كبيراً وهو توحيد الأسماء والصفات وما يبنى ويترتب عليه لهذا السبب؟! لا.
لو أن الخلاف في الأصل نفسه، لكان المخالف مبتدعاً لا يُعتد بخلافه أصلاً، أما إن كان من الصحابة أو من أهل السنة في مسألة من فروع العقيدة فإنه يحتمل النظر والاجتهاد، فإن هذا يجعل المسألة تدور بين الصحة والخطأ -كما قلنا- ولا يتعدى ذلك إلى إبطال الأصل، في أي حال من الأحوال، ومن فعل ذلك فهو إما جاهل وإما ملبس يريد أن يلبس على المسلمين ويفسد عليهم عقيدتهم متعللاً بما قد يتعلق بهذه الأمور، ويقول : إنها كلها أصول.
إثبات أن الأراضي السبع هي غير السموات السبع
السؤال: هل كل سماء هي أرض بالنسبة لما فوقها؟
الجواب: القول بأن كل سماء هي أرض لما فوقها هو قول خاطئ ليس بصحيح, والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق:12] السماء الدنيا هي سماء من الناحية الاعتبارية المجردة. لكن لا تسمى أرضاً بالنسبة لما فوقها من سماء، فما كان من السماء الدنيا جهة الأرض فهو سماء، وما كان منها جهة السماء لا يُسمى أرضاً.
والأنبياء الذين قابلهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الإسراء والمعراج في السماء الأولى، ثم في الثانية، ثم في الثالثة، وجبريل يستفتح له ويفتح له الباب، ولم يقل أحد: إنه قابلهم في الأرض -أي: في الأرض التي بالنسبة للسماء- فلا يصح هذا, هؤلاء في السماء وهم مرفوعون عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهذا هو الملأ الأعلى.
وإنما قصد بعض الناس التخلص من مسألة كيف نقول: إنها سبع أراض, بينما ليس هناك إلا الأرض هذه وهي واحدة, والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يقل: إن الأرض سبع أراض, وإنما قال: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق:12], هذا شيء.
الشيء الثاني: أن الحديث يدل على ذلك وهو: {من ظلم شبراً من الأرض طوقه من سبع أرضين } لأنها كلها تحت بعضها، حتى استدل بها العلماء -كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح - على أنه من ملك شيئاً فإنه مباشرة ملك باطنه وأرضه، لأنه إذا أنت ملكت قطعة من الأرض، فلك أن تحفر بئراً إلى الأعماق, فأنت تملك ذلك، فالمسألة إذاً هي كونها من السبع الطبقات، هي السبع، التي يقول علماء الجيولوجيا أو سبع أو خمس.. ولا يهمنا هذا وهي قضايا نظرية، لكن يهمنا أن الله جعل من الأرض مثلها -أي: سبعاً- كما ورد في الحديث، وكما دلَّ عليه ظاهر القرآن، ويكفينا أن نقف عند هذا.
العرش وإحاطته بالكون
السؤال: قرأت أن العرش كمثل القبة على السماوات والأرض. فكيف ذلك؟
الجواب: بالنسبة للأرض فهي من جميع الجهات محاطة بالسماء وهذا معروف، لكن لعله حديث: وما نسبة السماوات السبع جميعاً إلى الكرسي، وما نسبة الكرسي إلى العرش، والعرش شكله كالقبة، كما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشبَّك بين يديه هكذا، نحن الآن أصبحنا نتكلم في خيال، فنحن عندما نُفكر في الكيفية نفسها، فإن الكيفية خيال محض، لا نستطيع أن نتصورها على الإطلاق، العقل يتقاصر عن الكيفية, لكن من فضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علينا أن الله أوحى إلينا أننا نعرف ذلك على سبيل التقريب, نعرفه نظرياً، لكن كيفيته؟ لا نستطيع أن نعرف ذلك، والقائل بهذا القول ينبغي أن يُبين له إن شاء الله،ولا يدخل في ضمن الابتداع إن شاء الله.
والسماوات مثل سبعة دراهم ملقاة على ترس بالنسبة إلى الكرسي -أي: أعظم منها وأكبر وسعاً- ولا يشترط أن يكون وسعها بأنه يتضمنها ويحويها، ولكن يكفي أن يعلم أنه أعظم منها، وهذا يكفي، وسعه أعظم منها بكثير، كما تقول العرب: وسع حلم فلان جهله، بمعنى أنه اتسع عنه فاستوعبه، وليس هو شرط الإحاطة الحسية.
وفي الرسالة العرشية لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية المجلد السادس من الفتاوى ، ذكر فيها مسألة العرش والأفلاك وشكل الكون، والله أعلم.
حكم تحديد أسماء الثلاثة والسبعين فرقة
السؤال: هل الثلاثة والسبعين فرقة هي فعلاً ثلاثة وسبعون أم أن الرقم لغرض التكثير فقط؟
الجواب: قد يحتمل التكثير وقد يحتمل العدد نفسه، لكن عندما ننظر في الحديث أن اليهود افترقوا على إحدى وسبعين، والنصارى اثنتين وسبعين، وهذه الأمة على ثلاث وسبعين، فهذا يجعلنا نرجح أن الرقم محدد، لكن أيضاً هذا لا يعني أن نفعل كما فعل بعض المصنفين، يقول: ثلاث وسبعين ويقسم الخوارج ويقسم المعتزلة ويقسم كذا، حتى ينهي ثلاثاً وسبعين، وبعد قرن -مثلاً- تظهر فرقة جديدة.
فلا يقال: إن هذه الفرقة هي كذا وهذه رقمها كذا إلا بدليل، هذا لا يمكن؛ لأن أحداً لا يعلم الغيب، ولا يعلم ما سيكون من الفرق وما يظهر منها، فنفهم من هذا أن الثلاث والسبعين هي عبارة عن ثلاث وسبعين سبيلاً ومنهجاً، وقد يدخل في الفرقة الواحدة عدة فرق، لكن طرقها ومناهجها ومناحيها هي كذلك، وهذا يريحنا من التكلف في أن نعين ونعد ونحدد كل فرقة وكم رقمها.. والله أعلم.
التوحيد وعلم الكلام
السؤال: ما صحة من يقول: إن علم الكلام هو علم أصول الدين وعلم العقيدة؟
الجواب: من يقول: إن علم الكلام هو علم أصول الدين والعقيدة فهو مخطئ، هذا الكلام غير صحيح، ونرد عليه بما رد عليه السلف الصالح ، الذين أنكروا علم الكلام، فمثلاً في أول شرح العقيدة الطحاوية ذكر الإمام ابن أبي العز رحمه الله كلام الإمام أبي حنيفة وكلام الإمام الشافعي وكلام القاضي أبي يوسف رحمه الله وغيرهم من الأئمة.
يقول الشافعي : 'حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في الأسواق، ويقال: هذا جزاء من خالف الكتاب والسنة' .
وكيف يكون علم الكلام هو علم التوحيد، وكلامه هذا غير توحيد، ولو رجعنا إلى كتب وشروح أصول أهل السنة والجماعة ككتاب اللالكائي وغيره من الكتب، نجد الذم والنقد لمن تعلم علم الكلام.
وكل الكتب التي كتبت في بيان العلم: ما هو العلم الصحيح الشرعي، ككتاب فضل علم السلف على علم الخلف , وهي كتب كثيرة من كتب الأئمة الذين يُقتدى بهم، والذين عاصروا علم الكلام يعتبرون الكلام ليس من الدين.
وتجدون -أيضاً- المتكلمين ليسوا من العلماء، بل في فتاوى الحنفية وغيرها يقولون: لو أن رجلاً أوقف مالاً أو أوقف وقفاً وقال: هذا الوقف للعلماء لم يدخل فيه أهل الكلام، هذه عقوبة لأنهم ليسوا من العلماء، فكيف نقول: علم الكلام هو علم التوحيد؟! هذا إن كان القائل بهذا لمجرد أنه أخطأ أو أنه تربى أو تعلم في مكان ليست السنة منتشرة فقد يُعذر، لكن أن يقول: إن علم التوحيد هو علم الكلام!! هذا لا يجوز.
فرقة الإباضية
السؤال: فرقة الإباضية ما هي علاقتها بـالخوارج ؟
الجواب: الإباضية في هذا العصر هي الإباضية التي في كل العصور، فليس هناك أي تناقض، وهم فرقة من الخوارج .
وبالنسبة لتصنيف الخوارج نجد أن الإباضية هي أخف الخوارج غموضاً، فأكثر الخوارج غموضاً هم الأزارقة يرون من عداهم من الأمة أنهم كفرة حتى من كان من الخوارج وهو مقيم في دار المسلمين يعتبرونه كافراً، بل أشد كفراً من اليهود.
وأخف منهم بقليل النجدات أتباع نجدة بن عامر قال: هؤلاء المسلمين كفار لكن من كان على منهجنا وأقام عندنا لا نكفره، أي أنهم أخف لكنهم على نفس الغموض.
أما الإباضية فإنهم قالوا: من كان مخالفاً لمنهجنا فإنه كافر، ولكنه كافر كفراً لا يخرجه من الملة هذا في الأصل، فهؤلاء أخف بقليل من الفرقتين السابقتين.
ثم بعد ذلك دخل في عقيدة الإباضية في باب الأسماء والصفات مذهب المعتزلة ، فأصبحت الإباضية تعتقد -وإلى يومنا هذا- أن من يؤمن بأن الله عز وجل يرى في الآخرة فإنه كافر، ولازم ذلك أن أهل السنة والجماعة كلهم كفار، ونحن نؤمن بذلك، بل والله نسعى إليه ونشتاق إليه، بأن نرى ربنا وأي فوز أعظم من هذا كما قال الزمخشري أي: من دخول الجنة, مع أن أعظم فوزاً من ذلك أن يرى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الجنة.
ويقولون -أيضاً-: إن القرآن مخلوق, فما كان غير الله فهو مخلوق، ففرقة الإباضية التي أسسها عبد الله بن إباض التميمي أضافت إلى مذهب الخوارج بدعة الاعتزال وإنكار الصفات وإنكار الرؤية, وصاحب الكبيرة عندهم كافر، لكن الكفر عندهم لا يخرج من الملة.
والذين يقولون: إن القرآن مخلوق هم قوم ابتدعوا هذه البدعة، وتأثروا باليهود والنصارى، حيث فلاسفة اليهود ومتكلميهم، قالوا: إن القرآن مخلوق، أي: مثل سائر المخلوقات كما أن الله خلق الناقة وخلق الإنسان، فكذلك خلق القرآن.
وهذا تكذيب لكلام الله عز وجل ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن الله أخبر أن القرآن كلامه: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6] وهذا كلام الله، وكلامه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صفته، فهل يكون شيء من صفات الله مخلوقة؟! لا يمكن ذلك أبداً!
ولهذا لو قال واحد: أقسم بالقرآن، أو بالذكر الحكيم، أو بآيات الله المحكمة؛ لكان هذا القسم صحيحاً، لأنه لا يجوز أن يُقسم إنسان بالمخلوق، وهذا أقسم بغير المخلوق، أقسم بكلام الله، بصفة الله، والقسم لا يكون إلا بصفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولم يعهد عن أحد من السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أنه قال : إن القرآن مخلوق.
ولهذا فإن بعض السلف من باب الإلزام بذلك، جعلهم بين أمرين: إما أن يكون السلف علموا أن القرآن مخلوق كما قال هؤلاء أو لم يعلموا، فإن قال: ما علموه, فهم يرون بذلك أنهم جهال، وإن قال علموه، قيل: إما أن يكونوا بلغوه أو كتموه، فاحتار وبهت الذي كفر، لأنهم لو بلغوه لنقل إلينا ذلك, ولو قال: إنهم كتموه لكان هذا قدحاً فيهم أو أننا أعلم منهم, وهذا لا يمكن!
فعلى أي حال يكون هذا بدعاً من القول.
التعديل الأخير بواسطة المشرف: