فرحة الاردن
الادارة العامة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
احببت ان اقدم لكم اليوم أشهر فلاسفة في علم النفس وهو الطبيب الفيلسوف والشاعر ابن سينا
بن سينا هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا، عالم مسلم اشتهر بالطب والفلسفة واشتغل بهما. ولد في قرية (أفشنة) بالقرب من بخارى (في أوزبكستان حاليا) من أب من مدينة بلخ (في أفغانستان حاليا) وأم قروية سنة 370هـ (980م) وتوفي في مدينة همدان (في إيران حاليا) سنة 427هـ (1037م). عرف باسم الشيخ الرئيس وسماه الغربيون بأمير الأطباء وأبو الطب الحديث. وقد ألّف 200 كتاب في مواضيع مختلفة، العديد منها يركّز على الفلسفة والطب. ويعد ابن سينا من أول من كتب عن الطبّ في العالم ولقد اتبع نهج أو أسلوب أبقراط وجالينوس. وأشهر أعماله كتاب الشفاء وكتاب القانون في الطب.
يعتبر الفكر الفلسفي لأبو علي ابن سينا امتداد لفكر لفارابي وقد أخذ عن الفارابي فلسفته الطبيعية وفلسفته الإلهية أي تصوره للموجودات وتصوره للوجود وأخذ منه على الأخص نظرية الصدور وطوّر نظرية النفس وهو أكثر ما عني به.
كان يقول بنفس المبادئ التي نادى بها الفارابي من قبله بأن العالم قديم أزلي وغير مخلوق، وأن الله يعلم الكليات لا الجزئيات، ونفى أن الأجسام تقوم مع الأرواح في يوم القيامة.
معارضيه
كفره نتيجة أفكاره هذه الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال، وأكد نفس المعلومات ابن كثير في البداية والنهاية (12/43). وأكد ابن عماد في شذرات الذهب (3/237) أن كتابه الشفاء اشتمل على فلسفة لا ينشرح لها قلب متدين. اما ابن تيمية أكد أنه كان من الإسماعيلية الباطنية
تعريفه للنفس
أهمية ابن سينا الفلسفية تكمن في نظريته في النفس وأفكاره في فلسفة النفس، مقدمات ابن سينا في النفس هي مقدمات أرسطية.
تعريف ابن سينا للنفس: النفس كمال أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة أي من جهة ما يتولد (وهذا مبدأ القوة المولدة) ويربو (وهذا مبدأ القوة المنمية) ويتغذى (وهذا مبدأ القوة الغاذية) وذلك كله ما يسميه بالنفس النباتية.
وهي كمال أول من جهة ما يدرك الجزئيات ويتحرك بالإرادة وهذا ما يسميه بالنفس الحيوانية. وهي كمال أول من جهة ما يدرك الكليات ويعقل بالاختيار الفكري وهذا ما يسميه النفس الإنسانية.
قصيدته العينية في النفس
والتي يقول في أبياتها وهي من البحر الكامل :
1) هَبَطَتْ إِلَيْكَ مِنَ المَحَلِّ الأَرْفَعِ
وَرْقَاءُ ذَاتُ تَعَزُّزٍ وَتَمَنُّـــعِ1
2) مَحْجُوبَةٌ عَنْ مُقْلَةِ كُلِّ عَارِفٍ
وَهْيَ الَّتِي سَفَرَتْ وَلَمْ تَتَبَرْقَـعِ2
3) وَصَلَتْ عَلَى كُرْهٍ إِلَيْكَ وَرُبَّمَا
كَرِهَتْ فِرَاقَكَ وَهْيَ ذَاتُ تَفَجُّعِ3
4) أَنِفَتْ وَمَا أَلِفَتْ فَلَمَّا وَاصَلَتْ
أَنِسَتْ مُجَاوَرَةَ الخَرَابِ البَلْقَـعِ4
5) وَأَظُنُّهَا نَسِيَتْ عُهُودًا بِالحِمَى
وَمَنَازِلاً بِفِرَاقِهَا لَمْ تَقْنـــَعِ5
6) حَتَّى إِذَا اتَّصَلَتْ بِهَاءِ هُبُوطِهَا
عَنْ مِيمِ مَرْكَزِهَا بِذَاتِ اُلأَجْرَعِ6
7) عَلِقَتْ بِهَا ثَاءُ الثَّقِيلِ فَأَصْبَحَتْ
بَيْنَ المَعَالِمِ وَالطُّلُولِ الخُضَّـعِ7
8) تَبْكِي إِذَا ذَكَرَتْ عُهُودًا بِالْحِمَى
بِمَدَامِعٍ تَهْمِي وَلَمَّا تُقْلِــعِ8
9) وَتَظَلُّ سَاجِعَةً عَلَى الدِّمْنِ الَّتِي
دَرَسَتْ بِتِكْرَارِ الرِّيَاحِ الأَرْبَعِ9
10) إِذْ عَاقَهَا الشِّرْكُ الكَثِيفُ وَصَدَّهَا
قَفَصٌ عَنِ الأَوْجِ الفَسِيحِ المُرْبِعِ10
11) وَغَدَتْ مُفَارِقَةً لِكُلِّ مُخْلِفٍ
عَنْهَا حَلِيفِ التُّرْبِ غَيْرِ مُشَيِّعِ11
12) سَجَعَتْ وَقَدْ كُشِفَ الغِطَاءُ فَأَبْصَرَتْ
مَا لَيْسَ يُدْرَكُ بِالعُيُونِ الهُجَّعِ12
13) وَغَدَتْ تُغَرِّدُ فَوْقَ ذِرْوَةِ شَاهِقٍ
وَالعِلْمُ يَرْفَعُ كُلَّ مَنْ لَمْ يُرْفَعِ13
14) فَلِأَيِّ شَيْءٍ أُهْبِطَتْ مِنْ شَامِخٍ
عَالٍ إِلَى قَعْرِ الحَضِيضَ الأَوْضَعِ14
15) إِنْ كَانَ أَهْبَطَهَا الإِلَهُ لِحِكْمَةٍ
طُوِيَتْ عَنِ الفَطِنِ اللَّبِيبِ الأَرْوَعِ15
16) فَهُبُوطُهَا إِنْ كَانَ ضَرْبَةَ لاَ زِبٍ
لِتَكُونَ سَامِعَةً بِمَا لَمْ تَسْمَعِ16
17) وَتَعُودَ عَالِمَةً بِكُلِّ حَقِيقَةٍ
فِي العَالَمَيْنِ فَخَرْقُهَا لَمْ يُرْقَعِ17
18) وَهْيَ الَّتِي قَطَعَ الزَّمَانُ طَرِيقَهَا
حَتَّى لَقَدْ غَربت بِعَيْنِ المَطْلَعِ18
19) فَكَأَنَّهَا بَرْقٌ تَأَلَّقَ بِالحِمَى
ثُمَّ انْطَوَى فَكأَنَّهُ لَمْ يَلْمَعِ19
الشّرح
1) هَبَطَتْ إِلَيْكَ مِنَ المَحَلِّ الأَرْفَعِ
وَرْقَاءُ ذَاتُ تَعَزُّزٍ وَتَمَنُّـــعِ
أي هبطت إليك أيّها الإنسان الّذي هو جسد ونفس موجودا في عالم الكون والفساد، هذه النّفس الّتي كنّى عنها بالورقاء أي الحمامة ذات غبرة في لونها، من محلّ القدس وعالم الألوهة والثّبات، والجوهرة البريّة من التغيّر، والشّريفة والعزيزة والمتمنّعة عن أن تخالط الهيولى والأجسام. ولا يريد بها ابن سينا أي نفس كانت كالنّفس النّباتيّة أو الحيوانيّة، بل النّفس العاقلة فقط.
2) مَحْجُوبَةٌ عَنْ مُقْلَةِ كُلِّ عَارِفٍ
وَهْيَ الَّتِي سَفَرَتْ وَلَمْ تَتَبَرْقَـعِ
وهذه النّفس العاقلة والشّريفة لمّا حلّت فيك، فإنّ الإنسان النّاظر والمدرك للأشياء المحسوسة بحواسّه الخمس امتنع عليه أن يدركها، أو يثبت وجودها، وذلك لأنّها من طبيعة غير طبيعة هذا العالم، وهو لا ينظر للوجود ولا يطلب معرفته إلاّ بما لا يُوقِفُه منه إلاّ على الأشياء الطّبيعيّة والهيولانيّة، فصارت النّفس لذلك الإنسان وكأنّها محجوبة عنه. أمّا العارف الفطن الّذي قد ترقّى إلى مرتبة الإدراك العقليّ، وتخلّص من أسر الحسّ، وهُمْ قليل جدّا، فهي سافرة له بيّنة عنده، وأظهر لديه من الحسّ نفسه، فصارت النّفس في حقّه وكأنّها قد سفرت ولم تتبرقع، أي لم تتّخذ برقعا، وهو أداة يخفي وجه المرأة.
3) وَصَلَتْ عَلَى كُرْهٍ إِلَيْكَ وَرُبَّمَا
كَرِهَتْ فِرَاقَكَ وَهْيَ ذَاتُ تَفَجُّعِ
والنّفس بعدما كانت في عالم القدس وهبطت إليك، فإنّها أوّل ما هبطت إليك قد شقيت من هذا السّقوط، وضاقت به ذرعا، ولم تستمرئه البتّة، وكرهته أيّما كره. ومع ذلك فها أنت تشاهدها الآن قد صارت تتفجّع من فراقك، أي فراق جسدك؛ لأنّك ترى النّاس كلّهم أو جلّهم إنّما يخشون الموت.
4) أَنِفَتْ وَمَا أَلِفَتْ فَلَمَّا وَاصَلَتْ
أَنِسَتْ مُجَاوَرَةَ الخَرَابِ البَلْقَـع
وآية كرهها لهذا السّقوط من عالم القدس، وحلولها في جسدك أنّه قد تقزّزت منه أوّلا، وتجانفته؛ لكنّ هذه النّفس، وبعد طول الإقامة، فقد أنست سكنه واستمرأت الثّواء فيه. وقد كنّى ابن سينا عنه بالخراب البلقع، أي خال، لأنّ الجسم في الحقيقة هو أقرب إلى العدم منه إلى الوجود، وهو لاشيء بالقياس إلى عالم الحقيقة الّذي هوت منه تلك النّفس.
5) وَأَظُنُّهَا نَسِيَتْ عُهُودًا بِالحِمَى
وَمَنَازِلاً بِفِرَاقِهَا لَمْ تَقْنـــَعِ
وهذه النّفس برضاها وشغفها بالبقاء في عالم الطّبيعة والفساد بعد أن كانت قد تعذّبت وشقيت أوّل ما حلّت في الجسم وفارقت عالم القدس، لَكَأَنَّها قد نسيت تلك العهود الطيّبة حين كانت ترفرف في حمى القدس، وعالم النّور والثّبات، وذهلت عن منازل عليّة كريمة كانت أوّلا قد أسيت من فراقها ولم تقنع به.
6) حَتَّى إِذَا اتَّصَلَتْ بِهَاءِ هُبُوطِهَا
عَنْ مِيمِ مَرْكَزِهَا بِذَاتِ اُلأَجْرَعِ
ولمّا استمّرت النّفس في مكان الهبوط، ومركز عالم ما تحت القمر، وهو عالم الأرض، وقد كنّى عنه بذات الأجرع، أي الأرض الخشنة...
7) عَلِقَتْ بِهَا ثَاءُ الثَّقِيلِ فَأَصْبَحَتْ
بَيْنَ المَعَالِمِ وَالطُّلُولِ الخُضَّـعِ
وصارت مثقلة بالقيود الجسميّة، وطال حبسها فيها، فإنّ هذه النّفس، ولكن ليست أيّ نفس، بل النّفس الكريمة، ذات الفطرة الجيّدة، والتّي القوّة العقليّة لم تخمد منها كلّها، وهي موجودة بين الآثار والرّسوم والأطلال الخضّع، أي الخاشعة، وهذه كلّها كناية عن الحياة الأرضيّة...
8) تَبْكِي إِذَا ذَكَرَتْ عُهُودًا بِالْحِمَى
بِمَدَامِعٍ تَهْمِي وَلَمَّا تُقْلِــعِ
ما تنفكّ تبكي وتنوح بمدامع تسيل ولا تنقطع تحسّرا وتحرّقا كلّما تذكّرت عهودا وأيّاما شَيِّقَةٍ كانت مقيمة فيها بالحمى، أي بعالم القدس وسِدْرَةِ المنتهى. والحمى في أصل اللّغة هو كلّ ما ينبغي أن يُحمى.
9) وَتَظَلُّ سَاجِعَةً عَلَى الدِّمْنِ الَّتِي
دَرَسَتْ بِتِكْرَارِ الرِّيَاحِ الأَرْبَعِ
وهذه الورقاء، وهي كناية عن هذه النّفس الكريمة، تبقى أيضا ساجعة أي نائحة على الدّمن، أي عند آثار النّاس والبهائم، وهذا أيضا كناية عن العالم الأرضيّ الّذي درس أي ذهب، بتعاور الرّياح الأربع عليه، والرّياح الأربع عند العرب هي الصّبا، والدّبور، والشّمال، والجنوب؛ وإنّما كنّى بها عن العناصر الأربعة الّتي تتركّب منها كلّ الموجودات الأرضيّة، أي الماء والهواء والتّراب والنّار.
10) إِذْ عَاقَهَا الشِّرْكُ الكَثِيفُ وَصَدَّهَا
قَفَصٌ عَنِ الأَوْجِ الفَسِيحِ المُرْبِعِ
قد يريد بالشّرك، الكفر، والكفر هو التغطية، والباطل، فكنّى ابن سينا عن عالم الجسم، بالشّرك، لأنّه هو أيضا باطل فهو لا شيء، وهو كفر، فهو يُعَمِّي النّفس عن أصلها. وهذا الشّرك الكثيف أي الغليظ، إذ لفّ هذه النّفس الكريمة، فقد عاقها عن أن تتّصل بأصلها العلويّ الّذي جاءت منه، وكان لها قفصا وسجنا يمنعها من أن تسيح في أوج فسيح وعالم مُرْبِعٍ، أي وشّاه الرّبيع.
11) وَغَدَتْ مُفَارِقَةً لِكُلِّ مُخْلِفٍ
عَنْهَا حَلِيفِ التُّرْبِ غَيْرِ مُشَيِّعِ
ولكن هذه النّفس الكريمة، وليست أي نفس، لمّا كان قد بقي فيها من عالم العقل نسبة، وكانت تتألّم من فراقها لأصلها، وتبكي للعهود الأولى، فلا جرم أنّها سوف تجتهد لأن تعود لأصلها، وتعاود الاتّصال به، وهي بَعْدُ في عالم الجسم؛ وذا ممكن، لكن بشرط المجاهدة وسلوك الطّريق. وأوّل مرتبة في هذه المجاهدة والسّلوك إنّما بأن تفارق النّفس الكريمة والمتشوّقة كلّ نفس أخرى دَيْدَنُهَا الكذب والإخلاف، أي هي غير صادقة في ذكرها للعالم العقليّ، وأن تهرب من كلّ من حالف التّراب والجسم، ولم تكن له همّة أو صدق، وهذا معنى غير مشيّع، في أن يزهد فيهما.
12) سَجَعَتْ وَقَدْ كُشِفَ الغِطَاءُ فَأَبْصَرَتْ
مَا لَيْسَ يُدْرَكُ بِالعُيُونِ الهُجَّعِ
وبعد أن تواصل المجاهدة والارتياض بأن تتعفّف من الأمور الحسيّة والشّهوات المردية، وبأن تدمن على تأمّل الأمور المعقولة، وتُبْقِي الجوهرة النّفيسة فيها وهي العقل تتّقد أبدا، فسوف تنكشف لها الحقيقة، وتلمح، وهي بَعْدُ متسربلة بالجسم، الأنوار الشّعشانيّة، واللمّع القدسيّة الّتي لا يمكن أن تُدْرَكَ إلاّ بملكة العقل المبرّا من الحسّ، أمّا أولائك الّذين أوغلوا في المحسوسات، وتردّوا في الشّهوات، وصاروا كالبهائم، فعيونهم هاجعة، ونائمة، ولا يمكن أن ترى إلاّ الوهم والكذب أي المحسوس.
13) وَغَدَتْ تُغَرِّدُ فَوْقَ ذِرْوَةِ شَاهِقٍ
وَالعِلْمُ يَرْفَعُ كُلَّ مَنْ لَمْ يُرْفَعِ
لذلك فهذه النّفس الكريمة لمدوامتها على الرّياضة والمجاهدة، ولانكبابها على المعقولات الّتي هي العلم الحقّ، فسوف يكون جزاءها أن ترقى إلى ذروة السّعادة، وتبلغ إلى قمّة الكمال الّتي لا يمكن أن تُبْلَغَ إلاّ بذلك العلم الحقّ. وقوله: والعلم يرفع كلّ من لم يرفع، فمعناه أنّ النّفس لمّا كانت في أوّل ما التبست بالجسم قد انحطّت إلى الحضيض ولم تُرْفَعْ، فبذلك العلم الحقّ لهي حريّة بأن تُرفع إلى المقام الأسنى.
14) فَلِأَيِّ شَيْءٍ أُهْبِطَتْ مِنْ شَامِخٍ
عَالٍ إِلَى قَعْرِ الحَضِيضَ الأَوْضَعِ
يأخذ ابن سينا هنا في السّؤال سؤالا قد يسأله كلّ ناظر في أمر النّفس ويحتار فيه، ألا وهو، ليت شعري، وماسبب أن تكون النّفس قد فارقت عالمها الشّريف العالي لتنزل إلى هذا الحضيض الفاني عالم الجسم؟ وما الحكمة في ذلك ؟ وكيف كان لها أن تستبدل الّذي هو أدنى بالّذي هو خير؟
15) إِنْ كَانَ أَهْبَطَهَا الإِلَهُ لِحِكْمَةٍ
طُوِيَتْ عَنِ الفَطِنِ اللَّبِيبِ الأَرْوَعِ
فهبوطها قد يكون لغرض إلاهيّ ليس يعلمه إلاّ الله، ومُنِعَ عن الانسان ولو كان اللّبيب الفطن المدقّق.
16) فَهُبُوطُهَا إِنْ كَانَ ضَرْبَةَ لاَ زِبٍ
لِتَكُونَ سَامِعَةً بِمَا لَمْ تَسْمَعِ
أو قد يكون هبوطها لضرورة ذاتيّة، وهذا معنى ضربة لا زب، أي حتما، وذلك من أجل أن تُحَصِّلَ معرفة من غير جنس المعرفة الأولى الحاصلة لها. لأنّ المعرفة الأولى هي معرفة عقليّة محض. وبعد هبوطها واتّصالها بالجسم، فقد حصل لها معرفة من جنس آخر، وهي المعرفة بعالم الهيولى. ولعلّ ذلك هو معنى قوله: لتعود عالمة بما لم تسمع، يقصد ليتجدّد لها معرفة غير المعرفة العقليّة الأولى.
17) وَتَعُودَ عَالِمَةً بِكُلِّ حَقِيقَةٍ
فِي العَالَمَيْنِ فَخَرْقُهَا لَمْ يُرْقَعِ17
والّذي يؤيّد التّأويل السّابق قوله هنا: وتعود عالمة بكلّ حقيقة في العالمين، أي عالم العقل وعالم الهيولى، أي لتجمع بين المعرفتين، المعرفة العقليّة والمعرفة الحسيّة. لكن ابن سينا يستدرك على ذلك بقوله إنّ صحّ هذا السّبب في تعليل هبوط النّفس فإنّ هبوطها قد أضرّ بها ولم ينفعها، وأنّ اكتسابها لمعرفة أخرى حسّيّة إلى المعرفة العقليّة وإن كان في ظاهره زيادة ووفرة، لكنّه قد نال من بساطة تلك النّفس وبثّ فيها الشّقاق السّاري إليها من الهيولى، فلم تلتأم كامل الالتآم، فكأنّها ثوب شُقَّ، ثمّ رُقِّعَ لكنّ هذا الترّقيع لا يمكن أن يعيد ذلك الثّوب إلى وحدته الأولى التّامّة.
18) وَهْيَ الَّتِي قَطَعَ الزَّمَانُ طَرِيقَهَا
حَتَّى لَقَدْ غَربت بِعَيْنِ المَطْلَعِ
ووجود النّفس في الزّمان هو الذي جعلها تدخل تحت حكم التغيّر، والهيولى، وإذ كانت هي في أصلها بسيطة، وعالمها الحقيق بها إنّما هو عالم الثّبات والأبديّة، أي ما فوق الزّمن، إذًا فوجودها في الزّمن ودخولها تحت حكمه، جعل الزّمن يصرفها عن غايتها وحقيقتها، وهذا معنى قوله: وهي الّتي قطع الزّمان طريقها. وقوله حتّى لقد غربت بعين المطلع، فلعلّه يعني به: وبسبب تسلّط الزّمن على النّفس وحصولها في الجسم، فهي قد غابت، لكن غروبها هو ليس مُرْسَلاً، بل من نفس غروبها، فإنّها تعاود أن تطلع ثانية إذا ما جاهدت وارتاضت لتجدّد اتّصالها بالعالم الأعلى.
19) فَكَأَنَّهَا بَرْقٌ تَأَلَّقَ بِالحِمَى
ثُمَّ انْطَوَى فَكأَنَّهُ لَمْ يَلْمَعِ
وبالأَخَرَة، فهذه النّفس في نزولها ثمّ ترقّيها ثانية إذا قِيسَتْ إلى الأبديّة والأزليّة، لكأنّها برق تألّق ثمّ ما لبث أن اختفي حتّى كأنّه لم يلمع البتّة، أي كأنّ النّفس ما هبطت، ولا ظهرت، ولا عادت ثانية إلى أصلها.
منقول للفائدة
احببت ان اقدم لكم اليوم أشهر فلاسفة في علم النفس وهو الطبيب الفيلسوف والشاعر ابن سينا
بن سينا هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا، عالم مسلم اشتهر بالطب والفلسفة واشتغل بهما. ولد في قرية (أفشنة) بالقرب من بخارى (في أوزبكستان حاليا) من أب من مدينة بلخ (في أفغانستان حاليا) وأم قروية سنة 370هـ (980م) وتوفي في مدينة همدان (في إيران حاليا) سنة 427هـ (1037م). عرف باسم الشيخ الرئيس وسماه الغربيون بأمير الأطباء وأبو الطب الحديث. وقد ألّف 200 كتاب في مواضيع مختلفة، العديد منها يركّز على الفلسفة والطب. ويعد ابن سينا من أول من كتب عن الطبّ في العالم ولقد اتبع نهج أو أسلوب أبقراط وجالينوس. وأشهر أعماله كتاب الشفاء وكتاب القانون في الطب.
يعتبر الفكر الفلسفي لأبو علي ابن سينا امتداد لفكر لفارابي وقد أخذ عن الفارابي فلسفته الطبيعية وفلسفته الإلهية أي تصوره للموجودات وتصوره للوجود وأخذ منه على الأخص نظرية الصدور وطوّر نظرية النفس وهو أكثر ما عني به.
كان يقول بنفس المبادئ التي نادى بها الفارابي من قبله بأن العالم قديم أزلي وغير مخلوق، وأن الله يعلم الكليات لا الجزئيات، ونفى أن الأجسام تقوم مع الأرواح في يوم القيامة.
معارضيه
كفره نتيجة أفكاره هذه الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال، وأكد نفس المعلومات ابن كثير في البداية والنهاية (12/43). وأكد ابن عماد في شذرات الذهب (3/237) أن كتابه الشفاء اشتمل على فلسفة لا ينشرح لها قلب متدين. اما ابن تيمية أكد أنه كان من الإسماعيلية الباطنية
تعريفه للنفس
أهمية ابن سينا الفلسفية تكمن في نظريته في النفس وأفكاره في فلسفة النفس، مقدمات ابن سينا في النفس هي مقدمات أرسطية.
تعريف ابن سينا للنفس: النفس كمال أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة أي من جهة ما يتولد (وهذا مبدأ القوة المولدة) ويربو (وهذا مبدأ القوة المنمية) ويتغذى (وهذا مبدأ القوة الغاذية) وذلك كله ما يسميه بالنفس النباتية.
وهي كمال أول من جهة ما يدرك الجزئيات ويتحرك بالإرادة وهذا ما يسميه بالنفس الحيوانية. وهي كمال أول من جهة ما يدرك الكليات ويعقل بالاختيار الفكري وهذا ما يسميه النفس الإنسانية.
قصيدته العينية في النفس
والتي يقول في أبياتها وهي من البحر الكامل :
1) هَبَطَتْ إِلَيْكَ مِنَ المَحَلِّ الأَرْفَعِ
وَرْقَاءُ ذَاتُ تَعَزُّزٍ وَتَمَنُّـــعِ1
2) مَحْجُوبَةٌ عَنْ مُقْلَةِ كُلِّ عَارِفٍ
وَهْيَ الَّتِي سَفَرَتْ وَلَمْ تَتَبَرْقَـعِ2
3) وَصَلَتْ عَلَى كُرْهٍ إِلَيْكَ وَرُبَّمَا
كَرِهَتْ فِرَاقَكَ وَهْيَ ذَاتُ تَفَجُّعِ3
4) أَنِفَتْ وَمَا أَلِفَتْ فَلَمَّا وَاصَلَتْ
أَنِسَتْ مُجَاوَرَةَ الخَرَابِ البَلْقَـعِ4
5) وَأَظُنُّهَا نَسِيَتْ عُهُودًا بِالحِمَى
وَمَنَازِلاً بِفِرَاقِهَا لَمْ تَقْنـــَعِ5
6) حَتَّى إِذَا اتَّصَلَتْ بِهَاءِ هُبُوطِهَا
عَنْ مِيمِ مَرْكَزِهَا بِذَاتِ اُلأَجْرَعِ6
7) عَلِقَتْ بِهَا ثَاءُ الثَّقِيلِ فَأَصْبَحَتْ
بَيْنَ المَعَالِمِ وَالطُّلُولِ الخُضَّـعِ7
8) تَبْكِي إِذَا ذَكَرَتْ عُهُودًا بِالْحِمَى
بِمَدَامِعٍ تَهْمِي وَلَمَّا تُقْلِــعِ8
9) وَتَظَلُّ سَاجِعَةً عَلَى الدِّمْنِ الَّتِي
دَرَسَتْ بِتِكْرَارِ الرِّيَاحِ الأَرْبَعِ9
10) إِذْ عَاقَهَا الشِّرْكُ الكَثِيفُ وَصَدَّهَا
قَفَصٌ عَنِ الأَوْجِ الفَسِيحِ المُرْبِعِ10
11) وَغَدَتْ مُفَارِقَةً لِكُلِّ مُخْلِفٍ
عَنْهَا حَلِيفِ التُّرْبِ غَيْرِ مُشَيِّعِ11
12) سَجَعَتْ وَقَدْ كُشِفَ الغِطَاءُ فَأَبْصَرَتْ
مَا لَيْسَ يُدْرَكُ بِالعُيُونِ الهُجَّعِ12
13) وَغَدَتْ تُغَرِّدُ فَوْقَ ذِرْوَةِ شَاهِقٍ
وَالعِلْمُ يَرْفَعُ كُلَّ مَنْ لَمْ يُرْفَعِ13
14) فَلِأَيِّ شَيْءٍ أُهْبِطَتْ مِنْ شَامِخٍ
عَالٍ إِلَى قَعْرِ الحَضِيضَ الأَوْضَعِ14
15) إِنْ كَانَ أَهْبَطَهَا الإِلَهُ لِحِكْمَةٍ
طُوِيَتْ عَنِ الفَطِنِ اللَّبِيبِ الأَرْوَعِ15
16) فَهُبُوطُهَا إِنْ كَانَ ضَرْبَةَ لاَ زِبٍ
لِتَكُونَ سَامِعَةً بِمَا لَمْ تَسْمَعِ16
17) وَتَعُودَ عَالِمَةً بِكُلِّ حَقِيقَةٍ
فِي العَالَمَيْنِ فَخَرْقُهَا لَمْ يُرْقَعِ17
18) وَهْيَ الَّتِي قَطَعَ الزَّمَانُ طَرِيقَهَا
حَتَّى لَقَدْ غَربت بِعَيْنِ المَطْلَعِ18
19) فَكَأَنَّهَا بَرْقٌ تَأَلَّقَ بِالحِمَى
ثُمَّ انْطَوَى فَكأَنَّهُ لَمْ يَلْمَعِ19
الشّرح
1) هَبَطَتْ إِلَيْكَ مِنَ المَحَلِّ الأَرْفَعِ
وَرْقَاءُ ذَاتُ تَعَزُّزٍ وَتَمَنُّـــعِ
أي هبطت إليك أيّها الإنسان الّذي هو جسد ونفس موجودا في عالم الكون والفساد، هذه النّفس الّتي كنّى عنها بالورقاء أي الحمامة ذات غبرة في لونها، من محلّ القدس وعالم الألوهة والثّبات، والجوهرة البريّة من التغيّر، والشّريفة والعزيزة والمتمنّعة عن أن تخالط الهيولى والأجسام. ولا يريد بها ابن سينا أي نفس كانت كالنّفس النّباتيّة أو الحيوانيّة، بل النّفس العاقلة فقط.
2) مَحْجُوبَةٌ عَنْ مُقْلَةِ كُلِّ عَارِفٍ
وَهْيَ الَّتِي سَفَرَتْ وَلَمْ تَتَبَرْقَـعِ
وهذه النّفس العاقلة والشّريفة لمّا حلّت فيك، فإنّ الإنسان النّاظر والمدرك للأشياء المحسوسة بحواسّه الخمس امتنع عليه أن يدركها، أو يثبت وجودها، وذلك لأنّها من طبيعة غير طبيعة هذا العالم، وهو لا ينظر للوجود ولا يطلب معرفته إلاّ بما لا يُوقِفُه منه إلاّ على الأشياء الطّبيعيّة والهيولانيّة، فصارت النّفس لذلك الإنسان وكأنّها محجوبة عنه. أمّا العارف الفطن الّذي قد ترقّى إلى مرتبة الإدراك العقليّ، وتخلّص من أسر الحسّ، وهُمْ قليل جدّا، فهي سافرة له بيّنة عنده، وأظهر لديه من الحسّ نفسه، فصارت النّفس في حقّه وكأنّها قد سفرت ولم تتبرقع، أي لم تتّخذ برقعا، وهو أداة يخفي وجه المرأة.
3) وَصَلَتْ عَلَى كُرْهٍ إِلَيْكَ وَرُبَّمَا
كَرِهَتْ فِرَاقَكَ وَهْيَ ذَاتُ تَفَجُّعِ
والنّفس بعدما كانت في عالم القدس وهبطت إليك، فإنّها أوّل ما هبطت إليك قد شقيت من هذا السّقوط، وضاقت به ذرعا، ولم تستمرئه البتّة، وكرهته أيّما كره. ومع ذلك فها أنت تشاهدها الآن قد صارت تتفجّع من فراقك، أي فراق جسدك؛ لأنّك ترى النّاس كلّهم أو جلّهم إنّما يخشون الموت.
4) أَنِفَتْ وَمَا أَلِفَتْ فَلَمَّا وَاصَلَتْ
أَنِسَتْ مُجَاوَرَةَ الخَرَابِ البَلْقَـع
وآية كرهها لهذا السّقوط من عالم القدس، وحلولها في جسدك أنّه قد تقزّزت منه أوّلا، وتجانفته؛ لكنّ هذه النّفس، وبعد طول الإقامة، فقد أنست سكنه واستمرأت الثّواء فيه. وقد كنّى ابن سينا عنه بالخراب البلقع، أي خال، لأنّ الجسم في الحقيقة هو أقرب إلى العدم منه إلى الوجود، وهو لاشيء بالقياس إلى عالم الحقيقة الّذي هوت منه تلك النّفس.
5) وَأَظُنُّهَا نَسِيَتْ عُهُودًا بِالحِمَى
وَمَنَازِلاً بِفِرَاقِهَا لَمْ تَقْنـــَعِ
وهذه النّفس برضاها وشغفها بالبقاء في عالم الطّبيعة والفساد بعد أن كانت قد تعذّبت وشقيت أوّل ما حلّت في الجسم وفارقت عالم القدس، لَكَأَنَّها قد نسيت تلك العهود الطيّبة حين كانت ترفرف في حمى القدس، وعالم النّور والثّبات، وذهلت عن منازل عليّة كريمة كانت أوّلا قد أسيت من فراقها ولم تقنع به.
6) حَتَّى إِذَا اتَّصَلَتْ بِهَاءِ هُبُوطِهَا
عَنْ مِيمِ مَرْكَزِهَا بِذَاتِ اُلأَجْرَعِ
ولمّا استمّرت النّفس في مكان الهبوط، ومركز عالم ما تحت القمر، وهو عالم الأرض، وقد كنّى عنه بذات الأجرع، أي الأرض الخشنة...
7) عَلِقَتْ بِهَا ثَاءُ الثَّقِيلِ فَأَصْبَحَتْ
بَيْنَ المَعَالِمِ وَالطُّلُولِ الخُضَّـعِ
وصارت مثقلة بالقيود الجسميّة، وطال حبسها فيها، فإنّ هذه النّفس، ولكن ليست أيّ نفس، بل النّفس الكريمة، ذات الفطرة الجيّدة، والتّي القوّة العقليّة لم تخمد منها كلّها، وهي موجودة بين الآثار والرّسوم والأطلال الخضّع، أي الخاشعة، وهذه كلّها كناية عن الحياة الأرضيّة...
8) تَبْكِي إِذَا ذَكَرَتْ عُهُودًا بِالْحِمَى
بِمَدَامِعٍ تَهْمِي وَلَمَّا تُقْلِــعِ
ما تنفكّ تبكي وتنوح بمدامع تسيل ولا تنقطع تحسّرا وتحرّقا كلّما تذكّرت عهودا وأيّاما شَيِّقَةٍ كانت مقيمة فيها بالحمى، أي بعالم القدس وسِدْرَةِ المنتهى. والحمى في أصل اللّغة هو كلّ ما ينبغي أن يُحمى.
9) وَتَظَلُّ سَاجِعَةً عَلَى الدِّمْنِ الَّتِي
دَرَسَتْ بِتِكْرَارِ الرِّيَاحِ الأَرْبَعِ
وهذه الورقاء، وهي كناية عن هذه النّفس الكريمة، تبقى أيضا ساجعة أي نائحة على الدّمن، أي عند آثار النّاس والبهائم، وهذا أيضا كناية عن العالم الأرضيّ الّذي درس أي ذهب، بتعاور الرّياح الأربع عليه، والرّياح الأربع عند العرب هي الصّبا، والدّبور، والشّمال، والجنوب؛ وإنّما كنّى بها عن العناصر الأربعة الّتي تتركّب منها كلّ الموجودات الأرضيّة، أي الماء والهواء والتّراب والنّار.
10) إِذْ عَاقَهَا الشِّرْكُ الكَثِيفُ وَصَدَّهَا
قَفَصٌ عَنِ الأَوْجِ الفَسِيحِ المُرْبِعِ
قد يريد بالشّرك، الكفر، والكفر هو التغطية، والباطل، فكنّى ابن سينا عن عالم الجسم، بالشّرك، لأنّه هو أيضا باطل فهو لا شيء، وهو كفر، فهو يُعَمِّي النّفس عن أصلها. وهذا الشّرك الكثيف أي الغليظ، إذ لفّ هذه النّفس الكريمة، فقد عاقها عن أن تتّصل بأصلها العلويّ الّذي جاءت منه، وكان لها قفصا وسجنا يمنعها من أن تسيح في أوج فسيح وعالم مُرْبِعٍ، أي وشّاه الرّبيع.
11) وَغَدَتْ مُفَارِقَةً لِكُلِّ مُخْلِفٍ
عَنْهَا حَلِيفِ التُّرْبِ غَيْرِ مُشَيِّعِ
ولكن هذه النّفس الكريمة، وليست أي نفس، لمّا كان قد بقي فيها من عالم العقل نسبة، وكانت تتألّم من فراقها لأصلها، وتبكي للعهود الأولى، فلا جرم أنّها سوف تجتهد لأن تعود لأصلها، وتعاود الاتّصال به، وهي بَعْدُ في عالم الجسم؛ وذا ممكن، لكن بشرط المجاهدة وسلوك الطّريق. وأوّل مرتبة في هذه المجاهدة والسّلوك إنّما بأن تفارق النّفس الكريمة والمتشوّقة كلّ نفس أخرى دَيْدَنُهَا الكذب والإخلاف، أي هي غير صادقة في ذكرها للعالم العقليّ، وأن تهرب من كلّ من حالف التّراب والجسم، ولم تكن له همّة أو صدق، وهذا معنى غير مشيّع، في أن يزهد فيهما.
12) سَجَعَتْ وَقَدْ كُشِفَ الغِطَاءُ فَأَبْصَرَتْ
مَا لَيْسَ يُدْرَكُ بِالعُيُونِ الهُجَّعِ
وبعد أن تواصل المجاهدة والارتياض بأن تتعفّف من الأمور الحسيّة والشّهوات المردية، وبأن تدمن على تأمّل الأمور المعقولة، وتُبْقِي الجوهرة النّفيسة فيها وهي العقل تتّقد أبدا، فسوف تنكشف لها الحقيقة، وتلمح، وهي بَعْدُ متسربلة بالجسم، الأنوار الشّعشانيّة، واللمّع القدسيّة الّتي لا يمكن أن تُدْرَكَ إلاّ بملكة العقل المبرّا من الحسّ، أمّا أولائك الّذين أوغلوا في المحسوسات، وتردّوا في الشّهوات، وصاروا كالبهائم، فعيونهم هاجعة، ونائمة، ولا يمكن أن ترى إلاّ الوهم والكذب أي المحسوس.
13) وَغَدَتْ تُغَرِّدُ فَوْقَ ذِرْوَةِ شَاهِقٍ
وَالعِلْمُ يَرْفَعُ كُلَّ مَنْ لَمْ يُرْفَعِ
لذلك فهذه النّفس الكريمة لمدوامتها على الرّياضة والمجاهدة، ولانكبابها على المعقولات الّتي هي العلم الحقّ، فسوف يكون جزاءها أن ترقى إلى ذروة السّعادة، وتبلغ إلى قمّة الكمال الّتي لا يمكن أن تُبْلَغَ إلاّ بذلك العلم الحقّ. وقوله: والعلم يرفع كلّ من لم يرفع، فمعناه أنّ النّفس لمّا كانت في أوّل ما التبست بالجسم قد انحطّت إلى الحضيض ولم تُرْفَعْ، فبذلك العلم الحقّ لهي حريّة بأن تُرفع إلى المقام الأسنى.
14) فَلِأَيِّ شَيْءٍ أُهْبِطَتْ مِنْ شَامِخٍ
عَالٍ إِلَى قَعْرِ الحَضِيضَ الأَوْضَعِ
يأخذ ابن سينا هنا في السّؤال سؤالا قد يسأله كلّ ناظر في أمر النّفس ويحتار فيه، ألا وهو، ليت شعري، وماسبب أن تكون النّفس قد فارقت عالمها الشّريف العالي لتنزل إلى هذا الحضيض الفاني عالم الجسم؟ وما الحكمة في ذلك ؟ وكيف كان لها أن تستبدل الّذي هو أدنى بالّذي هو خير؟
15) إِنْ كَانَ أَهْبَطَهَا الإِلَهُ لِحِكْمَةٍ
طُوِيَتْ عَنِ الفَطِنِ اللَّبِيبِ الأَرْوَعِ
فهبوطها قد يكون لغرض إلاهيّ ليس يعلمه إلاّ الله، ومُنِعَ عن الانسان ولو كان اللّبيب الفطن المدقّق.
16) فَهُبُوطُهَا إِنْ كَانَ ضَرْبَةَ لاَ زِبٍ
لِتَكُونَ سَامِعَةً بِمَا لَمْ تَسْمَعِ
أو قد يكون هبوطها لضرورة ذاتيّة، وهذا معنى ضربة لا زب، أي حتما، وذلك من أجل أن تُحَصِّلَ معرفة من غير جنس المعرفة الأولى الحاصلة لها. لأنّ المعرفة الأولى هي معرفة عقليّة محض. وبعد هبوطها واتّصالها بالجسم، فقد حصل لها معرفة من جنس آخر، وهي المعرفة بعالم الهيولى. ولعلّ ذلك هو معنى قوله: لتعود عالمة بما لم تسمع، يقصد ليتجدّد لها معرفة غير المعرفة العقليّة الأولى.
17) وَتَعُودَ عَالِمَةً بِكُلِّ حَقِيقَةٍ
فِي العَالَمَيْنِ فَخَرْقُهَا لَمْ يُرْقَعِ17
والّذي يؤيّد التّأويل السّابق قوله هنا: وتعود عالمة بكلّ حقيقة في العالمين، أي عالم العقل وعالم الهيولى، أي لتجمع بين المعرفتين، المعرفة العقليّة والمعرفة الحسيّة. لكن ابن سينا يستدرك على ذلك بقوله إنّ صحّ هذا السّبب في تعليل هبوط النّفس فإنّ هبوطها قد أضرّ بها ولم ينفعها، وأنّ اكتسابها لمعرفة أخرى حسّيّة إلى المعرفة العقليّة وإن كان في ظاهره زيادة ووفرة، لكنّه قد نال من بساطة تلك النّفس وبثّ فيها الشّقاق السّاري إليها من الهيولى، فلم تلتأم كامل الالتآم، فكأنّها ثوب شُقَّ، ثمّ رُقِّعَ لكنّ هذا الترّقيع لا يمكن أن يعيد ذلك الثّوب إلى وحدته الأولى التّامّة.
18) وَهْيَ الَّتِي قَطَعَ الزَّمَانُ طَرِيقَهَا
حَتَّى لَقَدْ غَربت بِعَيْنِ المَطْلَعِ
ووجود النّفس في الزّمان هو الذي جعلها تدخل تحت حكم التغيّر، والهيولى، وإذ كانت هي في أصلها بسيطة، وعالمها الحقيق بها إنّما هو عالم الثّبات والأبديّة، أي ما فوق الزّمن، إذًا فوجودها في الزّمن ودخولها تحت حكمه، جعل الزّمن يصرفها عن غايتها وحقيقتها، وهذا معنى قوله: وهي الّتي قطع الزّمان طريقها. وقوله حتّى لقد غربت بعين المطلع، فلعلّه يعني به: وبسبب تسلّط الزّمن على النّفس وحصولها في الجسم، فهي قد غابت، لكن غروبها هو ليس مُرْسَلاً، بل من نفس غروبها، فإنّها تعاود أن تطلع ثانية إذا ما جاهدت وارتاضت لتجدّد اتّصالها بالعالم الأعلى.
19) فَكَأَنَّهَا بَرْقٌ تَأَلَّقَ بِالحِمَى
ثُمَّ انْطَوَى فَكأَنَّهُ لَمْ يَلْمَعِ
وبالأَخَرَة، فهذه النّفس في نزولها ثمّ ترقّيها ثانية إذا قِيسَتْ إلى الأبديّة والأزليّة، لكأنّها برق تألّق ثمّ ما لبث أن اختفي حتّى كأنّه لم يلمع البتّة، أي كأنّ النّفس ما هبطت، ولا ظهرت، ولا عادت ثانية إلى أصلها.
منقول للفائدة