-
- إنضم
- 28 ديسمبر 2010
-
- المشاركات
- 100
-
- مستوى التفاعل
- 0
-
- النقاط
- 0
[ALIGN=CENTER][TABLETEXT="width:80%;background-color:black;"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]البيدر
البيدر
- تركوا أهازيج الحصاد هناك كنجمة في سماء صيفية. علّقوها على غصن التمني في الحقل المشيّع للخصب والنماء. الحصّادون الذين استفاقوا ذات صباحات الندى التي تليق برايات النماء الأبدي رفعوا بيارق أرواحهم على كتف اشتهائهم للحياة؛ والحياة تلك المسافة ما بين قطرة ماء رقرارقة ولسان جاف. والحقل في كتاب المشتهين الحياة، حكمة الوردة التي اصطفَتْ لها درباً بين حجرين من هواجس العمر.
تركوا أغانيهم هناك تحرسها أقمارهم وهم يممِّون شطر البيدر؛ وأقمار الحصادين لجينية على فطرة الأمنيات الأولى، تماماً كقلب رضيع. الحصّادون فرغوا من هسيس الحقل على سندان الأذن وفرغوا من أغنيات الحصاد وانثالوا في أهزوجة البيدر.
حين عزفوا بأبدان مناجلهم على سيقان السنابل أجلوا ريق الأغنيات إلى باحة البيدر. فهناك ثمة رقص وثمة اشتعالات، ففي الحصاد كان المقام (رست)، وفي البيدر يصير المقام (صبا)، وما بين الصبا والرست لذعة الحزن تلك التي مثلما تشهر فرحة الحصّاد، فإنها تشي بوجعه الأخضر. إذ تصير الأغنيات كبنْت تمشي على حبل بين قلبين من هيام:
"منجلي وا منجلاه راح للصايغ جلاه
ما جلاه إلا بعلبه والعلبه صارت عزاه
منجلي يا ابو رزّه يلي شريتك من غزه"
في الطريق إلى البيدر كانت السنابل تتمايل كقصيدة هبطتْ من سماء الروح؛ والريح تمشط جدائلها الذهبية، جدائل السنابل التي أحنت رؤسها وهي تنصت لأغاني الحنطة في قلوب الحصّادين. كأنها تتمايل مع وقع الأغنيات الشجية، وللحنطة في قلوب الحصادين أغانٍ كونية، تشتهي الحياة على شكل زخة مطر تستهدف صوف القلب. ترسمها بلون الحكمة وأحافيرها الضاربة في تراب الوقت. تنفخ فيها روحاً إنسانية من لدن الحلم. الحلم وحده عنوان أغاني الحصادين ورتمها.
السنابل في البيدر جبل من الاشتهاء الخالص، تتشابك تتعارك تتقاطع وتبدو باصفرارها الذهبي إشارة للغمام الذي يحمل في خوابيه رموز الإنسانية الأولى:
"جئ مرّة أخرى
واطرق شبابيك الأمنيات بأصابع من شموس
جئ مرّة أخرى
يا أيها الولد المفوض لاجتراح الحلم المجاز
يا أيها الوتر الأكيد
عند قارعة اليقين".
بين البيادر والغمام خيط من الحكايات. بين البيدر وقلبي خيط من الذكريات. أغمض عينيّ الآن، فيهبط المشهد صافياً كصفحة ماء حفلت بوجه السماء:
على ظهور الدواب اعتلت أكوام السنابل بحيث صارت الدواب وهي تسير في الطريق الترابية، بيادرَ تمشي. كنّا قد خلّفنا الحقول وراءنا وهي ما تزال تترع ببقايا السنابل التي نثرت حَب القمح وحُبّبه للطير. من على ظهر الدابة وقامتي الطفولية آنذاك تغوص في السنابل، بان الحقل كوجه مليء بالوقار وأنا أطل عليه وأتذكر تلك الأسابيع التي مضت بحكاياتها بجوعها بعطشها بأحلامها بامنياتها بشموسها الحارقة. في الطريق إلى البيدر، ثمة حكايات ونكات وأغانٍ وأحلام أيضاً. ذاكرة الولد الصغير كانت تلملم التفاصيل بروية؛ عمي الذي انتظر البيدر وفي قلبه اشتياق لزغرودة تعلن طقس الزواج. جدتي التي كانت ترمق الأفق بنظرة من عينيها الحادتين وهي تجترّ وقع الحجيج على الطريق إلى مكة في ذاكرتها. جدي الذي يمسد بيده على عنق الفرس وهو يطل على الدواب بينما تيمم شطر البيدر. وفي العيون ثمة ابتسامات برّاقة، وفي العيون أيضاً ثمة حزن خفيّ.
أوصلت الدوابُ حمولتها، فارتفع البيدر إذ صار كتلة في ذلك السفح الذي يرقد في شرفة الذاكرة الآن.. تعالت صيحات الحصادين وزغاريدهم وأغنياتهم وبمعيتهم راحت الفرس تصهل. وعلى أكوام السنابل راح الحصادون وهم يركبون الدواب التي تجرّ ألواحاً معدنية وخشبية ثقيلة يسوّون تلة السنابل تلك. بعد أيام بانت أكوام القمح ذهبية كحلم الحصادين. كان جدي يجلس على صخرة قرب البيدر، بينما الآخرين يملأون الأكياس بالقمح. كانت اللحظة تلك لحظة مقدسة؛ صمت آسر جاء استجلاباً للبَركة التي في معتقدات الحصادين يمكن للكلام الفائض عن الحاجة أن ينتزعها من سياقها النقي.
البيدر مشهد عريق يتهادى في سماء الذاكرة الآن بكل تفاصيله، تلك التفاصيل التي تبقى قلادةً أصيلة في عنق القلب.
[/ALIGN][/CELL][/TABLETEXT][/ALIGN]
البيدر
- تركوا أهازيج الحصاد هناك كنجمة في سماء صيفية. علّقوها على غصن التمني في الحقل المشيّع للخصب والنماء. الحصّادون الذين استفاقوا ذات صباحات الندى التي تليق برايات النماء الأبدي رفعوا بيارق أرواحهم على كتف اشتهائهم للحياة؛ والحياة تلك المسافة ما بين قطرة ماء رقرارقة ولسان جاف. والحقل في كتاب المشتهين الحياة، حكمة الوردة التي اصطفَتْ لها درباً بين حجرين من هواجس العمر.
تركوا أغانيهم هناك تحرسها أقمارهم وهم يممِّون شطر البيدر؛ وأقمار الحصادين لجينية على فطرة الأمنيات الأولى، تماماً كقلب رضيع. الحصّادون فرغوا من هسيس الحقل على سندان الأذن وفرغوا من أغنيات الحصاد وانثالوا في أهزوجة البيدر.
حين عزفوا بأبدان مناجلهم على سيقان السنابل أجلوا ريق الأغنيات إلى باحة البيدر. فهناك ثمة رقص وثمة اشتعالات، ففي الحصاد كان المقام (رست)، وفي البيدر يصير المقام (صبا)، وما بين الصبا والرست لذعة الحزن تلك التي مثلما تشهر فرحة الحصّاد، فإنها تشي بوجعه الأخضر. إذ تصير الأغنيات كبنْت تمشي على حبل بين قلبين من هيام:
"منجلي وا منجلاه راح للصايغ جلاه
ما جلاه إلا بعلبه والعلبه صارت عزاه
منجلي يا ابو رزّه يلي شريتك من غزه"
في الطريق إلى البيدر كانت السنابل تتمايل كقصيدة هبطتْ من سماء الروح؛ والريح تمشط جدائلها الذهبية، جدائل السنابل التي أحنت رؤسها وهي تنصت لأغاني الحنطة في قلوب الحصّادين. كأنها تتمايل مع وقع الأغنيات الشجية، وللحنطة في قلوب الحصادين أغانٍ كونية، تشتهي الحياة على شكل زخة مطر تستهدف صوف القلب. ترسمها بلون الحكمة وأحافيرها الضاربة في تراب الوقت. تنفخ فيها روحاً إنسانية من لدن الحلم. الحلم وحده عنوان أغاني الحصادين ورتمها.
السنابل في البيدر جبل من الاشتهاء الخالص، تتشابك تتعارك تتقاطع وتبدو باصفرارها الذهبي إشارة للغمام الذي يحمل في خوابيه رموز الإنسانية الأولى:
"جئ مرّة أخرى
واطرق شبابيك الأمنيات بأصابع من شموس
جئ مرّة أخرى
يا أيها الولد المفوض لاجتراح الحلم المجاز
يا أيها الوتر الأكيد
عند قارعة اليقين".
بين البيادر والغمام خيط من الحكايات. بين البيدر وقلبي خيط من الذكريات. أغمض عينيّ الآن، فيهبط المشهد صافياً كصفحة ماء حفلت بوجه السماء:
على ظهور الدواب اعتلت أكوام السنابل بحيث صارت الدواب وهي تسير في الطريق الترابية، بيادرَ تمشي. كنّا قد خلّفنا الحقول وراءنا وهي ما تزال تترع ببقايا السنابل التي نثرت حَب القمح وحُبّبه للطير. من على ظهر الدابة وقامتي الطفولية آنذاك تغوص في السنابل، بان الحقل كوجه مليء بالوقار وأنا أطل عليه وأتذكر تلك الأسابيع التي مضت بحكاياتها بجوعها بعطشها بأحلامها بامنياتها بشموسها الحارقة. في الطريق إلى البيدر، ثمة حكايات ونكات وأغانٍ وأحلام أيضاً. ذاكرة الولد الصغير كانت تلملم التفاصيل بروية؛ عمي الذي انتظر البيدر وفي قلبه اشتياق لزغرودة تعلن طقس الزواج. جدتي التي كانت ترمق الأفق بنظرة من عينيها الحادتين وهي تجترّ وقع الحجيج على الطريق إلى مكة في ذاكرتها. جدي الذي يمسد بيده على عنق الفرس وهو يطل على الدواب بينما تيمم شطر البيدر. وفي العيون ثمة ابتسامات برّاقة، وفي العيون أيضاً ثمة حزن خفيّ.
أوصلت الدوابُ حمولتها، فارتفع البيدر إذ صار كتلة في ذلك السفح الذي يرقد في شرفة الذاكرة الآن.. تعالت صيحات الحصادين وزغاريدهم وأغنياتهم وبمعيتهم راحت الفرس تصهل. وعلى أكوام السنابل راح الحصادون وهم يركبون الدواب التي تجرّ ألواحاً معدنية وخشبية ثقيلة يسوّون تلة السنابل تلك. بعد أيام بانت أكوام القمح ذهبية كحلم الحصادين. كان جدي يجلس على صخرة قرب البيدر، بينما الآخرين يملأون الأكياس بالقمح. كانت اللحظة تلك لحظة مقدسة؛ صمت آسر جاء استجلاباً للبَركة التي في معتقدات الحصادين يمكن للكلام الفائض عن الحاجة أن ينتزعها من سياقها النقي.
البيدر مشهد عريق يتهادى في سماء الذاكرة الآن بكل تفاصيله، تلك التفاصيل التي تبقى قلادةً أصيلة في عنق القلب.
[/ALIGN][/CELL][/TABLETEXT][/ALIGN]