مہجہرد إنہسہآن
ادارة الموقع
تقول مقتطفات من كتاب "صدام مرّ من هنا" للزميل الكاتب الصحافي اللبناني ورئيس تحرير صحيفة "الحياة" اللندنية غسان شربل، والتي ستكون مقتصرة على واحد من أبرز الرموز الذين عايشوا صدام حسين وهو صلاح عمر العلي الذي كان رفيقا قديما لصدام وكان إلى جانبه ساعة الاستيلاء على القصر في 17 تموز(يوليو) 1968.
وكان العلي مندوب العراق في الأمم المتحدة حينما استدعاه صدام وقال له:"سنكسر رؤوس الإيرانيين وسنعيد كل شبر احتلوه. وسنعيد شط العرب".
وأضاف صدام "هذا الكلام عن حل سلمي وإنساني وتصفية المشاكل مع إيران لا أريده أن يتكرر على لسانك إطلاقاً. حضّر نفسك في الأمم المتحدة".
إننا الآن في العام 1959. وحدها الصدفة أدت إلى إشراك شاب نحيل اسمه صدام حسين في فريق كلّف اغتيال الزعيم عبدالكريم قاسم. صاحب القرار أول أمين سر للقيادة القطرية في البعث العراقي فؤاد الركابي، وأغلب الظن أن أجهزة جمال عبدالناصر كانت على علم بالموضوع. فشلت المحاولة وأصيب صدام بشظية. فرّ الركابي وبعض أعضاء القيادة إلى دمشق وكان بينهم حازم جواد وعلي صالح السعدي. في دمشق قلق الركابي على مصير صدام. راح يسأل عنه حين تأخر. ولدى وصوله اقترح تكريمه. حفل متواضع وقالب حلوى. كان صدام مجرد نصير فتقرر قبوله عضواً أصيلاً. وقف في دمشق وأدى اليمين أمام الركابي.
كان صدام يحب الملك الحسين ويكره حافظ الأسد ويتهكم على القذافي
في بداية السبعينيات ستكتمل فصول القصة. كان الركابي يستعد لمغادرة السجن خلال أيام بعدما ذاق فيه من الإذلال والتعذيب ما لا يطيق سجين احتماله. فجأة أدخلت أجهزة صدام إلى السجن من زعمت أنه مجرم عادي. أرسل المجرم في مهمة محددة. استفز الركابي وافتعل معه شجاراً. أخرج سكيناً وذبحه من الوريد إلى الوريد. ولم يكن أمام حازم جواد غير تسلّم جثة قريبه لمواراتها.
هذا ما رواه لي حازم جواد حين وافق على طي أربعة عقود من الصمت. كانت المرارات بادية في حديثه هو الذي قاد الحزب إلى السلطة في 8 شباط (فبراير) 1963 وأذاع البيان الرقم واحد وأرسل من يأتي بضابط شهير اسمه عبدالسلام عارف لن يتأخر في إزاحة البعث لينفرد بالسلطة.
لم يكن لصدام حسين دور بارز في تلك الأيام. لكن ذلك الفشل سيضاعف حظوظه في الصعود إلى القيادة الحزبية بدعم من القائد المؤسس ميشيل عفلق وستقوم بين الرجلين لاحقاً علاقة حميمة وغريبة. وحين عاد البعث إلى السلطة في 1968 كان قرار صدام القاطع منع تكرار تجربة خسارة السلطة واقتلاع أي خطر عليها قبل استفحاله في الحزب أو الجيش أو خارجهما.
حلم بعيد المنال لإطاحة صدام
إطاحة البعث وصدام حلم قديم راود أحمد الجلبي الذي كانت عائلته جزءاً من المشهد السياسي في العراق قبل ثورة 1958. نتائجه اللامعة في أرقى الجامعات الأميركية لم تشبع طموحاته، فأرقام الرياضيات لا تشفي غليل من يشتهي ما هو أكثر. بدا الحلم بعيد المنال. في الحرب العراقية ـــ الإيرانية ظهر صدام في صورة من يدافع عن الإقليم في وجه أحلام الخميني بـ"تصدير الثورة". ارتاحت واشنطن إلى رغبة صدام في عدم الوقوع تحت تأثير موسكو على رغم معاهدة الصداقة والتعاون الموقعة بين البلدين. لم تدعم الرئيس العراقي لتوجيه ضربة قاصمة إلى إيران. لكنها تدخلت لاحقاً بما يكفي لمنع طهران من تسديد مثل هذه الضربة إلى النظام العراقي. حصل صدام على صور جوية أميركية لتجمعات القوات الإيرانية وعلى تسهيلات مالية وتجارية.
عندما ارتكب صدام خطيئة غزو الكويت تجددت أحلام الجلبي. حاول قطع الشرايين المالية التي تغذي نظام البعث وتحميه من الاختناق. واستنتج أن مستقبل النظام يتقرر في أميركا بعدما فشلت المعارضة الشيعية والكردية في إطاحته.
تسلل الجلبي إلى مراكز الأبحاث والدراسات وأروقة الكونغرس وكذلك إلى دهاليز الـ"CIA" وممرات وزارة الدفاع. انغمس في العمل في أميركا ولم تغب إيران عن باله. تطلع إلى جمع المعارضتين الشيعية والكردية تحت سقف واحد لإقناع واشنطن بأن البديل موجود. ساهمت التوترات بين النظام العراقي وفرق التفتيش الدولية في تسهيل مهمة الجلبي. وتولت ماكينة إعلامية هائلة تصوير صدام كأنه الخطر الكبير على الإقليم والعالم.
لم يكن صدور "قانون تحرير العراق" عن الكونغرس الأميركي، والذي يحمل بصمات الجلبي، كافياً. ثمة رجل سيمهد الطريق من دون أن يدري لقتل نظام صدام حسين. إنه أسامة بن لادن. فبعد هجمات 11 أيلول(سبتمبر) 2001 بدأ الهمس في غرف أميركية ضيقة عن "خطر" صدام حسين. مطبخ بارع أعد الوجبة للرأي العام الأميركي: أسلحة الدمار الشامل وانتهاك القوانين الدولية والعلاقة بالإرهاب والديكتاتورية والتعذيب وحلبجة.
ابتهجت إيران بإسقاط الجيش الأميركي نظامَ طالبان في أفغانستان كما ابتهجت بتوجه أميركا نحو اقتلاع عدوها اللدود في بغداد. أدرك الجلبي لقاء المصالح وحين اقتلعت دبابة أميركية تمثال الرئيس ونظامه، تدفق المقاتلون العراقيون من المنفى الإيراني إلى بلاد شطب بول بريمر جيشها من الوجود.
هذا ما رواه لي الدكتور أحمد الجلبي حين وافق للمرة الأولى على الحديث عن الرحلة الطويلة التي مكنت جورج بوش من ارتكاب مغامرة ستدمي العراق والمنطقة وتفتح الباب أمام إيران للمطالبة بزعامة الإقليم.
ذاكرة حامد الجبوري مثقلة بالروايات. شاهد كثيراً وسمع كثيراً. والسبب بسيط: تولى إدارة مكتب "الأب القائد" ثم إدارة مكتب السيد النائب وحقيبة الإعلام ووزارة الدولة للشؤون الخارجية.
قال الجبوري إن المغفور له الملك الحسين صعد مع صدام في 22 أيلول(سبتمبر) 1980 إلى دبابة قرب الحدود مع إيران وبارك الحرب بإطلاق قذيفة من الدبابة. وجدتُ صعوبة في تصديق الرواية لكنه أصرّ عليها. وأضاف أنه تسلّم شخصياً من سفير عربي في بغداد صوراً التقطتها أقمار التجسس الأميركية للحشود الإيرانية.
وروى أنه كان حاضراً لدى استقبال صدام وزير الخارجية الإماراتي راشد عبدالله النعيمي وسط مؤشرات إلى ميل الدول الخليجية إلى تقليص مساهمتها في تمويل الحرب ضد إيران. قال الجبوري إن صدام خاطب النعيمي قائلاً: "سلّم على ... وقل له ... لا أريد نقل العبارة بحرفيتها لأنها غير لائقة وهي تتحدث عما كان يمكن أن تفعله إيران بالإمارات ودول أخرى لولا وجود صدام".
استقبل صدام السفراء العراقيين المعتمدين في الخارج. قال سفير العراق لدى الكويت إنه طالب وزير الدفاع الكويتي بأن تتوقف الزوارق الكويتية عن انتهاك المياه الإقليمية العراقية لكنه لم يأخذ التحذير على محمل الجد. غضب صدام وخاطب السفير قائلاً: "ترجع غداً إلى الكويت بلا تأخير. تذهب فوراً إلى صباح الأحمد (وزير الخارجية) وتقول له إن صدام يقول لك (...) وأن العصفور الذي يخترق أجواء العراق نقص ذيله". كان الكلام عنيفاً وجارحاً.
دموع في عينيْ البكر
كان الجبوري وزيراً للإعلام حين ترأس صدام اجتماعاً إعلامياً حرص خلاله على انتقاده. توجه إلى القصر وأبلغ البكر أنه ينوي الاستقالة. نهض البكر وأشار إلى الكرسي الذي كان جالساً عليه وقال: "أبول على هذا الكرسي، كرسي رئاسة الجمهورية الذي لا يحفظ حتى كرامة الرئيس". وراح البكر يخاطب نفسه: "آخ أبو هيثم شلون تقبل تصير رئيس جمهورية، شلون تقبل تدخل بحزبهم". عاد البكر إلى كرسيه وظهرت الدموع في عينيه وقال: "الاستقالة شيلها من ذهنك. ليس باستطاعتي قبول استقالتك، من يقبل استقالتي أنا. نحن أسرى ولا نملك حق الاستقالة".
استقبل البكر بعد توليه الرئاسة وفداً من بغداد فاجأه بالسؤال عن أسباب قتل الشيخ عبدالعزيز البدري الذي كان صديقاً له. لم يكن البكر على علم بالحادثة. وبعد مغادرة الوفد طلب من الجبوري "قل لصدام هذا الجالس مع ربعه في آخر الممر أن يعطوني خبراً على الأقل".
في "مكتب العلاقات العامة" في آخر الممر وبرئاسة صدام كان يجلس أيضاً رجال قساة هم ناظم كزار وسعدون شاكر وعلي رضا باوه ومحمد فاضل وكان هذا المكتب نواة أجهزة الاستخبارات البعثية لاحقاً. نقل الجبوري الرسالة إلى صدام فحدّق به ولم يعلّق.
استقبل صدام، في حضور الجبوري، مبعوثاً للرئيس الشاذلي بن جديد يحمل ملفاً أوجز خلاصته. قال إن التحقيق الذي أجرته بلاده أكد أن الصاروخ الذي أسقط طائرة وزير خارجيتها محمد بن يحيى، الذي كان يحاول وقف الحرب العراقية ـــ الإيرانية، كان عراقياً. وأضاف أن جزءاً من حطام الصاروخ عثر عليه في إيران وأن السوفيات أكدوا أنهم سلّموا هذه الصواريخ إلى العراق. تسلّم صدام الملف ولم يعتذر ولم يعلّق.
يقول الجبوري إن صدام أقام علاقة حميمة مع المغفور له الملك الحسين وكان يناديه "ابن العم". وكان يكره الرئيس السوري حافظ الأسد ويتهكم على العقيد معمر القذافي مردداً "من هو هذا القذافي؟". لم يكن صدام يحب السوفيات. ذات مساء قال للجبوري: مؤامرة 1973 (مؤامرة كاظم كزار) ومؤامرة 1979 وراءهما جهاز الـ"كي. جي. بي" السوفياتي وقد شاركت سورية في الثانية.
الجملة التي لا ينساها الجبوري هي تلك التي سمعها من العاهل المغربي الملك الحسن الثاني في قصر الصخيرات حين قال الملك: "بصراحة إذا حضر صدام نبدو كأن على رؤوسنا الطير". وصدور مثل هذا الكلام عن الحسن الثاني ليس بسيطاً.
محاولة اغتيال عبدالكريم قاسم والفرار إلى دمشق ومنها إلى القاهرة عاد صدام
إلى بغداد بعد استيلاء البعث على السلطة في 8 شباط(فبراير) 1963. وإثر نجاح عبدالسلام عارف في إزاحة البعث بعد تسعة أشهر سينتقل إلى العمل السرّي وسيدخل السجن ليفرّ منه لاحقاً بعدما عُيّن في القيادة القطرية إثر نجاحه في الفوز باهتمام "القائد المؤسس" للبعث ميشيل عفلق.
الأحداث التي أعقبت عودة البعث إلى السلطة تحمل بصماته. اتفاق الحكم الذاتي مع الملا مصطفى بارزاني ومحاولة اغتيال الأخير بعده. قرار تأميم النفط ومعاهدة الصداقة والتعاون مع الاتحاد السوفياتي. حملة محو الأمية. إنهاء حركة ناظم كزار. القتال مع الأكراد واتفاق الجزائر مع شاه إيران. وفي ظل البكر كان يواصل تطويع الجيش والحزب وشطب المشكوك في ولائهم إلى أن حانت في 16 تموز(يوليو) 1979 ساعة استقالة البكر. بدأ عهد صدام بوليمة حزبية دامية. وسينتهي العهد في 9 نيسان(أبريل) 2003 وسينتهي الرجل لاحقاً على حبل المشنقة. خسر نظامه وولديه عديّ وقصيّ وحفيده وتبددت عائلته ثم خسر كل شيء.