لحنــ المطــر
عضو جديد
عالـــم الـــذر
قال النبي :?ما خلقتم للفناء بل خلقتم للبقاء وإنما تنقلون من دار إلى دار ?.1
يمر الإنسان خلال حياته الطويلة –أي من بداية خلقه وحتى وصوله إلى مرحلة الخلود في الجنة أو النار – في عدة مراحل أو عوالم مختلفة منها عالم الأرواح (ويسمى أيضاً بعالم الأشباح أو الظلال)وعالم الذر وعالم الأصلاب وعالم الأرحام وعالم الدنيا وعالم البرزخ وعالم القيامة ثم في الأخير عالم الخلود في الجنة أو النار ، ولا تشكل الحياة الدنيا التي نعيش فيها إلا مرحلة صغيرة جداً قياساً بتلك المراحل والعوالم المتعددة .
فعلى سبيل المثال إذا لاحظنا عالم البرزخ (القبر)ومدة مكوثه نجد أنه قد يمتد لمئات أو آلاف من السنين أو ربما أكثر من ذلك ، حيث أنه يبدأ بموت الإنسان وينتهي بقيام الساعة أو النفخ في الصور وكما قال سبحانه وتعالى :?وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ?2 ، وكذلك يوم القيامة فهو وحده يشكل أيضاً عالم طويل جداً بالنسبة لحياتنا الدنيوية حيث يقول عنه سبحانه وتعالى :? يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة ?3 ، وأما حياتنا الآخرة في الجنة أو النار فلا يمكن قياسها ببقائنا في الدنيا فهي سنوات لا تعد ولا تحصى وخلود إلى مالانهاية .
ومع الأسف الشديد فإن أكثر الناس قد شغلوا بزخرف هذه الدنيا القصيرة الأمد مع ما فيها من بلايا وأمراض ومصائب متعددة عما ينتظرهم من عوالم طويلة وحياة خالدة في الآخرة ، كما نسينا أو غفلنا عن عوالم سابقة كنا قد مررنا بها وربما عشنا فيها لعشرات أو مئات من السنين وذلك حسب ما جاء في بعض الروايات من أن الإنسان يخلق قبل أن يولد بألفي عام ..!
فعن الإمام الصادق (ع )قال إن الله آخى بين الأرواح في الأظلة قبل أن يخلق الأبدان بألفي عام )4 ، وعن أبي جعفر قال إن الله أخذ ميثاق شيعتنا بالولاية لنا وهم ذر يوم أخذ الميثاق على الذر بالأقرارله بالربوبية ولمحمد بالنبوة، وعرض الله عز وجل على محمد أمته في الطين وهم أظلة وخلقهم من الطينة التي خلق منها آدم ، وخلق الله أرواح شيعتنا قبل أبدانهم بألفي عام ، وعرضهم عليه وعرفهم رسول الله وعرفهم عليا ونحن نعرفهم في لحن القول ).5
ومن تلك العوالم المهمة التي مررنا بها أو عشنا فيها هو عالم الذر الذي نحن بصدد البحث فيه ، فما هو حقيقة عالم الذر؟ ولأي شيء كان ذلك العالم ؟ وما الذي كان قبله ثم كيف إنتقلنا منه إلى عالم الدنيا ؟ وكيف نسينا بأجمعنا ذلك العالم ولم نعد نتذكر حوادثه المختلفة ؟
هذه الأسئلة وكثير من الأسئلة المشابهة لها تدور في ذهن الكثيرين منا ولا نجد لها الإجابة المحددة والصحيحة أو الشافية ، وهذا ما سنبحثه إنشاء الله تعالى في هذه السطور القليلة لعلنا نتوصل لبعض الإجابات لتلك الأسئلة المتعددة.
أدلة وجود عالم الذر :
قال تعالى :وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ
.6
وعن أبي جعفر الباقر في تفسير الآية الآنفة الذكر قال : (أخرج من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة ، فخرجوا كالذر فعرفهم وأراهم نفسه -أي برؤية القلب -ولولا ذلك لم يعرف أحد ربه ، ثم قال (ع ):قال رسول الله :" كل مولود يولد على الفطرة " يعني على المعرفة بأن الله خالقه ، وذلك قوله ?وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ? )7.
وعن ابن بكير عن زرارة قال سألت أبا عبدالله عن قول الله :? وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ ….? فقال : (ثبتت المعرفة في قلوبهم ونسوا الموقف وسيذكرونه يوماً ما ، ولولا ذلك لم يدر أحد من خالقه ولا من رازقه ، فمنهم من أقر بلسانه في الذر ولم يؤمن بقلبه فقال الله (( فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ )8) )9.
وعن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله كيف أجابوه وهم ذر ؟ فقال : (جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه يعني الميثاق )10.
وعن أبي جعفر قال : (لما أخرج ذرية آدم من ظهره ليأخذ عليهم الميثاق بالربوبية له وبالنبوة لكل نبي ، فكان أول من أخذ له عليهم الميثاق بنبوته محمد بن عبدالله )11.
إذن نستنتج مما مضى من آيات وروايات -وهناك من أمثلتها الشيء الكثير ربما تتجاوز العشرات أوالمئات من الأحاديث -أن هناك عالم يسبق عالمنا هذا ويطلق عليه اسم عالم الذر نسبة إلى أن الناس كانوا فيه على شكل ذر ولكنهم كانوا يملكون كافة المشاعر والأحاسيس العقلية والفكرية والنفسية التي نملكها اليوم وربما أكثر .
ونورد هنا قول العاملي في تفسير حديث النبي صلى الله عليه وآله لميسرة الفجر وذلك حينما سأله متى كنت نبياً فأجاب : (وآدم بين الروح والجسد )، فقال العاملي وهو أحد العلماء المعاصرين ضمن ما قال إن عدداً من الأحاديث الشريفة تدل على وجود عدة عوالم كنا فيها قبل عالمنا هذا ، منها عالم الذر الذي أخذه الله من ظهر آدم وبنيه .. ومنها عوالم كانت فيها روح آدم قبل أن تحل في قالب التراب .. ومنها عالم النور والظلال الذي كان قبل خلق روح آدم وجسده وفيه خلق نور نبينا صلى الله عليه وآله ، بل ورد أن أول شيء خلقه الله تعالى نور محمد ، وبما أن كل ذلك غيب لاعلم لنا فيه إلا ما أخبرنا المتصل بالغيب ، فلا ننفيه بل نبقيه في عالم الإمكان ونعتقد بما ثبت منه )12.
ماهية عالم الذر :
السؤال الذي يدور في ذهن الكثيرين منا ويحتاج إلى إجابة هو هل كنا في عالم الذر أرواح وأجساد أم أرواح فقط أم ماذا؟
اختلف علمائنا الكرام بشأن عالم الذر كثيراً وتعددت آرائهم في ذلك، فمنهم من أنكر وجود عالم الذر جملة وتفصيلا وفسر آية الذر وإشهاد الناس وإقرارهم فيها لله بالربوبية ، بإنه تعبير مجازي عن تكوينهم الذي يهديهم إلى ربهم تعالى، أي إعترافهم في الحياة الدنيا بلسان الحال لا بلسان المقال بربهم سبحانه، وذلك حينما يرون عظيم صنعه وآثاره في خلقه وبديع آياته، ومن بين هؤلاء العلماء الأكارم السيد الشريف المرتضى (قدس سره ) حيث استبعد رحمه الله أن ينسى جميع الناس ماجرى في عالم الذر لو كان ذلك صحيحاً، ويأول الروايات الواردة بشأن عالم الذر بتأويلات أخرى حيث يقول فهذه الأخبار إما أن تكون باطلة مصنوعة، أو يكون تأويلها –إن كانت صحيحة – ما ذكرناه في مواضع كثيرة من تأويل قوله ? وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ …? وهو أن الله تعالى لما خلق الخلق وركبهم تركيباً وأراهم الآيات والدلائل والعبر في أنفسهم وفي غيرهم يدل الناظر فيها المتأمل لها على معرفة الله وإلهيته ووحدانيته ووجوب عبادته وطاعته ، جاز أن يجعل تسخيرها له وحصولها على هذه الصفات الداله على ما ذكرناه ، إقراراً منها بالوحدانية ووجوب العبادة )13.
وأما القسم الثاني من العلماء فقد اعتبر أن عالم الذر هو نفس عالم الأرواح والأظله حيث لم يكن هناك أجساد أو مانسميه بعالم المادة وإنما كان عالم أرواح أو أشباح فقط لاغير ، وفيه تم أخذ الميثاق على الناس بالربوبية له سبحانه وللأنبياء بالنبوة وكذلك باقي العقائد الأساسية .
وأما القسم الثالث من العلماء فقد فرق بين عالم الذر وعالم الأرواح واعتبر أن عالم الأرواح هو عالم سابق لعالم الذر وقال بأن عالم الذر هو عالم أجساد وأن الله عز وجل استخرج نطف أبناء آدم من ظهره ثم من ظهور أبنائه إلى آخر أب ثم كونهم بشكل معين وأشهدهم فأقروا ، ثم أعادهم إلى حالتهم الأولى في ظهر آدم ، ويقول السيد الجزائري بهذا الخصوص (إن خلق الأرواح قد كان قبل خلق عالم الذر وقد أجج سبحانه ناراً وكلف تلك الأرواح بالدخول ، فمنهم من بادر إلى الإمتثال ومنهم من تأخر عنه ولم يأت به ، فمن هناك جاء الأيمان والكفر ولكن بالأختيار ، فلما أراد سبحانه أن يخلق لتلك الأرواح أبداناً تعلق لكل نوع من الأرواح نوعاً مناسباً له من الأبدان ، فيكون ما صنع بها سبحانه جزاءً لذلك التكليف السابق )14.
بل ذهب البعض من العلماء لأبعد من ذلك واعتبر أن الحياة في عالم الذر امتدت لفترة غير قصيرة من الزمان ، وجرى في ذلك العالم الكثير من الحوادث والقضايا على بني آدم وجرى بينهم الصداقات والعداوات أيضاً ، وربما يدل على ذلك حديث النبي الأرواح جنود مجنده فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها أختلف )15، وقال بعضهم أنه كان هناك أيضاً إرتكاب المعاصي من البعض فكان هناك المطيع والعاصي لله تبارك وتعالى ، وان كثيراً من الأحداث التي نواجهها الآن ما هي إلا عبارة عن طبعة ثانية لأحداث ذلك العالم ، ولذلك تمر على الإنسان أحياناً بعض المواقف أو الأحاديث فيتذكر أنه قد رآها من قبل أو مرت عليه من قبل مع أنها تحصل له لأول مرة .
أسباب خلق عالم الذر :
بعد إثبات وجود عالم الذر وحديثنا عن كيفيته يتبادر في الذهن هنا السؤال التالي وهو لماذا خلق الله سبحانه وتعالى عالم الذر ، وما هي الضرورة التي تدعو إلى ذلك ؟
ولكي نجيب عن هذا التسائل لابد في البداية أن نأكد على أن الله سبحانه وتعالى هو وحده العالم بجميع الأسباب والغايات من الخلق وغيره من الأمور وإننا لانستطيع أن نلم بجميع الأسباب للإرادة الإلهية ، وإنما نذكر هنا بعض الأسباب المحتملة لصنع عالم الذر وهي :-
1-تعليم المفاهيم والقيم الدينية الأساسية وزرع الضمير والوجدان الديني (الفطرة) :
قال تعالى :?فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا?16 .
وعن الإمام الصادق في تفسير الآية السابقة قال فطرهم على التوحيد )17.
وعن أبي جعفر قال إن الله عز وجل لما أخرج ذرية آدم عليه السلام من ظهره ليأخذ عليهم الميثاق له بالربوبية وبالنبوة لكل نبي…... ، فقال آدم : يارب ما أكثر ذريتي..!ولأمر ما خلقتهم ، فما تريد منهم بأخذك الميثاق عليهم ؟ فقال الله عز وجل : يعبدونني ولا يشركون بي شيئاً ويؤمنون برسلي ويتبعونهم )18.
مما مضى يتضح لنا أن الله سبحانه وتعالى فطر الخلق على معرفته منذ البداية وزرع فيهم المفاهيم الأساسية وكذلك قيم الخير المختلفة مثل الصدق والعدل وكراهية الحسد وغير ذلك من القيم الأخلاقية المزروعة في وجدان كل واحد منا ، ولذلك كان دور الأنبياء عليهم السلام هو التذكير فقط لهذا الإنسان وإثارة تلك المعارف المدفونة في داخله وتنبيهه عن الغفلة ، وكما قال تعالى :?فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ?19، وكذلك قول الإمام علي بشأن الأنبياء فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبيائه ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم منسي نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول )20.
2–إقامة الحجة على الخلق والعباد :
قال تعالى :?أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ?21.
وقوله تعالى في تذييل آية الذر التي ذكرناها من قبل في بداية أدلة وجود عالم الذر :?.. أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ?22.
فمن البداية أراد سبحانه أقامة الحجة على العباد لكي يهلك من هلك منهم عن بينة وينجو من نجا منهم عن بينة ، ولعل أخذ المواثيق على الخلق وإقامة الحجة عليهم تم في أكثر من عالم من تلك العوالم ، فربما تم ذلك في عالم الأرواح ثم في عالم الذر ثم كان ذلك بالتأكيد أيضاً في هذه الحياة الدنيا عن طريق إرسال الرسل والأنبياء وباقي حجج الله على الخلق .
3- امتحان الخلق والبشر واختبارهم :
عن أبي عبدالله قال ان بعض قريش قال لرسول الله بأي شيء سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم ؟ فقال : اني كنت أول من آمن بربي و أول من أجاب حيث أخذ الله ميثاق النبيين وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى )23.
وعن أبي عبدالله أيضاً قال ... فلما أراد الله أن يخلق الخلق نثرهم بين يديه فقال لهم من ربكم ؟ فكان أول من نطق رسول الله وأمير المؤمنين والأئمة صلوات الله عليهم ، فقالوا :أنت ربنا ، فحملهم العلم والدين ، ثم قال للملآئكة :هؤلاء حملة علمي وديني وأمنائي في خلقي وهم المسئولون )24.
ومما جاء في زيارة فاطمة الزهراء امتحنك الذي خلقك قبل أن يخلقك وكنت لما أمتحنك به صابرة )، حيث يقول الميرزا جواد التبريزي بشأن ذلك لعل الإمتحان –أي للسيدة الزهراء –راجع إلى عالم الذر وخلق الأرواح في الصور المثالية قبل خلق الأبدان والله العالم )25.
فحيث أن الله سبحانه وتعالى عادل وحكيم والعدل هو وضع كل شيء في موضعه المناسب له ، وحيث أنه لم يكن سبحانه ليظلم أحد من الناس فيكون بعضهم أولياء ومصطفون كالأنبياء والأوصياء أو حتى أبناء فقهاء وعلماء دون عمل مسبق مما يعني تهيء أسباب السعادة والنجاة لهم ، بينما يولد آخرون من الزنا أو لآباء كفار ومشركين مما يعني عدم وجود المناخ الصالح لهدايتهم ونجاتهم ، وبالتالي إنما استخلص الله الأنبياء والأئمة لسبقهم إلى الإيمان بالله وعملهم الصالح في عالم الذر بينما كان الآخرون في الدنيا من أبناء الكفار والمشركين أو أولاد زنا - والعياذ بالله - لعملهم السيء في عالم الذر ، وهذه الفكرة يؤيدها السيد الأبطحي في كتابه بين يدي الأستاذ ، ويزيد على ذلك بالقول أن من أسباب خلق عالم الذر أوالأبدان هو أنه لو بقى الناس في عالم الأرواح إلى مالا نهاية دون أن يصيبهم ما يصيب الأبدان من أمراض وآفات ومصائب وموت وغير ذلك لظن البعض أنفسهم آلهه من دون الله ، ولاصابهم الكبر والغرور وغير ذلك من الأمراض الروحية .
ويقول السيد الطباطبائي (قدس سره) في تفسير الميزان ( أنه كما أن لنظام الثواب والعقاب في الآخرة ارتباطاً تاماً بنشأة أخرى قبلها وهي الدنيا من حيث الطاعة والمعصية ، كذلك للطاعة والمعصية في الدنيا ارتباط تام بنشأة أخرى قبلها رتبة وهي عالم الذر)26.
وهنا يبرز لنا سؤال هام وهو أنه إذا كان الله سبحانه وتعالى قد إمتحننا في عالم الذر وكان منا المطيع ومنا العاصي ، فلماذا إذن جئنا لعالم الدنيا ؟
والجواب أنه من رحمة الله الواسعة وتلطفه بالعباد أعطى الخلق فرصة ثانية في هذه الحياة الدنيا ليستنقذوا أنفسهم من النار ويصلحوا أعمالهم السيئة ليستحقوا بذلك عفو الله ويفوزوا بالسعادة الأبدية في الآخرة ، فكما جعل الله سبحانه التوبة كفارة للسيئات ?إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ?27، فكذلك شائت رحمته تبارك اسمه أن يعطي الإنسان الفرصة للعيش في حياتين مختلفتين ويكون له فيهما مطلق الحرية في اختيار الطريق الذي يؤدي به إلى الجنة أو إلى النار ، ولعل ذلك تفسير قوله تعالى :?قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ?28، كما جاء في بعض التفاسير .
وفي الأخير هناك من يسأل كيف نسينا بأجمعنا أحداث عالم الذر ولم نعد نذكر منها شيئاً ؟
وفي الواقع نحن لم ننسى تماماً كل ما جرى في عالم الذر ، ففي كثير من الأحيان نلتقي بأشخاص لأول مره فنتذكر أننا رأيناهم من قبل ، وقد نصادف حدث معين أو نمر بمكان ما لأول مره فنحدث أنفسنا أن هذا مر علينا من قبل ، مما يعني بقاء شيء من ذلك في الذاكرة البعيدة ، ثم ان الإنسان كثيراً ما ينسى حوادث معينة حصلت له في عالم الدنيا وربما لم يمضي عليها سوى سنوات قليلة أو أيام معدودة ، فكيف سيذكر الإنسان ما حدث قبل مئات من السنين مع فواصل الموت قبل الحياة الدنيا والإنتقال عبر العوالم المتعددة مثل عالم الأصلاب والأرحام وغيرها ثم الولادة في الدنيا وأحداث الطفولة … ألخ .
ثم انه ليس من الصحيح القول بأن الجميع قد نسى أحداث عالم الذر فهناك من البشر من يتذكر ذلك لحظة بلحظة وموقف موقف وهم الأنبياء والأئمة عليهم السلام فهم الذين أخبرونا عن ذلك العالم وحدثونا عن تفاصيله المختلفة .
ويقول السيد هادي المدرسي حفظه الله تعالى بهذا الشأن إن نسيان الأكثرية لحوادث عالم الذر يرجع في الواقع إلى إختلاف نوعية مقاييس عالمنا الحالي مع نوعية مقاييس عالم الذر ، وإختلاف المقاييس هو بصورة دائمة من عوامل النسيان ..بدليل أن كل إنسان يرى في النوم أحلاماً كثيرة ولكنه ينساها في اليقظة ، لأن مقاييس حالة النوم تختلف عن مقاييس حالة اليقظة ، ولهذا فنحن لا نتذكر إلا 10% فقط من أحلامنا ، وعلى أي حال فأن قصة وجودنا في عالم الذر ستنكشف لنا عندما نرجع مرة ثانية إلى مقاييس ذلك العالم بالموت "فالناس نيام إذا ماتوا انتبهوا "كما جاء في الحديث ، والموت من هذه الجهة مثل اليقظة بعد حلم طويل يكشف للإنسان عن واقعه الذي طالما غفل عنه )29.
وفي الختام نقول أن عالم الذر هو من عوالم الملكوت التي لابد من الإيمان بها ولو على سبيل الإجمال ، وهذا ما أكد عليه الكثير من العلماء أمثال السيد الخوئي (قدس)حيث سُأل :هل صحيح ما يذكر عن عالم الذر ، وكيف هو ؟ فأجاب رحمه الله نعم صحيح أصله على إجماله وغير معلوم تفصيله )30 ، وهذا هو القول الفصل والله العالم والهادي إلى سواء السبيل .
تحيأإأتي