-
- إنضم
- 11 يونيو 2010
-
- المشاركات
- 78
-
- مستوى التفاعل
- 0
-
- النقاط
- 0
-
- العمر
- 35
(زهرة أرجوانية )
استيقظ عم ( فتحي ) الجنائني بحديقة استراحة كبار الزوار الملحقة بالمبني الحكومي الكبير و غادر الحجرة الصغيرة الملحقة و المخصصة لأدوات الحديقة و العامل الذي يرعاها .
اتجه نحو صنبور الماء و أخذ يتوضأ ثم فرش سجادة الصلاة علي أرضية الحديقة بين أحواض الزهور كما يحب دوما و أخذ يصلي في خشوع تام ثم أعقب ذلك بدعاء ذليل لربه كما أبلغه شيخ المسجد بأنه يستحب ذلك دوما في الدعاء.
أخذ يدعو لأولاده المغتربين في الخارج و يسأل الله لهم الخير الوفير ثم أخذ يسأل الله من خير هذا الصباح و أن يرزق الله الأرض التي يعمل بها الخير و البهجة لأنه يحبها و يحب أن يراها دوما في أحسن حال .
فرغ من أداء روتينه الصباحي و ارتدي جلبابه النظيف و عقد عمته المعروفة عن أهل بلدته بشكلها و ربطتها الشهيرة ثم اتجه الي العم ( محروس ) بائع أقراص الطعمية و الذي تبتعد عربته التنقلة عن الحديقة ببضعة شوارع قليلة .
حيا الرجل صاحبه الذي اعتاد دوما أن يبتاع منه منفعا اياه كل صباح تقريبا رافضا أن يحضر افطاره من مكان اّخر معللا ذلك أنه عيبا و خيانة لعشرة عمر كبيرة بينه و بين صاحبه البائع .
جلس الرجل متسامرا مع صاحبه و أذنه مستمتعة بمداعبة صوت الزيت الذي يحدثه وضع عجينة الطعمية به و مذكيا أنفه برائحة أقراص الطعمية الطازجة الخارجة لتوها من اناء القلي .
أخذ الرجل لفافة الطعمية الورقية و بضعة أرغف من الخبز و دفع ثمنها لصاحبه بعد جدال يومي برفض أخذ النقود من العم ( فتحي ) و الذي ينتهي دوما بالحلف و القسم بأغلظ الأيمان أنه لن يأخذ شيئا الا اذا دفع ثمنه كاملا , انتهي الموقف اليومي بالتحية بين الصديقين و انصراف الرجل الي طريقه .
جلس الرجل في الحديقة يأكل في بطء علي أسنانه المتبقية من تساقط معظمها بعد أعوامه الخمس و الخمسون ثم حمد ربه علي نعمته و فضله و بدأ يباشر عمله اليومي في عناية الحديقة .
ذهب الرجل ليري حال الزهرة الأرجوانية الكبيرة و التي ظل يراقبها يوما بعد يوم معتنيا بها مع شقيقاتها في نفس الحوض , لم يري مثلها في حياته كلها و كم أعجبته عندما لا حظها , فاعتني بها عناية فائقة و نمت تلك الزهرة بالذات عن أخواتها في الحجم , و كم كانت دوما تتلألأ وهي تكبر و حبات الندي تغطيها في الصباح , كان يري اعتنائه بها في الأيام الأخيرة ما يستأنس به في وحدته التي فرضتها عليه الظروف و الأيام , يحس بها أحيانا وهي تتراقص و تتمايل في بطء مع النسيم العليل , ظانا بها و كأنها تبتسم له و تداعبه, و أقسم مرارا و تكرارا لنفسه أن بها روحا جليلة وعالية تحس به, ايمانا منه أن النبات يحس و يشعر و له روحا كمثل باقي المخوقات في ملكوت الله.
فرغ من تحية زهرته الشماء علي طريقته و انطلق يقلم بعض أطراف الشجيرات القريبة منها حتي لفت نظره ذلك القادم عليه من البوابة .
_________________________
توقفت السيارة الفاهرة ذات لوحة الأرقام السوداء علي مقربة من بوابة الحديقة و نزل منها رجل فاره الطول وسيم الملامح شعره أسود فاحم غزير به شيبة تركزت في فوديه ما زادته الا وقارا و وسامة , نزل يتحدث في هاتفه المحمول مبتعدا بخطوات قليلة عن سيارته متعمدا ألا يسمع طفله الصغير ما يقول .
جلس الطفل الصغير ناظرا من نافذة السيارة نحو الحديقة المليئة بالأشجار و الورود و لا حت له نفسه و فضول الصغار أن ينزل من السيارة دون أن يدرك أباه ذلك أو يحس به .
و في شقاوة الصغار و لهوهم نزل ببطء شديد و لم يغلق باب السيارة حتي لا يحس به أبيه الذي ولاه ظهره مشغولا بمن يحدثه , فنجح الصغير في فعلته ثم تسلل في خفة ساعدته عليها أقدامه الصغيرة حتي وصل الي الحديقة و دخل اليها , فأخذ يتأمل في ما حوله من ألوان مبهجة و مناظر خلابة كما رأتها عيونه الصغيرة .
رأي مجموعة من الفراشات الصغيرة تحلق أمامه , حاول الامساك بها أكثر من مرة فقفز مرارا و تكرار فلم ينجح , تغيرت ملامح وجهه و سارت عليها غضب طفل مدلل من عدم الاستجابة لمطالبه , لمح خرطوم الماء الموضوع في احدي الأحواض للروي , اتجه نحوه يريد الامساك به لكي يرش به الفراشات .
هنا فقط تحرك العم فتحي مسرعا اليه و نهاه عن ما يريد أن يفعل ثم نظر اليه جديا ليتأكد من ظنونه نحوه عندما راّه أول مرة يدخل من باب الحديقة , نظر اليه الطفل الصغير في ذهول من كلامه اليه و نهيه عن ما يريد فعله فصمت قليلا ثم نظر الي الأرض سامعا كلام الرجل و هو يقول :
- حرام يا ابني دي مخلوقات ربنا برضه خليها تعيش - غلط كده ..
صمت الطفل برهة من الوقت ثم نظر الي الرجل الذي وقف أمامه منتظرا رد فعله حتي لم يجد من الصغير أي بادرة فمضي لكي يكمل عمله , أخذ الصغير ينظر فيما حوله ثم ما لبث أن وقع نظره علي الزهرة الأرجوانية الكبيرة فلمعت عيناه بشدة و وقف ساكنا مواصلا النظر و التحديق فيها في شغف شديد .
لاحظ العم ( فتحي ) نظرات الصغير الي زرعته العزيزة فأصابه القلق من تلك العيون التي تبدو عليها امارات الطمع و صح ظنه عندما سمع الصغير و هو يحدثه مشيرا بيده الي الزهرة :
- عمو أنا عاوز دي - ممكن تقطفهالي ..؟
بادره العم ( فتحي ) قلقا و منزعجا و صار ذلك واضحا في صوته :
- لاء حرام معنديش ورد يتقطف - كده غلط .
لم يعبأ الصغير بكلام الرجل و كأنه لم يسمعه و عيناه لا تتوقفا عن التحديق بالزهرة ثم كرر ما قاله مرة أخري في لهفة شديدة هذه المرة :
- عمو أنا عاوز دي ... أنا عاوزها..
نظر اليه الرجل غاضبا و ازدادت نبرة صوته علوا قائلا :
- قلتلك مفيش ورد بيتقطف - يلا من هنا , روح اتكل علي الله ...
لم يفزع الصغير من صوت الرجل عندما حادثه و انما كان خوفه الحقيقي و اندهاشه من الرفض الذي قابله عند الرجل و الذي كان تقريبا لا يحدث له أبدا عند أحد أو لمطالبه منذ أن عرف للطلب وسيلة .
وقف ساكنا ناظرا الي الرجل في دهشة غريبة , باتت علي ملامح وجهه الصغيرعلامات قدوم البكاء , فاغرورقت عيناه الصغيرتان بالدموع و مضي يجري نحو أبيه الذي كان قد أنهي حديثه التليفوني للتوه .
_________________________
عندما رأي العم ( فتحي ) الطفل الصغير و هو يدخل من باب الحديقة لم يعبأ كثيرا بالأمر لأنه معتاد أن يدخل اليه الأطفال من المدرسة الحكومية الابتدائية القريبة منه و كان منهم المشاغبين و منهم من يحب أن يسلم عليه و أن يسأله شيئا من الماء ليشرب أو ليملأ زمزميته الصغيرة , و كان يعرف بعضهم و يمرح معهم في بعض الأحيان يداعبهم و يداعبوه , بل كان أحيانا يعطيهم شيئا يسيرا من الحلوي التي يحتفظ بها دوما في جيبه لاصابته بمرض السكري .
و لكن هذا الطفل لم يكن مألوفا بالنسبة للأطفال الأخرين فقد كان ناعم المظهر فخم الثياب عليه اّثار نعمة محوظة و اّثار عناية فائقة من أهله و عينين يملؤهما التدليل و في بعض الأحيان البراءة الشديدة المصحوبة بمكر التدليل .
رأي الصغير يحاول الامساك بخرطوم الماء فتحرك عندما عرف مقصده مما رأه مطاردا للفراشات محاولا الامساك بها و دار ما دار بينهما , رأي الصغير يندفع الي الخارج فانصرف لاستكمال عمله حتي مضت لحظات قليلة فرأي الصغير عائدا مع أبيه و ازدادت دهشته عند رؤية الأب , فهو يعرفه جيدا شكلا علي الأقل و سمع عنه كثيرا و جلس في جلسات كان هو محورها و عن أفعاله دوما يتكلمون , فأصابه التوتر و لم يجد شيئا أن يفعله خير من الجري بهدوء و التسلل الي ما وراء تبة صناعية موجودة في الحديقة قبل أن يلاحظوه و حمد الله أن رؤيتهم له لم تتم و أنه رأهم قبل أن يروه , وصل الي غايته علي الفور فجلس القرفصاء و وضع يده علي رأسه هامسا و داعيا الي الله بالستر و الرحمة ...!!
_________________________
عندما جري الصغير ناحية والده و عيناه ممتلئة بالدموع و كست ملامح وجهه الأبيض الحمرة الشديدة , استقبله والده كعادته بصوت عالي و غضب شديد , هكذا كان أسلوبه الغريب في استقبال الأمور الفجائية, فنهره أولا لنزوله من السيارة و شد يده الصغيرة اليه سائل اياه عن ما حدث .
صمت الصغير أولا و نظر الي الأرض في سكون , فمد الأب يده الي ذقن الصغير و رفع بها رأسه في لين ثم ارتفع صوته مرة أخري سائلا اياه عن ما حدث للمرة الثانية .
حكي الصغير لأباه عن ما حدث فغضب الأب قائلا له :
- و أنت بتستأذن أصلا منه ليه ؟ أيوه و الله اّدي الي ناقص , أنت كان المفروض تأخدها علي طول بلا استئذان بلا زفت , تعالي نشوف سعادة الجنايني ده كمان عاوز ايه ..
نظر اليه الطفل في براءة شديدة قائلا :
- بس يا بابا مش ماما قالتلي لما أكون عاوز حاجة أستأذن برضه ..؟؟
نظر الأب الي صغيره في صمت ثم أدار وجهه و أمسك بكفه الصغير ماضيا به نحو الحديقة و هو يغمغم بصوت منخفض :
- ماما و سنين ماما , ما أدي أخرة رباية الستات ...!!!
دخل الرجل الي الحديقة بصحبة الصغير و أخذ ينتقل بنظره من مكان الي أخر يبحث عن ذلك الذي ظن أنه أهان صغيره ثم أخذ ينادي أكثر من مرة فلم يجيبه أحد , بينما تهللت أسارير الصغير عندما وجد المكان خاليا من الرجل , أخذ يحدق بنظره في الزهرة التي يبتغيها و حدث أبيه مشيرا اليها و هو متهلل من الفرحة والشوق الي الحصول عليها الذي رأه قريبا :
- اّهيه يا بابا .. اّهيه .. هي دي بص هناك .. اّهيه ..
تحرك الأب نحو ما يشير اليه ولده و أرخي قبضة يده علي كفه الصغير استعدادا ليتركه منطلقا ليحصل علي مبتغاه و لكن ما أن نظر مليا و رأي ما يدور حول حوض الأزهار حتي عاودت قبضته تلقائيا الاحكام علي يد الصغير الذي نظر الي وجه أبيه في دهشة بعد ما حاول التملص من قبضة يده دون جدوي .
ارتسمت ملامح الجمود الشديد علي وجه الأب عندما رأي سربا صغيرا من النحل يلتف حول حوض الأزهار , فوقف فجأة لمعرفته أنه مريض بحساسية من تلك المخلوقات الصغيرة , و تذكر لحظات المرض التي لم يتحملها جسده القوي و عاني منها كثيرا .
أحكم قبضة يده علي يد ابنه الصغير و بدأ يتراجع الي الخلف تدريجيا متجاهلا مقاومة و صيحات صغيره التي سرعان ما تحولت الي بكاء شديد و طرق للأقدام في الأرض ثم اتجه الي خارج الحديقة و أدخل صغيره الي مقعده في السيارة و صاح به صيحة شديدة مصحوبة بنظرة كان لها مغزي و أدت مردودها بنجاح عند الصغير , فلاذ الأخير بالصمت و الدهشة و نظرات البراءة التي تبحث عن تفسير لكل ما حدث فلم يجد الطفل فعلا الا الانفجار في البكاء و الذي اختلط بصوت محرك السيارة التي اندفعت بقوة مغادرة المكان .
_________________________
كان لوقع صوت محرك السيارة و هي مغادرة علي اّذان العم ( فتحي ) ايذانا له بالتحرك في هدوء و الخروج من مخبأه المؤقت و أخذ يتأكد من المغادرة الفعلية للرجل و ابنه بالنظر السريع في أنحاء الحديقة و مدخلها .
اختلطت عليه علامات الفرح و الدهشة في نفس الوقت عندما رأي أن الزهرة الأرجوانية مازالت موجودة كما هي لم تمس , حمد الله وشكر فضله علي أيا كان ما حدث و اندفع نحوها و أخذ يلمس اوراقها في لين شديد كأنما يتحسس وجودها فعليا .
جلس علي أرضية الحديقة مسترجعا ما حدث محاولا أن يجد تفسيرا واحدا لهذا الستر الذي نزل عليه من الله , ابتسم في شدة و علل لنفسه ما حدث أنه ستر من الله لا يسأل عليه و انما كانت دعواته اليومية وسيلة لبلوغه .
قام فرحا و هو يضحك منتشيا من الفرحة و هو يكرر عبارات الحمد و الشكر لله , لاح علي اّذنه أزيزا بسيطا كان لاعلان مرور سرب نحل صغير بجواره , وقعت عيناه علي ذلك الذي مر من جانبه مرور الكرام و أخذ يتأمله و يراقبه حتي اختفي عن نظره نحو السماء .
استيقظ عم ( فتحي ) الجنائني بحديقة استراحة كبار الزوار الملحقة بالمبني الحكومي الكبير و غادر الحجرة الصغيرة الملحقة و المخصصة لأدوات الحديقة و العامل الذي يرعاها .
اتجه نحو صنبور الماء و أخذ يتوضأ ثم فرش سجادة الصلاة علي أرضية الحديقة بين أحواض الزهور كما يحب دوما و أخذ يصلي في خشوع تام ثم أعقب ذلك بدعاء ذليل لربه كما أبلغه شيخ المسجد بأنه يستحب ذلك دوما في الدعاء.
أخذ يدعو لأولاده المغتربين في الخارج و يسأل الله لهم الخير الوفير ثم أخذ يسأل الله من خير هذا الصباح و أن يرزق الله الأرض التي يعمل بها الخير و البهجة لأنه يحبها و يحب أن يراها دوما في أحسن حال .
فرغ من أداء روتينه الصباحي و ارتدي جلبابه النظيف و عقد عمته المعروفة عن أهل بلدته بشكلها و ربطتها الشهيرة ثم اتجه الي العم ( محروس ) بائع أقراص الطعمية و الذي تبتعد عربته التنقلة عن الحديقة ببضعة شوارع قليلة .
حيا الرجل صاحبه الذي اعتاد دوما أن يبتاع منه منفعا اياه كل صباح تقريبا رافضا أن يحضر افطاره من مكان اّخر معللا ذلك أنه عيبا و خيانة لعشرة عمر كبيرة بينه و بين صاحبه البائع .
جلس الرجل متسامرا مع صاحبه و أذنه مستمتعة بمداعبة صوت الزيت الذي يحدثه وضع عجينة الطعمية به و مذكيا أنفه برائحة أقراص الطعمية الطازجة الخارجة لتوها من اناء القلي .
أخذ الرجل لفافة الطعمية الورقية و بضعة أرغف من الخبز و دفع ثمنها لصاحبه بعد جدال يومي برفض أخذ النقود من العم ( فتحي ) و الذي ينتهي دوما بالحلف و القسم بأغلظ الأيمان أنه لن يأخذ شيئا الا اذا دفع ثمنه كاملا , انتهي الموقف اليومي بالتحية بين الصديقين و انصراف الرجل الي طريقه .
جلس الرجل في الحديقة يأكل في بطء علي أسنانه المتبقية من تساقط معظمها بعد أعوامه الخمس و الخمسون ثم حمد ربه علي نعمته و فضله و بدأ يباشر عمله اليومي في عناية الحديقة .
ذهب الرجل ليري حال الزهرة الأرجوانية الكبيرة و التي ظل يراقبها يوما بعد يوم معتنيا بها مع شقيقاتها في نفس الحوض , لم يري مثلها في حياته كلها و كم أعجبته عندما لا حظها , فاعتني بها عناية فائقة و نمت تلك الزهرة بالذات عن أخواتها في الحجم , و كم كانت دوما تتلألأ وهي تكبر و حبات الندي تغطيها في الصباح , كان يري اعتنائه بها في الأيام الأخيرة ما يستأنس به في وحدته التي فرضتها عليه الظروف و الأيام , يحس بها أحيانا وهي تتراقص و تتمايل في بطء مع النسيم العليل , ظانا بها و كأنها تبتسم له و تداعبه, و أقسم مرارا و تكرارا لنفسه أن بها روحا جليلة وعالية تحس به, ايمانا منه أن النبات يحس و يشعر و له روحا كمثل باقي المخوقات في ملكوت الله.
فرغ من تحية زهرته الشماء علي طريقته و انطلق يقلم بعض أطراف الشجيرات القريبة منها حتي لفت نظره ذلك القادم عليه من البوابة .
_________________________
توقفت السيارة الفاهرة ذات لوحة الأرقام السوداء علي مقربة من بوابة الحديقة و نزل منها رجل فاره الطول وسيم الملامح شعره أسود فاحم غزير به شيبة تركزت في فوديه ما زادته الا وقارا و وسامة , نزل يتحدث في هاتفه المحمول مبتعدا بخطوات قليلة عن سيارته متعمدا ألا يسمع طفله الصغير ما يقول .
جلس الطفل الصغير ناظرا من نافذة السيارة نحو الحديقة المليئة بالأشجار و الورود و لا حت له نفسه و فضول الصغار أن ينزل من السيارة دون أن يدرك أباه ذلك أو يحس به .
و في شقاوة الصغار و لهوهم نزل ببطء شديد و لم يغلق باب السيارة حتي لا يحس به أبيه الذي ولاه ظهره مشغولا بمن يحدثه , فنجح الصغير في فعلته ثم تسلل في خفة ساعدته عليها أقدامه الصغيرة حتي وصل الي الحديقة و دخل اليها , فأخذ يتأمل في ما حوله من ألوان مبهجة و مناظر خلابة كما رأتها عيونه الصغيرة .
رأي مجموعة من الفراشات الصغيرة تحلق أمامه , حاول الامساك بها أكثر من مرة فقفز مرارا و تكرار فلم ينجح , تغيرت ملامح وجهه و سارت عليها غضب طفل مدلل من عدم الاستجابة لمطالبه , لمح خرطوم الماء الموضوع في احدي الأحواض للروي , اتجه نحوه يريد الامساك به لكي يرش به الفراشات .
هنا فقط تحرك العم فتحي مسرعا اليه و نهاه عن ما يريد أن يفعل ثم نظر اليه جديا ليتأكد من ظنونه نحوه عندما راّه أول مرة يدخل من باب الحديقة , نظر اليه الطفل الصغير في ذهول من كلامه اليه و نهيه عن ما يريد فعله فصمت قليلا ثم نظر الي الأرض سامعا كلام الرجل و هو يقول :
- حرام يا ابني دي مخلوقات ربنا برضه خليها تعيش - غلط كده ..
صمت الطفل برهة من الوقت ثم نظر الي الرجل الذي وقف أمامه منتظرا رد فعله حتي لم يجد من الصغير أي بادرة فمضي لكي يكمل عمله , أخذ الصغير ينظر فيما حوله ثم ما لبث أن وقع نظره علي الزهرة الأرجوانية الكبيرة فلمعت عيناه بشدة و وقف ساكنا مواصلا النظر و التحديق فيها في شغف شديد .
لاحظ العم ( فتحي ) نظرات الصغير الي زرعته العزيزة فأصابه القلق من تلك العيون التي تبدو عليها امارات الطمع و صح ظنه عندما سمع الصغير و هو يحدثه مشيرا بيده الي الزهرة :
- عمو أنا عاوز دي - ممكن تقطفهالي ..؟
بادره العم ( فتحي ) قلقا و منزعجا و صار ذلك واضحا في صوته :
- لاء حرام معنديش ورد يتقطف - كده غلط .
لم يعبأ الصغير بكلام الرجل و كأنه لم يسمعه و عيناه لا تتوقفا عن التحديق بالزهرة ثم كرر ما قاله مرة أخري في لهفة شديدة هذه المرة :
- عمو أنا عاوز دي ... أنا عاوزها..
نظر اليه الرجل غاضبا و ازدادت نبرة صوته علوا قائلا :
- قلتلك مفيش ورد بيتقطف - يلا من هنا , روح اتكل علي الله ...
لم يفزع الصغير من صوت الرجل عندما حادثه و انما كان خوفه الحقيقي و اندهاشه من الرفض الذي قابله عند الرجل و الذي كان تقريبا لا يحدث له أبدا عند أحد أو لمطالبه منذ أن عرف للطلب وسيلة .
وقف ساكنا ناظرا الي الرجل في دهشة غريبة , باتت علي ملامح وجهه الصغيرعلامات قدوم البكاء , فاغرورقت عيناه الصغيرتان بالدموع و مضي يجري نحو أبيه الذي كان قد أنهي حديثه التليفوني للتوه .
_________________________
عندما رأي العم ( فتحي ) الطفل الصغير و هو يدخل من باب الحديقة لم يعبأ كثيرا بالأمر لأنه معتاد أن يدخل اليه الأطفال من المدرسة الحكومية الابتدائية القريبة منه و كان منهم المشاغبين و منهم من يحب أن يسلم عليه و أن يسأله شيئا من الماء ليشرب أو ليملأ زمزميته الصغيرة , و كان يعرف بعضهم و يمرح معهم في بعض الأحيان يداعبهم و يداعبوه , بل كان أحيانا يعطيهم شيئا يسيرا من الحلوي التي يحتفظ بها دوما في جيبه لاصابته بمرض السكري .
و لكن هذا الطفل لم يكن مألوفا بالنسبة للأطفال الأخرين فقد كان ناعم المظهر فخم الثياب عليه اّثار نعمة محوظة و اّثار عناية فائقة من أهله و عينين يملؤهما التدليل و في بعض الأحيان البراءة الشديدة المصحوبة بمكر التدليل .
رأي الصغير يحاول الامساك بخرطوم الماء فتحرك عندما عرف مقصده مما رأه مطاردا للفراشات محاولا الامساك بها و دار ما دار بينهما , رأي الصغير يندفع الي الخارج فانصرف لاستكمال عمله حتي مضت لحظات قليلة فرأي الصغير عائدا مع أبيه و ازدادت دهشته عند رؤية الأب , فهو يعرفه جيدا شكلا علي الأقل و سمع عنه كثيرا و جلس في جلسات كان هو محورها و عن أفعاله دوما يتكلمون , فأصابه التوتر و لم يجد شيئا أن يفعله خير من الجري بهدوء و التسلل الي ما وراء تبة صناعية موجودة في الحديقة قبل أن يلاحظوه و حمد الله أن رؤيتهم له لم تتم و أنه رأهم قبل أن يروه , وصل الي غايته علي الفور فجلس القرفصاء و وضع يده علي رأسه هامسا و داعيا الي الله بالستر و الرحمة ...!!
_________________________
عندما جري الصغير ناحية والده و عيناه ممتلئة بالدموع و كست ملامح وجهه الأبيض الحمرة الشديدة , استقبله والده كعادته بصوت عالي و غضب شديد , هكذا كان أسلوبه الغريب في استقبال الأمور الفجائية, فنهره أولا لنزوله من السيارة و شد يده الصغيرة اليه سائل اياه عن ما حدث .
صمت الصغير أولا و نظر الي الأرض في سكون , فمد الأب يده الي ذقن الصغير و رفع بها رأسه في لين ثم ارتفع صوته مرة أخري سائلا اياه عن ما حدث للمرة الثانية .
حكي الصغير لأباه عن ما حدث فغضب الأب قائلا له :
- و أنت بتستأذن أصلا منه ليه ؟ أيوه و الله اّدي الي ناقص , أنت كان المفروض تأخدها علي طول بلا استئذان بلا زفت , تعالي نشوف سعادة الجنايني ده كمان عاوز ايه ..
نظر اليه الطفل في براءة شديدة قائلا :
- بس يا بابا مش ماما قالتلي لما أكون عاوز حاجة أستأذن برضه ..؟؟
نظر الأب الي صغيره في صمت ثم أدار وجهه و أمسك بكفه الصغير ماضيا به نحو الحديقة و هو يغمغم بصوت منخفض :
- ماما و سنين ماما , ما أدي أخرة رباية الستات ...!!!
دخل الرجل الي الحديقة بصحبة الصغير و أخذ ينتقل بنظره من مكان الي أخر يبحث عن ذلك الذي ظن أنه أهان صغيره ثم أخذ ينادي أكثر من مرة فلم يجيبه أحد , بينما تهللت أسارير الصغير عندما وجد المكان خاليا من الرجل , أخذ يحدق بنظره في الزهرة التي يبتغيها و حدث أبيه مشيرا اليها و هو متهلل من الفرحة والشوق الي الحصول عليها الذي رأه قريبا :
- اّهيه يا بابا .. اّهيه .. هي دي بص هناك .. اّهيه ..
تحرك الأب نحو ما يشير اليه ولده و أرخي قبضة يده علي كفه الصغير استعدادا ليتركه منطلقا ليحصل علي مبتغاه و لكن ما أن نظر مليا و رأي ما يدور حول حوض الأزهار حتي عاودت قبضته تلقائيا الاحكام علي يد الصغير الذي نظر الي وجه أبيه في دهشة بعد ما حاول التملص من قبضة يده دون جدوي .
ارتسمت ملامح الجمود الشديد علي وجه الأب عندما رأي سربا صغيرا من النحل يلتف حول حوض الأزهار , فوقف فجأة لمعرفته أنه مريض بحساسية من تلك المخلوقات الصغيرة , و تذكر لحظات المرض التي لم يتحملها جسده القوي و عاني منها كثيرا .
أحكم قبضة يده علي يد ابنه الصغير و بدأ يتراجع الي الخلف تدريجيا متجاهلا مقاومة و صيحات صغيره التي سرعان ما تحولت الي بكاء شديد و طرق للأقدام في الأرض ثم اتجه الي خارج الحديقة و أدخل صغيره الي مقعده في السيارة و صاح به صيحة شديدة مصحوبة بنظرة كان لها مغزي و أدت مردودها بنجاح عند الصغير , فلاذ الأخير بالصمت و الدهشة و نظرات البراءة التي تبحث عن تفسير لكل ما حدث فلم يجد الطفل فعلا الا الانفجار في البكاء و الذي اختلط بصوت محرك السيارة التي اندفعت بقوة مغادرة المكان .
_________________________
كان لوقع صوت محرك السيارة و هي مغادرة علي اّذان العم ( فتحي ) ايذانا له بالتحرك في هدوء و الخروج من مخبأه المؤقت و أخذ يتأكد من المغادرة الفعلية للرجل و ابنه بالنظر السريع في أنحاء الحديقة و مدخلها .
اختلطت عليه علامات الفرح و الدهشة في نفس الوقت عندما رأي أن الزهرة الأرجوانية مازالت موجودة كما هي لم تمس , حمد الله وشكر فضله علي أيا كان ما حدث و اندفع نحوها و أخذ يلمس اوراقها في لين شديد كأنما يتحسس وجودها فعليا .
جلس علي أرضية الحديقة مسترجعا ما حدث محاولا أن يجد تفسيرا واحدا لهذا الستر الذي نزل عليه من الله , ابتسم في شدة و علل لنفسه ما حدث أنه ستر من الله لا يسأل عليه و انما كانت دعواته اليومية وسيلة لبلوغه .
قام فرحا و هو يضحك منتشيا من الفرحة و هو يكرر عبارات الحمد و الشكر لله , لاح علي اّذنه أزيزا بسيطا كان لاعلان مرور سرب نحل صغير بجواره , وقعت عيناه علي ذلك الذي مر من جانبه مرور الكرام و أخذ يتأمله و يراقبه حتي اختفي عن نظره نحو السماء .