همسآت شرقية
طاقم الادارة
الحياة إرادة وجهاد ، لا يثبت في ميدانها إلا القوي والصبور ، كما أن الريح تهب في قوة ولا ترتد عن الوعورة وركوب الأخطار وتسلق القمم ، كذلك يجب على الإنسان أن يكون جريئا ، صامدا في وجه الشدائد ، طموحا إلى العلا ، لأن الأرض نفسها تكره الجبناء المتراخين عن تطلّب القمم ، فما بالك بالذين يرضون بالذل والاستعمار .
تلك هي إرادة الحياة والتي ساقها الشاعر التونسي الكبير أبو القاسم الشابي في إحدى أشهر قصائده المنادية بالحرية والثورة والحياة .
قصيدة إرادة الحياة
إذا الشـــعبُ يومًــا أراد الحيــاة * فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ
ولا بــــدَّ لليـــل أن ينجـــلي * ولا بــــدّ للقيـــد أن ينكســـرْ
ومــن لــم يعانقْـه شـوْقُ الحيـاة * تبخَّـــرَ فــي جوِّهــا واندثــرْ
كـــذلك قــالت لــيَ الكائنــاتُ * وحـــدثني روحُهـــا المســـتترْ
ودمــدمتِ الــرِّيحُ بيــن الفِجـاج * وفــوق الجبــال وتحـت الشـجرْ
إذا مـــا طمحــتُ إلــى غايــةٍ * ركــبتُ المُنــى, ونسِـيت الحـذرْ
ولــم أتخوف وعــورَ الشِّـعاب * ولا كُبَّـــةَ اللّهَـــب المســـتعرْ
ومن لا يحب صعود الجبال * يعش أبَــدَ الدهــر بيــن الحــفرْ
فعجَّــتْ بقلبــي دمــاءُ الشـباب * وضجَّــت بصـدري ريـاحٌ أخَـرْ
وأطـرقتُ أصغـي لعزف الرياح * وقصف الرعود ووقع المطر
وقـالت لـي الأرض لما تساءل * تُ : يا أمي هل تكرهين البشر ؟
أُبــارك فـي النـاس أهـلَ الطمـوح * ومــن يســتلذُّ ركــوبَ الخــطرْ
وألْعــنُ مــن لا يماشــي الزمـانَ * ويقنـــع بــالعيْشِ عيشِ الحجَــرْ
هــو الكــونُ حـيٌّ يحـبُّ الحيـاة * ويحــتقر المَيّت المندثر
فـلا الأفْـق يحـضن ميْـتَ الطيـور * ولا النحــلُ يلثــم ميْــتَ الزهـرْ
ولــولا أمُومــةُ قلبِــي الــرّؤوم * لفرّت عن الميت تلك الحفر
فــويلٌ لمــن لــم تشُــقه الحيـا * ة مِــن لعنــة العــدم المنتصِـرْ
وفــي ليلــة مـن ليـالي الخـريف * مثقَّلـــةٍ بالأســـى والضجـــرْ
سـألتُ الدُّجـى : هـل تُعيـد الحيـاةُ * لمـــا أذبلتــه ربيــعَ العمــرْ ؟
فلـــم تتكـــلّم شــفاه الظــلام * ولــم تــترنَّمْ عــذارى السَّــحَرْ
وقــال لــيَ الغــابُ فــي رقَّـةٍ * مُحَبَّبَـــةٍ مثــل خــفْق الوتــرْ
يجــئ الشــتاءُ شــتاء الضبـاب * شــتاء الثلــوج شــتاء المطــرْ
فينطفــئُ السِّـحرُ سـحرُ الغصـونِ * وســحرُ الزهــورِ وسـحرُ الثمـرْ
ويفنــى الجــميعُ كحُــلْمٍ بــديعٍ * تـــألّق فـــي مهجــةٍ واندثــرْ
وتبقــى البــذورُ, التــي حُـمِّلَتْ * ذخــيرةَ عُمْــرٍ جــميلٍ, غَــبَرْ
وحالمـــةً بأغـــاني الطيـــورِ * وعِطْــرِ الزهــورِ وطَعـمِ الثمـرْ
ورنَّ نشـــيدُ الحيـــاةِ المقـــدّ * سُ فــي هيكـلٍ حـالمٍ قـد سُـحِرْ
وأعْلِــنَ فــي الكـون : أنّ الطمـوحَ * لهيـــبُ الحيــاةِ ورُوحُ الظفَــرْ
إذا طمحـــتْ للحيـــاةِ النفــوسُ * فــلا بــدّ أنْ يســتجيبَ القــدر
مصدر قصيدة إرادة الحياة
قصيدة ‘ إرادة الحياة ‘ هي للشاعر التونسي الكبير أبو القاسم الشابي الذي قضى حياته القصيرة كالشمعة ، تنير لغيرها وتحترق هي بالنار ، وللاطلاع على سيرة حياته فقد خصصنا موضوعا مفصلا وممتعا على الرابط أسفله :
معلومات عن الشاعر أبو القاسم الشابي : طائر تونس الحر الخالد
وقصيدته التي بين أيدينا هي من ديوانه ‘ أغاني الحياة ‘ نظمها في 16 سبتمبر سنة 1933 ، وهي من البحر المتقارب ، وهو بحر يصلح للسرد والتعبير عن العواطف الجياشة ، وهذا ظاهر وجلي في أبيات القصيدة . وقد حاولنا أن نختصر قدر الإمكان بعض أبيات القصيدة لطولها
شرح بعض الكلمات
– دمدم : تكلم وهو غاضب .
– الفجاج : الطريق الواسع بين جبلين .
– وعور الشعاب : ما عظم من سواقي الأودية .
– كبة اللهب : معظم النار .
الرؤوم : الأم التي تعطف على ولدها .
تحليل و شرح قصيدة إرادة الحياة
عرفنا في الموضوع الذي تناول حياة الشاعر أبي القاسم الشابي أنه عاش لأجل مبادئ الثورة والحياة الكريمة ، فكان حريصا على نشر الوعي والقيم الوطنية بين أبناء وطنه ، وحثهم على الثورة ضد المستعمر ، وضد الجهل والتخلف ، وقصيدته ‘ إرادة الحياة ‘ ما هي إلا مثال حي وعنوان عريض تتجلى فيه شخصية الشاعر الطموحة الثائرة .
إذا الشـــعبُ يومًــا أراد الحيــاة * فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ
ولا بــــدَّ لليـــل أن ينجـــلي * ولا بــــدّ للقيـــد أن ينكســـرْ
بيتان يفتتح بهما الشاعر قصيدته ، حيث أكسبا قصيدته من الشهرة والصيت ما بقي أبد الدهر ولم يندثر ، حيث تغنى به الثوار منذ الاستعمار في تونس وإلى يومنا هذا .
يربط الشاعر تحرر أي أمة ونجاتها بعزيمتها وإرادتها في التغيير ، هذا التغيير يلزمه إيمان ويقين ودعاء ، وكأن مفهوم القدر هنا ينطبق على قوله تعالى : ‘ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ‘ ( الرعد 11 ) .
بعدها يظهر الشاعر حكيما يخاطب الكائنات ويصغي لهمسات الطبيعة ، التي تدعو إلى الأمل والتفاؤل والسعي إلى استعادة أمجاد الأمة ، فلعب دور الطبيب المشخص للداء وفي الوقت نفسه وصف العلاج والدواء ، وهذا أسلوب عاطفي يلامس القلوب قبل العقول ، مثلما فعل الشاعر إيليا أبو ماضي في قصيدته ابتسم .
كـــذلك قــالت لــيَ الكائنــاتُ * وحـــدثني روحُهـــا المســـتترْ
ودمــدمتِ الــرِّيحُ بيــن الفِجـاج * وفــوق الجبــال وتحـت الشـجرْ
إذا مـــا طمحــتُ إلــى غايــةٍ * ركــبتُ المُنــى, ونسِـيت الحـذرْ
ولــم أتخوف وعــورَ الشِّـعاب * ولا كُبَّـــةَ اللّهَـــب المســـتعرْ
ومن لا يحب صعود الجبال * يعش أبَــدَ الدهــر بيــن الحــفرْ
شتاء يحمل يأسا وربيع يحمل أملا
ويبدع الشاعر في تصوير الحياة التي يعيشها شعبه ، فهي كخريف جاف كئيب يعقبه شتاء بارد شديد ، ويقصد به المستعمر .
وفــي ليلــة مـن ليـالي الخـريف * مثقَّلـــةٍ بالأســـى والضجـــرْ
سـألتُ الدُّجـى : هـل تُعيـد الحيـاةُ * لمـــا أذبلتــه ربيــعَ العمــرْ ؟
فلـــم تتكـــلّم شــفاه الظــلام * ولــم تــترنَّمْ عــذارى السَّــحَرْ
وقــال لــيَ الغــابُ فــي رقَّـةٍ * مُحَبَّبَـــةٍ مثــل خــفْق الوتــرْ
يجــئ الشــتاءُ, شــتاء الضبـاب * شــتاء الثلــوج شــتاء المطــرْ
فينطفــئُ السِّـحرُ سـحرُ الغصـونِ * وســحرُ الزهــورِ وسـحرُ الثمـرْ
لكن من رحم المعاناة والقهر ينبثق شعاع من الأمل الذي يحيى في البذور التي طمرتها سيول الأمطار العارمة ، فينبت جيل جديد من الثوار الذين يحيون أمجاد الأمة ، ويعيدون لها حريتها . وخلال ذلك يحدث صراع داخلي بين أنا الشاعر وذكرياته ، فلطالما حلم بحياة كريمة تقوم على الحرية والعدل والكرامة ، لكن بوجود ظلام المستعمر فقد بدّد جمالية هذه الأحلام وحوّلها إلى كوابيس وآلام شديدة ، زادها مرض الشاعر الذي أحاطه بهالة من التشاؤم .
لذا نراه يكثر من أسلوب الاستفهام ، وكأني به يربط الماضي بحاضر مجهول ومستقبل أكثر منه غموضا وعبر عنه الشاعر بكلمة ظمأ .
ظمِئـتُ إلـى النـور فـوق الغصونِ * ظمِئـتُ إلـى الظـلِ تحـت الشـجرْ
ظمِئـتُ إلـى النَّبْـعِ بيـن المـروجِ * ظمِئـتُ إلـى الظـلِ تحـت الشـجرْ
ظمِئـتُ إلـى الكـونِ ! أيـن الوجـودُ * وأنَّـــى أرى العــالَمَ المنتظــرْ ؟
ثم يقول الشاعر :
هـو الكـونُ خـلف سُـباتِ الجـمودِ * وفـــي أُفــقِ اليقظــاتِ الكُــبَرْ
إرادة حياة نابعة من أعماق الشاعر
لا بد عزيزي القارئ وأنت تقرأ هذه الأبيات الرائعة ، تلامس الشوق الشديد للشاعر وحنينه لأمجاد وطنه وشعبه ، والبيت الذي بين أيدينا يوضح ذلك وبقوة ، فبالرغم من صراع التشاؤم والأمل ، الشك واليقين ، إلا أنه متأكد أن الأصل دائما ينتصر ويعلو ، لأن تاريخ شعبه راسخ وضارب في الأصالة والقدم ، و لن تستطيع يد الاستعمار أن تئده في ليلة عاتمة .
ولأن أي سبات عميق تعقبه يقظة ونهوض ، وأي جمود وركون تعقبه حركة ونشاط ، فإن الشاعر ينتظر اليقظة الكبرى والتي آثر أن يصيغها جمعا ( اليقظات ) ، لأن القضية قضية شعب بأكمله ، والجمع عصا لا تكسر ، والوحدة قوة لا تقهر ، وعليها يخيب كيد المستعمر .
وفي ختام قصيدته يعود ويكرر الحقيقة التي لا تحجبها أي شمس ، وهي أن أساس مجد أي أمة ، وطبيعة تقدمها ، هي إرادة قوية في التحرر والثورة على الظلم والاستعباد ، ويظهر أسلوب التكرار جليا في كلمة ‘ الحياة ‘ والتي تكررت في القصيدة خمس عشرة مرة ، كما تفوقت على كلمة الموت في ديوانه ككل ، وهذا دليل على تشبت الشاعر بالأمل والحياة ، بالرغم من نظرته التشاؤمية التي طالت حياته .
كما لجأ الشاعر في قصيدته إلى أسلوب التضاد لتصوير مدى الإضطراب الذي تعانيه النفس فيما يعتريها من أهوال وخطوب ، وهذا ظاهر في ألفاظه : ( تنمو – تذوي ) ، ( الحياة – الموت ) ، ( أبارك – ألعن ) ، ( فوق – تحت ) .
خاتمة
رحل أبو القاسم الشابي عن الحياة تاركا وراءه قصيدة تدعو إلى إرادة الحياة ، فمعه كانت الحياة ثمرة عطاء دائم ومتجدد ، وكان الشعور بها مصدر إلهام فجّر لديه مكامن الإبداع التي أثرت الحركة الأدبية المعاصرة في تونس .
قصيدة طبعت في قلوب الثائرين الأحرار ، الناشدين للأمل والعيش الكريم ، النابذين لكل تعسف وقمع واستبداد ، ولعمري أنها قصيدة وصلت الماضي بالحاضر ومنه للمستقبل ، وانتهت بحكمة بليغة وهي أن استجابة القدر رهينة بالشعب الذي يملك إرادة الحياة .
إذا طمحـــتْ للحيـــاةِ النفــوسُ * فــلا بــدّ أنْ يســتجيبَ القــدر
التعديل الأخير بواسطة المشرف: