سوار
الإدارة العامة
في مساء يوم شتوي بارد مطير، والسحب السوداء تملأ السماء وتغطي
قمم الجبال.. وتخفي قرص الشمس في أقصى الأفق لحظة الغروب..
وقف البلبل الغريد على طرف غصن في أعلى شجرة من الأشجار الباسقة التي تملأ الغابة..
لم يكن البلبل مستعداً للغناء.. كان يقف صامتاً يتأمل مشهد العتمة والضوء الخافت لحظة رحيله..
فجأة خرجت من بين الأغصان المتشابكة المتصلبة من البرد دودة صغيرة.. يختلط لونها بلون الشجر..
وقد غسلها ماء المطر.. فهي نادراً ما تخرج من بيتها في هذا الوقت خوفاً من البرد وحرصاً على حياتها..
قالت الدودة للبلبل: "منذ أيام وأنا أراقبك من بيتي القريب أيّها البلبل الحزين.. ما بك؟؟ لماذا تظل صامتاً لا تغني
في مثل هذا الوقت من كل يوم؟! عندما أراك قرب بيتي أفرح.. وأنتظر سماع غنائك العذب الجميل.. أنتظر طويلاً.. وتظل صامتاً"..
نظر البلبل إليها نظرة دامعة.. لكنه لم يجب على سؤالها.. تنهد تنهيدة عميقة.. وكأنه يخرج الهواء من
أعماق قلبه.. ثم التفت من جديد حيث كان ينظر.. وراح يتأمّل الأفق البعيد بصمت.. حيث لا يرى غير الظلام..
اقتربت منه الدودة الخضراء وقالت: "أنت تحزن يا صديقي في هذا الوقت من
كل مساء لذهاب يوم من أيام عمرك القصير.. أليس كذلك؟".
هز البلبل الحزين رأسه.. فهو يعرف قيمة الحياة وقيمة الوقت، لأنّ حياته قصيرة ولا يعيش طويلاً.. ويعرف
أهمية صوته عند سكان الغابة من الطيور والحشرات والحيوانات البرية المختلفة.. وحتى وحوش الغابة تحب صوته الجميل..
اقتربت الدودة الحكيمة أكثر.. وكانت كبيرة في السن.. وقالت بصوتها الناعم اللطيف: أرى أنّ عليك أن
تحزن أكثر يا ولدي لسبب آخر.. لأنّ حزنك هذا يمنعك عن الغناء ونشر البهجة في أنحاء الغابة بين سكانها وأشجارها وأزهارها..
نظر البلبل إليها من جديد.. لم يفهم ما الذي تقصد الدودة أن تقوله.. وكان في عينية علامات استفهام كبيرة.. لكنه ظل صامتاً.. كعادته في هذا الوقت من كل يوم..
اقتربت الدودة شيئاً قليلاً حتى أصبحت قريبة من طرف الغصن الذي يقف عليه البلبل.. فانحنى الغصن.. واهتز..
كاد البلبل يفقد توازنه ويقع.. لكنه حرك جناحيه.. وأمسك بطرف الغصن بقوة وصار يتأرجح في الهواء
والدودة تتأرجح معه وقد بدت عليه علامات الخوف.. حتى ثبت الغصن من جديد..
ضحكت الدودة من أعماق قلبها.. ثم قالت للبلبل وقد اصفرّ وجهه: "أرأيت؟! أنت تحب الحياة أيها البلبل حتى
في هذا الوقت الذي يحزنك.. فاسعد يا صديقي بكل أوقات الحياة.. واسعد الجميع من حولك.. ولا تستسلم للحزن.. فغداً يوم جديد"..
التفت البلبل إليها وقد هدأ خوفه وعادت الابتسامة تعلو وجهه الجميل... وقال: "صدقت أيها الدودة الحكيمة
أعدك أني لن أتوقف عن الغناء بعد اليوم.. وسأظل أغني وأغني.. إلى أن أعجز عن الغناء" صاحت الدودة بفرح بصوت
عال جداً غير معتاد من دودة مثلها حتى سمعها كل سكان الغابة، وقالت: "شكراً أيها الجميل.. شكراً.. فكلنا في الغابة نحبك ونحب صوتك"..
علمت حيوانات الغابة بهذا الحوار.. فراحت تقصُّ على أبنائها هذه الواقعة.. وكان يرويها
جيل بعد جيل.. حتى أصبحت اليوم قصة من أشهر قصص الغابات..
التعديل الأخير بواسطة المشرف: