-
- إنضم
- 29 ديسمبر 2009
-
- المشاركات
- 137
-
- مستوى التفاعل
- 3
-
- النقاط
- 0
-
- العمر
- 38
نعم يا أمي ..
أنا الآن أعيش بغربة لا يعلمها إلا الله وحده .. جلَّ جلاله ..
صرتُ أشعر بغربة كبيرة يا أمي كلما ورد أمامي ذكر ( الوالدين ) ..
وأشعر بغربة أشد كلما ورد ذكر ( الأم ) بالذات ..
كأنني يا أمي لا أنتمي إلى هذا العالـَم ..
كأنني من عالـَم ٍ آخر ليس من هذا العالـَم ..
أصبحتُ يا أمي أشعر وكأن الناس في هرج ٍ ومرج .. وأنا وسط الأحزان ..
أصبحتُ أشعر بوحدة قاتلة .. ووحشة رهيبة .. تضيق بي الأرض على سعتها وتخنقني الآلام ..
لا تلوميني يا أمي إن وجدتِّ فيَّ شوقاً للخروج من هذا العالـَم ..
لا تعتبي عليَّ إن رأيتِني أتلهـَّف للهروب من هذا الواقع ..
ولكنني ما ألبث يا أمي أن أتذكـَّر حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين قال :
" لا يتمنـَّينَّ أحدكم الموت لضرٍّ أصابه .. فإن كان لابدَّ فاعلا فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي .. وتوفـَّني إذا كانت الوفاة خيراً لي "
فأعود إلى رشدي وصوابي خوفاً من غضب ربي عليّ .. وأسلـِّم أمري إليه – جلَّ جلاله - وأقول ما علـَّمـَنا إياه حبيبنا وأسوتنا صلوات ربنا وسلامه عليه ..
لذلك يا أمي تجدينني بين هذين الشعورين المختلفـَيـْن المتناقضـَيْن .. شعور الرغبة بالخروج من هذا العالـَم .. وشعور الخوف من وقوع الحقيقة التي لا مفرَّ منها .. تلك الحقيقة التي اسمها ( الموت ) .. فأزداد بهذين الشعورين حزناً على حزن وكآبة على كآبة .... ولكن أنـَّى لي إذا جاء أجلي أن أؤخـِّر ذلك ساعة أو أستقدمها ..
لكنني في الوقت ذاته يا أمي .. أنا على أحرِّ من الجمر لاحتضانك وتقبيلك ..
فكيف لي يا أمي أن أجمع بين هذين الشعورين المتناقضين المؤلمـَيـْن ؟؟..
هل أحدٌ غير الله تعالى يعلم النار التي تشتعل بين ضلوعي وتكتوي بها أحشائي ؟؟..
كثيراً ما أتساءل يا أمي بيني وبين نفسي .. لماذا نحن نخاف من الموت ؟؟.. لماذا نحن نكره الموت ؟؟..
لماذا نتقبـَّل أمراً اسمه ( الولادة ) .. بل ونسعى إليه ونفرح به .. ونخشى وقوع الأمر الذي ينهي حدث الوجود وحدث الولادة والذي اسمه ( الموت ) .. بل ونكرهه ونهرب منه .. رغم أنهما أمران مقترنان معاً .. إذا حدث الأول لابدَّ أن يحدث الثاني ..
لماذا نـُفاجأ بالموت رغم علمـِنا ويقينـِنا بأننا ما جئنا إلى هذه الحياة التي اسمها ( الدنيا ) إلا على هذا المبدأ وعلى هذا الأساس .. لماذا إذاً نحن نحزن مما ننتظره ونتوقـَّعه ؟؟..
هل لأن الموت انقطاعٌ عن ملذات الحياة الدنيا .. ونحن فيها غارقون ؟؟..
أم لأنه في عـُرف البعض - خطأ ً - أنه الفناء .. والناس للفناء كارهون ؟؟..
أم لأنه مواجهة ٌ للأمر المحتوم الذي نحن جميعاً نفرُّ منه ونخاف من مواجهته وهو ( الحساب ) .. وجميعنا من الحساب خائفون ..
أعلم يا أمي أنَّ ما من أمٍّ إلا وهي أغلى من الروح بالنسبة لأبنائها..
أدرك أن فراق كلِّ أمٍ أصعب من فراق الروح عن الجسد على ابنائها,,
نعم يا أمي أعرف ذلك ..
لكنني أعجب يا أمي كل العجب ممن يتحدث عن أمه المتوفاة بشكل ٍ اعتيادي .. وكأنها قد أصبحت ذكرى من الذكريات ..
أدهش ممن يأتي على ذكر أمِّه الراحلة دون أي تأثـُّر أو إحساس ٍ بالفراق ..
هل حقاً تصبح الأمُّ مجرد ذكرى عابرة .. يتذكرها الابناء.. بين الفينة والأخرى ؟؟..
هل يمكن فعلاً أن يصير فقد الأمِّ عند الأبناء.. أمراً اعتيادياً .. يفقد فيه كل أنواع المرارة ؟؟
أم أن قوة الإيمان بالله تعالى عند ابنائها.. يا أمي هي التي تتحكـَّم بردَّة فعلهم عند حديثهم عن أمِّهم ..
هل يا تـُرى قد صار عليَّ أن أعيد حساباتي في إيماني بالله تعالى وتسليمي لإرادته وحـُكمه ؟؟..
هل صار عليَّ أن أراجع نفسي في يقيني وثقتي بحكمة الله تعالى في قضائه وقدَره ؟؟..
لكنني لا أريد أن أصير مثلهم يا أمي ..
لا أريد أن يصير فقدي لك عندي كذلك يا أمي ..
لا أريدك أن تصبحي عندي مجرَّد طيفٍ عابر ٍ يحوم في خيالي ثم يختفي ..
لا أريدك أن تصيري بالنسبة لي شيئاً من الماضي أتذكـَّره ثم يزول من خاطري وينتهي ..
لا .. لا أريدك أن تصيري عندي كذلك .. وأدعو الله تعالى ألا تصيري كذلك ..
ليس عدم تسليم ٍ مني للأمر الواقع .. معاذ الله يا أمي ..
وليس عدم رضىً مني بأمر ٍ قد قدَّره الله عليَّ وليس له دافع .. لا و الله يا أمي ..
إنما لأنني أريدكِ أن تبقي حيـَّة ً في قلبي وكأنك لم ترحلي ..
أريدك أن تبقي ملازمة ً لي في عالم الذكريات ولا تفارقيني ..
أريد أن تستمرَّ الحياة عندي وأنتِ معي .. وهذا ليس بالمستحيل .. حتى ألقى وجه ربي ..
لا أريد أن أشعر بأن تلك الجوهرة الغالية التي كانت بين يديَّ والتي اسمها ( أمي ) قد ضاعت مني واختفت ..
أحبُّ أن يبقى الشعور عندي بأن تلك الجوهرة الحبيبة الغالية لا تزال ساكنة في قلبي لم تغادره ولن تغادره أبدا ..
هذه اللؤلؤة المكنونة سأحتفظ بها – إن شاء الله السميع العليم – في قلبي .. إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا ..
نعم يا أمي ..
نعم يا أمي .. قد كنت ُ بين يديكِ طفل .. فماذا كانوا يتوقـَّعون من هذه الطفل الكبير ؟؟..
ماذا كانوا يريدون ممن أودعت روحها بين أكفان أمها .. وفقدت كل معنى للحياة عند وداعها لها ؟؟..
ربما أعذرهم يا أمي لأنهم لم يعلموا أنكِ قد كنتِ لي كالروح في الجسد والحياة في الجسم .. فانسلَّ من جسمي هذا الخيط .. خيط الحياة .. بفقدك يا أمي ..
حياة الفرح بوجودكِ قربي ..
حياة الغبطة والسرور بنيل دعواتِك وكسب رضاكِ ..
حياة السعادة بسماع ضحكاتكِ ..
صحيحٌ يا أمي أن الحياة الفعلية ما زالت تدبُّ في جسمي .. وأن الروح بمعناها المألوف ما زالت عالقة في جسدي ..
نعم .. ولكن هل الحياة فقط هواءٌ يدخل إلى الجسم ثم يخرج منه ؟؟..
هل الروح مجرد خفقان قلبٍ ينبض ويسري فيه الدم ؟؟..
لا .. لا أعتقد يا أمي أن هذا هو معنى الحياة ..
الحياة يا أمي اندماجٌ مع الناس والتعايش معهم .. وهذا ما أفتقده غصباً عني ..
الحياة كسرٌ للعزلة وتركٌ لعيش الغربة والوحدة .. وهذا ما أفتقر إليه عن غير إرادةٍ مني ..
.
ما كنت ُ أعلم أنني سأعاني ما أعانيه الآن لفراقك إيانا ..
ما كنتُ أتوقـَّع أنك ستتركين هذا الفراغ الكبير برحيلك عنا ..
أتخيـُّلكِ يا أمي - وقد ضمـَّتكِ الأرض بين حناياها وطواكِ التراب ..
أتخيـُّلك والمسافة بيني وبينكِ بضعة أمتار .. لكنها حواجز كبيرة وحجب كثيفة لا تقدَّر بقياس المسافات .. فيزيد ذلك من كربتي وحزني .. ويزداد عليَّ همـِّي وغمـِّي ..
لكنني أتذكـَّر فوراً حبيب الله تعالى صلوات ربنا وسلامه عليه .. وأتفكـَّر – كما قلت ُ يا أمي – في سنـَّة الله في خلقه أجمعين .. فأوقن أن الرحمة كل الرحمة في سنـَّة الله تعالى التي لن أجد لها تبديلا .. ولن أجد لها تحويلا .. وأوقن أن ذلك ما هو إلا لإكرام الله تعالى لعباده وحبه لهم .. فإكرام الميـِّت دفنه يا أمي ..
فإذا كان حبيب الله تعالى .. والذي ما خـُلـِقت الدنيا إلا لأجله .. قد ضمـَّته أرضٌ - هي أطهر أرض – وطواه الثرى – هو أكرم تراب وأغلى ثرىً - .. فلا عجب يا أمي أن يكون الأمر ذاته في بقية خلق الله .. ثم من بعدكِ نحن جميعاً لكِ لاحقون ..
ولكن ..
عفواً عفواً يا أمي .. قد قلتُ أنه بيني وبينكِ حواجز وحجب ..
قد قلتُ أنه تفصلني عنك مسافات ..
لكن لا .. لا لا .. أعتذر منكِ يا أمي .. أعتذر منكَ يا حبيبتي .. فليس بيني وبينكِ أي حواجز أو حجب ..
ليس بيني وبينكِ أي مسافات ..
بيني وبينك شغاف قلبٍ فقط لا أكثر .. أنتِ في القلب وأنا خارجه..
أعلم يا أمي أن حـُسن الخاتمة مرهونٌ أولاً وقبل كل شيء بالرضا عن الله تعالى .. وهذا ما لا أقرِّره بنفسي .. ولا أعرف ما هو الحكم فيه عليَّ من عند ربي..
لو كان حـُسن الخاتمة يشترى بشيء يا أمي لدفعنا ثمناً له المهج والأرواح ..
لو كان حـُسن الخاتمة يـُباع ويـُشترى لقدَّمنا من أجل ذلك الغالي والنفيس ..
لكنه فضلٌ وإنعام لا يؤتيه الله إلا لمن هو له أهل .. ويحرمه عمـَّن لم تسبق له العناية منه - عزَّ جاره –
فليت شعري .. من أيِّ الفريقين أنا يا إلهي ؟؟.
يا رب ..
أنت قلتَ في كتابك الكريم : [ قل كلٌّ يعمل على شاكلته ] ..
وأنت سمَّيت نفسك يا خالقي ( الحليم ) .. ووصفتَ ذاتك العليِّة بأنك ( الكريم ) ..
وشاكلتي يا ربي العصيان والتقصير في حقك يا إله العالمين ..
لكنني وحقـِّك ما أعصيك – حين أعصيك - استحلالاً لحرامك .. ولا عصياناً لأوامرك .. ولا انتهاكاً لحرماتك .. لكنـَّها النفس الأمـَّارة بالسوء يا ربي .. والضعف الذي هو سمتي ووصفي ..
يا رب ..
كم من نعمة ٍ أنعمتَ بها عليَّ قلَّ لها عندها شكري .. ومع ذلك يا خالقي لم تحرمني من جليل إنعامك ..
ولما ابتليتـَني بفقدي لأمي قلَّ له عنده صبري .. ورغم ذلك حـَلـُمتَ عليَّ يا إلهي فلم تخذلني لعظيم غفرانك ..
يا رب ..
أدعوك يا ربي أن تجعلني من المتـَّقين وتحشرني مع الصادقين .. امتثالاً لأمرك يا خالقي حين قلتَ في كتابك الكريم :
[ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ]
فلا تحرمـْني يا إلهي من صفة التقوى .. ولا تمنعْ عني بذنوبي معيـَّة الصادقين .. واجعلني يا ربي دائماً كما يرضيك مني أن أكون .. وعاملـْني بحلـْمك الذي عوَّدتـَّني عليه وأنت له أهل .. ولستُ أنا له بأهل ..
يا رب ..
ما عملت ُ من خير ٍ اجعلـْه يا ربِّ بكرمك وإحسانك في صحيفة حسنات أمي وأبي .. وما قمتُ به من شرٍّ وذنب فبرِّئهما منه .. فإنهما يبرآن إليك من شرور فعالي .. فقد ربـَّياني وأنت يا ربي أعلم بذلك مني .. واغفر لي إياه يا واسع المغفرة ..
اللهم آمين يا رب .. آمين يا رب العالمين
الـــ بقلمي ــبحار
الـــ بقلمي ــبحار
التعديل الأخير بواسطة المشرف: