أميرة الاشواق
عضو نشيط
كثيراً ما نسمع من بعض المسلمين سؤالاً يتكرر، ليس فيه استنكار - وحاشا للمسلم أن يخرج عن إطار الأدب مع الله تعالى - إنما هو سؤال الجاهل بما يرى، ويودّ أن يكون على هدى من الله وبصيرة ، يقول السائل : هؤلاء الكفار يعيشون في نعمة وأمان ويسكن معظمهم البيوت الفارهة ويعيشون حياة الدعة والرفاهية ، وتراهم في بلدانهم أحراراً ، وبلادُهم جناتٌ وأنهار ، ونحن – المسلمين- أهل الدين الحق والعقيدة السليمة يعيش أكثرنا في ضنك وفقر، نجتر مآسينا المتزايدة .
أذكر قوله تعالى في سورة آل عمران في الآيتين ( 196-197) (لا يغرنّك تقلب الذين كفروا في البلاد ، متاع قليل ، ثم مأواهم جهنم ، وبئس المهاد)
يقول ابن كثير:قال تعالى لا تنظر إلى ترف هؤلاء الكفار من النعمة والغبطة والسرور فعمّا قليل يزول هذا كله عنهم ويصبحون مرتهنين بأعمالهم السيئة .ويذكر القرطبي: أنّ الله يعجل لهم المتاع ، والمتاع ما يُنتفع به ،ثم يزول ، وسماه القرآن متاعاً قليلاً لأنه فانِ ،وكل فانٍ قليلٌ وإن كان كثيراً .
ثم يعلق ابن كثير قائلاً :فإنما نمد لهم فيما هم فيه استدراجا وجميع ما هم فيه " متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد " وهذه الآية كقوله تعالى " ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد " وقوله سبحانه " إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون " وقوله تعالى " نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ " ويقول تعالى " فمهل الكافرين أمهلهم رويدا " والروَيدُ : القليل. وكقوله تعالى " أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين " . وأنبه إلى أن الآيات الأولى ذكرت (المتعاع) الذي ينتهي ، ولا خير فيما ينتهي فهو القليل وإن كثُر ، وتأمل في قوله تعالى ( أمهلهم رويدا)، إنه عطاء دنيوي وعذاب أُخرَويّ.
وينقل القرطبي عن الترمذي ما رواه المستورد الفهري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم , فلينظر بماذا يرجع" وبماذ ترجع الأصبع ؟! هذا ما يأخذه الكافر في الدنيا ، والدنيا دار ابتلاء والآخرة للمتقين ، والكافرون ليس لهم في الآخرة إلا النار ، فليأخذوا نصيبهم في الدنيا فقط. وهذا من عدل الله تعالى في عباده ، فالكفار بشر يعملون أحياناً أو أحايين كثيرة خيراً لا يقوم على الاعتقاد الصحيح والإيمان السليم ، فينالون أجرهم في حياتهم الدنيا وليس لهم في الآخرة من خلاق. سوى لظى النار الخالد. وتأمل معي قوله تعالى ( وكذلك نجزي الظالمين ، لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ، وكذلك نجزي الظالمين) فمن ابتعد عن الحق وكفر بنعمة الله كانت النار مأواه الدائم . وبئس ما مهدوا لأنفسهم فخسروها. وما حياتهم الرغيدة في الدنيا إلا استدراجاً ، ألم يقل الله تعالى ( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم ، إن كيدي متين)؟
ويوضح القرطبي الفكرة قائلاً" إن الكفار غير منعم عليهم في الدنيا حقيقة ، لأن حقيقة النعمة الخلوص من شوائب الضرر العاجلة والآجلة , ونِعَمُ الكفار مشوبة بالآلام والعقوبات , فصار كمن قدم بين يدي غيره حلاوة من عسل فيها السم , فهو وإن استلذ آكله لا يقال : أنعِمَ عليه ; لأن فيه هلاك روحه
ويورد القرطبي رحمه الله فائدة جليلة فيقول :" فالنِّعَم ضربان : نِعَمُ نفع، ونِعَم دفع ; فنعم النفع ما وصل إليهم من فنون اللذات , ونعم الدفع ما صرف عنهم من أنواع الآفات . فعلى هذا قد أنعم على الكفار نعم الدفع قولا واحدا ; وهو ما زوي عنهم من الآلام والأسقام , ولا خلاف في أنه – سبحانه- لم ينعِم عليهم نعمة دينه . أما المسلمون فلهم في الآخرة – قولاً واحداً – نِعَم النفع الخالدة التي لا تنفد . والآخرة دار الثواب أبد الآبدين ، وشتان ما بين المتاع والبقاء .
والدنيا دار ابتلاء ، وللابتلاء والاختبار زمان ومكان محددان ، ثم يأتي النعيم المقيم .... ولا أظن عاقلاً يفضل عاجلاً على آجل ، ويستبدل قليلاً بكثير ، فما وعد الله به عباده المؤمنين إن أحسنوا عقيدة وعملاً خيرٌ كثير... ووعد العظيم عظيم.