فرحة الاردن
الادارة العامة
تغريبة بني هلال ورحيلهم إلى بلاد الغرب (05)
قصة أبوزيد الهلالي
الجزء الخامس من قصة الملك الغضبان
· ( قال الراوي ):
كان حاكم بلاد التركمان رجل عظيم الشأن إسمه( الغطريف ) ويلقب بالغضبان، وله عدة وزراء وأعوان ومن جملتهم الوزير النعمان، وهو صاحب معرفة وتدبير في أمور السياسة خبير، وله ابن أخت وكان ولي عده ونائبه نمر الجارح. وكان الملك الغضبان يركن إليه، ولما وصلت جموع بني هلال وخيمت في تلك الأطلال وبلغ الغضبان هذا الخبر تطاير من عينيه الشرر، فاجتمع بوزرائه وباقي الأعوان وعقد معهم مجلسا في هذا الشأن، فقال له الوزير النعان الرأي عندي أن ترسل لملكهم تطلب منه المال، فأجاب الملك أن أرسل الطلب بلغنا القصد والأرب، وان أبى وامتنع ركبنا عليه بكل فارس صميدع، فننهب أموالهم ونسبي حريمهم وعيالهم ونقتل شبابهم ورجالهم، فاستحسن الغضبان هذا الرأي وكتب اليهم بمعناه.
ثم ختم الرسالة وسلمها إلى عبده رشيد وأمر أن يسير بدون إمهال ويسلمها إلى الأمير حسن سيد بني هلال، فامتثل أمره وركب على ناقة وسار حتى أشرف إلى نجع بني هلال، فنزل من على ناقته ودخل على الأمير حسن فسلم عليه وقبل يديه ثم ناوله الكتاب ووقف ينتظر الجواب، فلما فتحه وقرأه واطلع على ما حواه انسغل باله وتغيرت أحواله، فقال له أبو زيد علامك يا أمير حسن فإني أراك في غم وتكدير، فناوله الكتاب فلما قرأ الكتاب قال أنا أرد الجواب.
ثم طوى الكتاب وأعطاه إلى الحاجب، فأخذه وجد حتى وصل إلى مولاه وأعطاه الكتاب فلما فتحه وعرف فحواه مزقه ورماه، واغتاظ الغيظ الشديد، وفي الحال أمر ابن أخته ووزيره نمر الجارح وابن عمه النعمان، أن يجمعا العساكر والأبطال لمحاربة بني هلال، فدقت طبول الحرب واجتمعت العساكر من كل جهة ومكان، وكانوا نحو مائة ألف بطل فركبوا بالعجل وهم معتقلون بالسلاح وفي أيديهم الرماح، وركب نمر الجارح في مقدمة العساكر وجدوا بالمسير قاصدين بني هلال، فلما علمت بنو هلال بقدومهم، استعدوا لحربهم فدقوا طبولهم بالعجل، فاجتمع الفرسان ودخلوا على أميرهم حسن، وهو جالس في الديوان وأعلموه بما جرى فأمرهم أن يسيروا للقتال، فركبوا وفي مقدمتهم الأمير أبو زيد فالتقت العساكر ببعضها البعض، وهجمت بنو هلال بقلوب كالصوان، وانقضوا على عساكر الغضبان، فاشتد القتال وفعل أبو زيد في ذلك النهار فعالا تذكر على مدى الإعصار، وكذلك فعل الأمير دياب وباقي الفرسان، فانهم ثبتوا وقاتلوا وما قصروا، وكان الأمير دياب قد التقى بالأمير نمر الجارح وهو ينخى رجاله، فتقدم دياب يريد قتاله، فصدمه نمر في الحال بقلب أقوى من الصوان واشتد بينهما القتال، وكان نمر قد طعن خصمه بالسنان وقال خذها من يد فارس الفرسان، فغطس دياب تحت بطن الخضرا فأخطأته الضربة، وهجم على خصمه هجوم القضاء المنزل وضربه بالدبوس على الخوذة فتألم وارتد راجعا الى الوراء وندم على ما جرى، وفي الحال هجمت بنو هلال على الأعداء من اليمين والشمال وأذاقوهم الأهوال وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وكان النهار قد مضى وزال وأقبل الليل بالإنسدال، فانفصلت العساكر عن بعضها البعض ونزلت كل طائفة في ناحية من الأرض.
ورجع الأمير دياب من ساحة الميدان ودخل على الأمير حسن وهو فرحان فالتقاه بالبشاشة والإكرام، وقال له كيف وجدت خصمك نمر الجارح، أجاب إذا أقصر عمره وأكفيك شره، فشكره على ذلك وباتوا على أحسن حال، أما عساكر الغضبان فإنهم رجعوا من ساحة الميدان وهم في قلق واضطراب من قتال أبي زيد ودياب، وكان نمر قد جمع الأمراء والسادات وأخذ يستشيرهم في أمر الحرب عليه بطلب النجدة من عمه الملك الغضبان فاستصوب رأيهم وفي الحال كتب إلى خاله يعلمه بواقعة أحواله ويطلب منه المعونة.
وطوى الكتاب وختمه وسلمه إلى نجاب يقال له عقاب، فأخذه وجد في قطع البراري والقيعان حتى وصل إلى الملك الغضبان، فدخل عليه وقبل الأرض بين قدميه، ثم ناوله الكتاب فلما فتحه وقرأه، اغتاظ وتأثر وتطاير من عينيه الشرر، وأقس أنه لابد أن يفني بني هلال ولا يبقي أحدا منهم، ثم أمر بجمع العساكر والفرسان فركبت خيولها واعتقلت بسيوفها ونصولها، وركب أيضا الضرغام أخو نمر ووزيره النعمان وقصدوا بني هلال بقلوب كالجبال، وجدوا في البراري وكان عدد الفرسان خمسمائة ألف عنان. هذا ما كان هؤلاء، وأما ما كان من نمر الجارح فإنه بعد إيفاد الرسول لخاله، ركب ثاني الأيام بجميع فرسانه وأبطاله، وتقدم نحو بني هلال فتقابل الفريقان في ساحة الميدان، وتقدم الأمير نمر إلى معركة الطعان فالتقاه الأمير دياب وهجم عليه كليث الغاب واشتبك بينهما الحرب وأخذا في الطعن والضرب، فلله درهما من بطلين وفارسين عظيمين!
أما دياب فكان أشجع من نمر وأقدر من وأعلم منه بمواقع الطعن، وأخيرا طعنه بالرمح في صدره خرج يلمع من ظهره، فوقع على الأرض قتيلا وأيقن قومه بالهلاك والدمار، وطلبوا الهزيمة والفرار، وتبعهم بنو هلال وقتلوا منهم عددا كثيرا، وبينما هم سائرون وفي الفلاة مشتتون، إذا بغبار قد ظهر عليهم ومن خلفه الجيوش والعساكر، فلما اقتربوا منهم وتأملوهم فاذا هم عساكر الغضبان، وكانوا قد خضروا لمعونة نمر فلما رأت العساكر المنهزمة ملكها الغضبان، تقدموا إليه وقبلوا يديه، وأعلموه بما حل فيهم من المصائب، وكيف أن بني هلال قتلت نمر الجارح، فلما سمع الملك الغضبان منهم هذا الكلام خرج عن دائرة الصواب فشخر ونخر وطغى وتجبر، وقال وحق ديني ومعبودي لابد من قتال بني هلال والتقتها بنو هلال تتقدمها السادات والأعيان، والأمير حسن بن سرحان، واشتبك الطعان بين الفرسان والتقى الضرغام بالأمير حسن وهو ينخى العساكر، فالتقاه الأمير بقلب أقوى من الصوان واخذا يتضاربان نحو ساعة من الزمان، وكان الامير حسن قد طعن ضرغام قاصدا أن يسقيه كأس الحمام فاختفى تحت بطن الجواد فراحت خائبة، ثم اعتلى الضرغام على ظهر حصانه وطعن الامير حسن فالتقاه بترس البولاد، وما زالا في عراك وصدام الى ان دقت طبول الانفصال، ورجعت العساكر من ساحة القتال، وفي الصباح ركبت العساكر الفرسان ظهور الخيول وتقدمت الى ساحة الميدان، فتقدم الامير ضرغام وطلب المبارزة والصدام، فبرز اليه الامير عقل وهجم عليه بقلب شديد، فالتقاه بقوة واخذا في الحرب فاشتد بينهما القتال مدة اربع ساعات، وكان الامير عقل قد استظهرعلى خصمه وطعنه بالرمح في صدره خرج يلمع من ظهره، فوقع الضرغام قتيلا وفي دماه جديلا، فلما نظر الغضبان ما جرى استعظم الامر وهجم على عقل وطعنه بالرمح ليعدمه الحياة فخلى منها عقل فراحت خائبة، وما زالا في قتال الى قرب الزوال، فرجعت بنو هلال في السرور والافراح، وعساكر الغضبان بالهم والاتراح، واخذوا جثة الضرغام واقاموا عليها النواح ثم كفنوه ودفنوه، ولما اصبح الصباح ركبت بنو هلال للحرب والكفاح،فالتقتها الاعداء وصاح الغضبان اين الشجعان اين جبابرة الضرب والطعان؟ فما اتم كلامه حتى صار الامير دياب امامه وصدمه صدمة ترتعد منها قلوب الفرسان، فالتقاه الغضبان وضربه بالسيف فالتقاه دياب بدرعة البولاد فانكسر السيف فأعطاه قومه غيره.
واشتد بينهما الحرب والكفاح الى ان اختلف بين الاثنين ضربتان قاطعتان وكان السابق الملك الغضبان،وقال له خذها من يد فارس الميدان وليث المعارك والطعان، فغطس دياب تحت بطن الخضرا راحت الضربة خائبة، وما زالوا على ذلك وهم في اشد حرب الى قرب لمساء، فدقت طبول الانفصال فرجعت الفرسان من ساحة الميدان وباتوا يتحارسون تحت مشئية الرحمن، وعند الصباح برز الغضبان الى ساحة الكفاح وطلب مبارزة الفرسان فبرز اليه ابو زيد ليث الميدان. واقتتلا طول النهار وفعلا افعالا تذهل الابصار، ثم افترقا على سلام الى المضارب والخيام، واستمر القتال بين عساكر الغضبان وبني هلال ستة عشر يوما وقد قتل من عسكر الغضبان عشرون الف فارس ومن بني هلال خمسة الاف فارس، ثم استعدت العساكر للقتال فدقت طبول الحرب وتقدمت الفرسان للطعن والضرب، فبرز الى الميدان الملك الغضبان، وقال هل من مبارز هل من مناجز؟ فلا يبرز لي كسلان ولا عاجز اليوم يوم الهزاهز، فما تام كلامه حتى صار ابو زيد قدامه فالتقاه الغضبان بقلب شديد وأخذ معه في عراك وصدام.
فلما رأى أبو زيد قوة حربه تأخر عنه فعند ذلك صاح الغضبان على الفرسان بالهجوم على بني هلال. وكانت بني هلال قد قصرت في القتال، فتأخرت الى الوراء وعساكر الغضبان تتبعهم في تلك الصحراء وبعدها اجتمع ابو زيد بسادات بني هلال وقال لهم قد ساءت احوالنا وفقدت ابطالنا ورجالنا فما هو رأيكم ايها الاعيان في قتل الملك الغضبان؟ فقالوا الرأي عندك يا أمير فما فينا من يخالفك، فقال الرأي عندي نكون اربع فرق ونهجم على الاعداء من اربع جهات نسد عليهم جميع الطرق، وتكون الجازية في اول العماريات مع باقي النساء والبنات واهجم انا من جهة الشمال والامير زيدان والامير حسن والقاضي بدير من بقية الجهات بباقي الابطال، ونقاتلهم اشد قتال والا حل بنا الوبال، فاستصوبوا رأيه لانهم رأوه عين الصواب.
ولما اصبح الصباح ركبت الفرسان للحرب والكفاح وانقسمت بنو هلال اربع فرق، وكان السابق بفرقته الامير دياب فصاح على الفرسان وحكم سيفه بالرقاب وتبعه أخوه زيدان بكل الفرسان بقلوب أقوى من الصوان، وجندلوا الابطال في ساحة الميدان، ولما رأى الغضبان ما حل بقومه من الهوان استعظم ذلك الشأن فجعل ينخي الابطال وتقدم بنفسه وقد هانت عليه المنية وضرب فيهم بالحسام وتبعه الفرسان من خلف وقدام، فثبت الشجاع وفر الجبان، واذا بجيوش وعساكر الامير حسن بن سرحان راكب ببني دريد وابو زيد ببني زحلان والقاضي بدير بباقي الرجال والشجعان، ومن حوله السادات بالبياق والرايات، فهجموا على عساكر الغضبان من كل جهة ومكان، واشتد قلب دياب بقدوم القوم وامل بالنصر فقاتل اشد قتال، وهكذا فعات بنو هلال وكان يوما شديدا لم يسمع مثله في سالف الاجيال، وكان الملك الغضبان قد برز الى الامير دياب وهو غائب عن الصواب، ودياب يدور حوله مثل ادولاب وهو ثابت على الحرب والجلاد كأنه طود من الاطواد، فعند ذلك تقدم الامير حسن والامير زيد وهجموا هجمة رجل واحد على الغضبان وبهذه الفعال هان على دياب القتال، فقوم السنان وقال له خذ هذه الطعنة من يد الامير دياب وطعنه بالرمح في صدره. وتحمس دياب ومال على الابطال ففرقها على اليمين والشمال، وتبعه بنو زغبي الشجعان وبنو زحلان وهجموا على عساكر الغضبان بقلب اقوى من الصوان، وكانت عساكر الغضبان لما رأت ملكها قد مات حلت بها الآفات وضعفت عزيمتها وايقنت بالهلاك والبوار فولوا الادبار الى الهزيمة والفرار، فتبعتهم فرسان بني هلال وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وكسبوا غنائم ذات قدر وقيمة، وكانوا قد تبعوهم الى البلد ونهبوا الاموال وسبوا الحريم والعيال، وبعد ذلك رجعوا الى الخيام ثم حضر ابن الملك الغضبان، وكان اسمه عبد المدان، الى عند الامير حسن بن سرحان وبمعيته الاكابر والاعيان، وطلبوا منه الامان فاجابهم الى ذلك الشأن وعاملهم باللطف والاحسان، وبعد ذلك ولوا الامير عبد المدان حاكما على تلك الاوطان مكان ابيه، وقامت بنو هلال في الاوطان خمسة ايام ثم دقت طبول الحرب الى الارتحال، حتى وصلوا الى بلاد العراق ولما وصلوا اليها وجدوا ان الحاكم على تلك البلاد رجل من الاجواد قد اتصف بالجود والكرم والفضائل، يقال له الخفاجي عامر، يحكم على البصرة وبغداد والموصل والعراق، وكان عنده من الابطال والفرسان نحو مائتي الف عنان. فبينما هو جالس في الديوان وحوله الوزراء والاعيان، اذ دخلت عليه الرعيان وقالوا له اعلم يا ملك الزمان ان بني هلال قد دخلت ديارنا وأكلت ثمار بساتيننا، وقد هربت من امامهم الرعيان وتركت النوق والفصلان. فلما سمع الخفاجي هذا الكلام صار الضياء في عينيه كالظلام، والتفت الى الامراء وقال لهم ما قولكم في بني هلال؟ فعند ذلك تقدم الوزير عميرة واشار عليه مشورة.
الجزء الخامس من قصة الملك الغضبان
· ( قال الراوي ):
كان حاكم بلاد التركمان رجل عظيم الشأن إسمه( الغطريف ) ويلقب بالغضبان، وله عدة وزراء وأعوان ومن جملتهم الوزير النعمان، وهو صاحب معرفة وتدبير في أمور السياسة خبير، وله ابن أخت وكان ولي عده ونائبه نمر الجارح. وكان الملك الغضبان يركن إليه، ولما وصلت جموع بني هلال وخيمت في تلك الأطلال وبلغ الغضبان هذا الخبر تطاير من عينيه الشرر، فاجتمع بوزرائه وباقي الأعوان وعقد معهم مجلسا في هذا الشأن، فقال له الوزير النعان الرأي عندي أن ترسل لملكهم تطلب منه المال، فأجاب الملك أن أرسل الطلب بلغنا القصد والأرب، وان أبى وامتنع ركبنا عليه بكل فارس صميدع، فننهب أموالهم ونسبي حريمهم وعيالهم ونقتل شبابهم ورجالهم، فاستحسن الغضبان هذا الرأي وكتب اليهم بمعناه.
ثم ختم الرسالة وسلمها إلى عبده رشيد وأمر أن يسير بدون إمهال ويسلمها إلى الأمير حسن سيد بني هلال، فامتثل أمره وركب على ناقة وسار حتى أشرف إلى نجع بني هلال، فنزل من على ناقته ودخل على الأمير حسن فسلم عليه وقبل يديه ثم ناوله الكتاب ووقف ينتظر الجواب، فلما فتحه وقرأه واطلع على ما حواه انسغل باله وتغيرت أحواله، فقال له أبو زيد علامك يا أمير حسن فإني أراك في غم وتكدير، فناوله الكتاب فلما قرأ الكتاب قال أنا أرد الجواب.
ثم طوى الكتاب وأعطاه إلى الحاجب، فأخذه وجد حتى وصل إلى مولاه وأعطاه الكتاب فلما فتحه وعرف فحواه مزقه ورماه، واغتاظ الغيظ الشديد، وفي الحال أمر ابن أخته ووزيره نمر الجارح وابن عمه النعمان، أن يجمعا العساكر والأبطال لمحاربة بني هلال، فدقت طبول الحرب واجتمعت العساكر من كل جهة ومكان، وكانوا نحو مائة ألف بطل فركبوا بالعجل وهم معتقلون بالسلاح وفي أيديهم الرماح، وركب نمر الجارح في مقدمة العساكر وجدوا بالمسير قاصدين بني هلال، فلما علمت بنو هلال بقدومهم، استعدوا لحربهم فدقوا طبولهم بالعجل، فاجتمع الفرسان ودخلوا على أميرهم حسن، وهو جالس في الديوان وأعلموه بما جرى فأمرهم أن يسيروا للقتال، فركبوا وفي مقدمتهم الأمير أبو زيد فالتقت العساكر ببعضها البعض، وهجمت بنو هلال بقلوب كالصوان، وانقضوا على عساكر الغضبان، فاشتد القتال وفعل أبو زيد في ذلك النهار فعالا تذكر على مدى الإعصار، وكذلك فعل الأمير دياب وباقي الفرسان، فانهم ثبتوا وقاتلوا وما قصروا، وكان الأمير دياب قد التقى بالأمير نمر الجارح وهو ينخى رجاله، فتقدم دياب يريد قتاله، فصدمه نمر في الحال بقلب أقوى من الصوان واشتد بينهما القتال، وكان نمر قد طعن خصمه بالسنان وقال خذها من يد فارس الفرسان، فغطس دياب تحت بطن الخضرا فأخطأته الضربة، وهجم على خصمه هجوم القضاء المنزل وضربه بالدبوس على الخوذة فتألم وارتد راجعا الى الوراء وندم على ما جرى، وفي الحال هجمت بنو هلال على الأعداء من اليمين والشمال وأذاقوهم الأهوال وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وكان النهار قد مضى وزال وأقبل الليل بالإنسدال، فانفصلت العساكر عن بعضها البعض ونزلت كل طائفة في ناحية من الأرض.
ورجع الأمير دياب من ساحة الميدان ودخل على الأمير حسن وهو فرحان فالتقاه بالبشاشة والإكرام، وقال له كيف وجدت خصمك نمر الجارح، أجاب إذا أقصر عمره وأكفيك شره، فشكره على ذلك وباتوا على أحسن حال، أما عساكر الغضبان فإنهم رجعوا من ساحة الميدان وهم في قلق واضطراب من قتال أبي زيد ودياب، وكان نمر قد جمع الأمراء والسادات وأخذ يستشيرهم في أمر الحرب عليه بطلب النجدة من عمه الملك الغضبان فاستصوب رأيهم وفي الحال كتب إلى خاله يعلمه بواقعة أحواله ويطلب منه المعونة.
وطوى الكتاب وختمه وسلمه إلى نجاب يقال له عقاب، فأخذه وجد في قطع البراري والقيعان حتى وصل إلى الملك الغضبان، فدخل عليه وقبل الأرض بين قدميه، ثم ناوله الكتاب فلما فتحه وقرأه، اغتاظ وتأثر وتطاير من عينيه الشرر، وأقس أنه لابد أن يفني بني هلال ولا يبقي أحدا منهم، ثم أمر بجمع العساكر والفرسان فركبت خيولها واعتقلت بسيوفها ونصولها، وركب أيضا الضرغام أخو نمر ووزيره النعمان وقصدوا بني هلال بقلوب كالجبال، وجدوا في البراري وكان عدد الفرسان خمسمائة ألف عنان. هذا ما كان هؤلاء، وأما ما كان من نمر الجارح فإنه بعد إيفاد الرسول لخاله، ركب ثاني الأيام بجميع فرسانه وأبطاله، وتقدم نحو بني هلال فتقابل الفريقان في ساحة الميدان، وتقدم الأمير نمر إلى معركة الطعان فالتقاه الأمير دياب وهجم عليه كليث الغاب واشتبك بينهما الحرب وأخذا في الطعن والضرب، فلله درهما من بطلين وفارسين عظيمين!
أما دياب فكان أشجع من نمر وأقدر من وأعلم منه بمواقع الطعن، وأخيرا طعنه بالرمح في صدره خرج يلمع من ظهره، فوقع على الأرض قتيلا وأيقن قومه بالهلاك والدمار، وطلبوا الهزيمة والفرار، وتبعهم بنو هلال وقتلوا منهم عددا كثيرا، وبينما هم سائرون وفي الفلاة مشتتون، إذا بغبار قد ظهر عليهم ومن خلفه الجيوش والعساكر، فلما اقتربوا منهم وتأملوهم فاذا هم عساكر الغضبان، وكانوا قد خضروا لمعونة نمر فلما رأت العساكر المنهزمة ملكها الغضبان، تقدموا إليه وقبلوا يديه، وأعلموه بما حل فيهم من المصائب، وكيف أن بني هلال قتلت نمر الجارح، فلما سمع الملك الغضبان منهم هذا الكلام خرج عن دائرة الصواب فشخر ونخر وطغى وتجبر، وقال وحق ديني ومعبودي لابد من قتال بني هلال والتقتها بنو هلال تتقدمها السادات والأعيان، والأمير حسن بن سرحان، واشتبك الطعان بين الفرسان والتقى الضرغام بالأمير حسن وهو ينخى العساكر، فالتقاه الأمير بقلب أقوى من الصوان واخذا يتضاربان نحو ساعة من الزمان، وكان الامير حسن قد طعن ضرغام قاصدا أن يسقيه كأس الحمام فاختفى تحت بطن الجواد فراحت خائبة، ثم اعتلى الضرغام على ظهر حصانه وطعن الامير حسن فالتقاه بترس البولاد، وما زالا في عراك وصدام الى ان دقت طبول الانفصال، ورجعت العساكر من ساحة القتال، وفي الصباح ركبت العساكر الفرسان ظهور الخيول وتقدمت الى ساحة الميدان، فتقدم الامير ضرغام وطلب المبارزة والصدام، فبرز اليه الامير عقل وهجم عليه بقلب شديد، فالتقاه بقوة واخذا في الحرب فاشتد بينهما القتال مدة اربع ساعات، وكان الامير عقل قد استظهرعلى خصمه وطعنه بالرمح في صدره خرج يلمع من ظهره، فوقع الضرغام قتيلا وفي دماه جديلا، فلما نظر الغضبان ما جرى استعظم الامر وهجم على عقل وطعنه بالرمح ليعدمه الحياة فخلى منها عقل فراحت خائبة، وما زالا في قتال الى قرب الزوال، فرجعت بنو هلال في السرور والافراح، وعساكر الغضبان بالهم والاتراح، واخذوا جثة الضرغام واقاموا عليها النواح ثم كفنوه ودفنوه، ولما اصبح الصباح ركبت بنو هلال للحرب والكفاح،فالتقتها الاعداء وصاح الغضبان اين الشجعان اين جبابرة الضرب والطعان؟ فما اتم كلامه حتى صار الامير دياب امامه وصدمه صدمة ترتعد منها قلوب الفرسان، فالتقاه الغضبان وضربه بالسيف فالتقاه دياب بدرعة البولاد فانكسر السيف فأعطاه قومه غيره.
واشتد بينهما الحرب والكفاح الى ان اختلف بين الاثنين ضربتان قاطعتان وكان السابق الملك الغضبان،وقال له خذها من يد فارس الميدان وليث المعارك والطعان، فغطس دياب تحت بطن الخضرا راحت الضربة خائبة، وما زالوا على ذلك وهم في اشد حرب الى قرب لمساء، فدقت طبول الانفصال فرجعت الفرسان من ساحة الميدان وباتوا يتحارسون تحت مشئية الرحمن، وعند الصباح برز الغضبان الى ساحة الكفاح وطلب مبارزة الفرسان فبرز اليه ابو زيد ليث الميدان. واقتتلا طول النهار وفعلا افعالا تذهل الابصار، ثم افترقا على سلام الى المضارب والخيام، واستمر القتال بين عساكر الغضبان وبني هلال ستة عشر يوما وقد قتل من عسكر الغضبان عشرون الف فارس ومن بني هلال خمسة الاف فارس، ثم استعدت العساكر للقتال فدقت طبول الحرب وتقدمت الفرسان للطعن والضرب، فبرز الى الميدان الملك الغضبان، وقال هل من مبارز هل من مناجز؟ فلا يبرز لي كسلان ولا عاجز اليوم يوم الهزاهز، فما تام كلامه حتى صار ابو زيد قدامه فالتقاه الغضبان بقلب شديد وأخذ معه في عراك وصدام.
فلما رأى أبو زيد قوة حربه تأخر عنه فعند ذلك صاح الغضبان على الفرسان بالهجوم على بني هلال. وكانت بني هلال قد قصرت في القتال، فتأخرت الى الوراء وعساكر الغضبان تتبعهم في تلك الصحراء وبعدها اجتمع ابو زيد بسادات بني هلال وقال لهم قد ساءت احوالنا وفقدت ابطالنا ورجالنا فما هو رأيكم ايها الاعيان في قتل الملك الغضبان؟ فقالوا الرأي عندك يا أمير فما فينا من يخالفك، فقال الرأي عندي نكون اربع فرق ونهجم على الاعداء من اربع جهات نسد عليهم جميع الطرق، وتكون الجازية في اول العماريات مع باقي النساء والبنات واهجم انا من جهة الشمال والامير زيدان والامير حسن والقاضي بدير من بقية الجهات بباقي الابطال، ونقاتلهم اشد قتال والا حل بنا الوبال، فاستصوبوا رأيه لانهم رأوه عين الصواب.
ولما اصبح الصباح ركبت الفرسان للحرب والكفاح وانقسمت بنو هلال اربع فرق، وكان السابق بفرقته الامير دياب فصاح على الفرسان وحكم سيفه بالرقاب وتبعه أخوه زيدان بكل الفرسان بقلوب أقوى من الصوان، وجندلوا الابطال في ساحة الميدان، ولما رأى الغضبان ما حل بقومه من الهوان استعظم ذلك الشأن فجعل ينخي الابطال وتقدم بنفسه وقد هانت عليه المنية وضرب فيهم بالحسام وتبعه الفرسان من خلف وقدام، فثبت الشجاع وفر الجبان، واذا بجيوش وعساكر الامير حسن بن سرحان راكب ببني دريد وابو زيد ببني زحلان والقاضي بدير بباقي الرجال والشجعان، ومن حوله السادات بالبياق والرايات، فهجموا على عساكر الغضبان من كل جهة ومكان، واشتد قلب دياب بقدوم القوم وامل بالنصر فقاتل اشد قتال، وهكذا فعات بنو هلال وكان يوما شديدا لم يسمع مثله في سالف الاجيال، وكان الملك الغضبان قد برز الى الامير دياب وهو غائب عن الصواب، ودياب يدور حوله مثل ادولاب وهو ثابت على الحرب والجلاد كأنه طود من الاطواد، فعند ذلك تقدم الامير حسن والامير زيد وهجموا هجمة رجل واحد على الغضبان وبهذه الفعال هان على دياب القتال، فقوم السنان وقال له خذ هذه الطعنة من يد الامير دياب وطعنه بالرمح في صدره. وتحمس دياب ومال على الابطال ففرقها على اليمين والشمال، وتبعه بنو زغبي الشجعان وبنو زحلان وهجموا على عساكر الغضبان بقلب اقوى من الصوان، وكانت عساكر الغضبان لما رأت ملكها قد مات حلت بها الآفات وضعفت عزيمتها وايقنت بالهلاك والبوار فولوا الادبار الى الهزيمة والفرار، فتبعتهم فرسان بني هلال وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وكسبوا غنائم ذات قدر وقيمة، وكانوا قد تبعوهم الى البلد ونهبوا الاموال وسبوا الحريم والعيال، وبعد ذلك رجعوا الى الخيام ثم حضر ابن الملك الغضبان، وكان اسمه عبد المدان، الى عند الامير حسن بن سرحان وبمعيته الاكابر والاعيان، وطلبوا منه الامان فاجابهم الى ذلك الشأن وعاملهم باللطف والاحسان، وبعد ذلك ولوا الامير عبد المدان حاكما على تلك الاوطان مكان ابيه، وقامت بنو هلال في الاوطان خمسة ايام ثم دقت طبول الحرب الى الارتحال، حتى وصلوا الى بلاد العراق ولما وصلوا اليها وجدوا ان الحاكم على تلك البلاد رجل من الاجواد قد اتصف بالجود والكرم والفضائل، يقال له الخفاجي عامر، يحكم على البصرة وبغداد والموصل والعراق، وكان عنده من الابطال والفرسان نحو مائتي الف عنان. فبينما هو جالس في الديوان وحوله الوزراء والاعيان، اذ دخلت عليه الرعيان وقالوا له اعلم يا ملك الزمان ان بني هلال قد دخلت ديارنا وأكلت ثمار بساتيننا، وقد هربت من امامهم الرعيان وتركت النوق والفصلان. فلما سمع الخفاجي هذا الكلام صار الضياء في عينيه كالظلام، والتفت الى الامراء وقال لهم ما قولكم في بني هلال؟ فعند ذلك تقدم الوزير عميرة واشار عليه مشورة.
يتبع