فرحة الاردن
الادارة العامة
تغريبة بني هلال ورحيلهم إلى بلاد الغرب (02)
قصة أبوزيد الهلالي كامله
( الجزء الثاني من تغريبة بني هلال )
يقول الحجازي والحجازي سلامة
ارى الدهر بندر بالملوك الفاضل
يا حيف اهل العز ول زمانهم
ومن بعدهم حكمت اولاد الرذال
يا لهف قلبي على ملوك قد مضوا
حكم بعدهم في الناس خدام عاطل
انا ناصر الايتام بالسيف والقنا
وطاعن الاعادي فوق ظهر الصايل
انا منصف المظلوم جابر خاطره
انا فارس الفرسان ارد الجحافل
انا زوج الزينات لابناء عمهم
وابعد عنهم كل خبيث مماطل
فلا خير في عبد علا فوق سيده
ولا خير في من يغدر اهل الفضائل
فلا تحسب ان الدهر يصفو لظالم
ولا بد ما اريك طعن الذوابل
كنت قطعت راسك، واخمدت انفاسك، فاجلس مكانك واكفنا شرك ولسانك، ودع غيرك يطربنا يا ابن اللئام، فعند ذلك التفت
مرعي وقال له: لا تؤاخذه ولا تغضب عليه، فنه من جملة العبيد الذين لايعرفون مقام الملوك ولا لهم خبرة بحسن التصرف والسلوك،
فان كنت تريد غنيتك الان بقصيد يستحق الانعام ومزيد الاكرام فتزيل اكدارك وتربح افكارك فقال سعيد هات ما عنك فانشد شعرا اسوا من شعر ابو زيد فلما فرغ من كلامه وشعره ونظامه اغتاظ سعيد الغيظ الشديد، وصاح على الجلاد ان يقطع راسه ويخمد انفاسه فمنذ ذلك اعتذر اليه يحى امام الحاضرين وكبار السادات المقدمين، وقال لا تؤاخذهما من هذا القبيل ايها الملك الجليل، فانهما من اناس بهاليل لا يعرفون مضمون الكلام ولا يميزون بين النور والظلام فانا امدحك بابيات حسان ما سمعها احد الا وزال عنه الهم والاحزان لانها تشرح الصدور وتجلب السرور، فقال هات ما عندك لعن الله اباك وجدك فاجاب يحيى بشعر اسوأ من شعر مرعي، فلما فرغ يحيى من شعره ونظامه وفهم سعيد فحوى كلامه، زاد عليه الحال واستعظم المقال وصاح على الجلاد ان يقطع رأس الثلاثة قصاصا لهم على ذلك الإفتراء، فنهض يونس على الأقدام واعتذر اليه بالكلام، وقال ان هؤلاء الشعراء من اوباش العربان لأنهم تكلموا بحضرتك بما لايليق من الكلام، فان اردت انشدك ابياتا ما سمعها قط انسان الا استحسنها، فقال بارك الله فيك انشد وخذ مني ما يرضيك، فان صدري ضاق وقلبي يحدثني بالفراق فاتشد يونس شعرا اسوا من شعر يحيى. فلما فرغ يونس من شعره ونظامه وفهم سعيد فحوى كلامه، عظم عليه الامر وتوقد قلبه بلهيب الجمر وقال لهم لهم احضرناكم يا لئام. حتى تطربونا بالشعر والنظام وتاخذون الجوائز والانعام، ولكنكم اساتم الادب وخرجتم عن سنة العرب، وتكلمتم بما لا يليق امامس ولا اعتبرتم قدري ومقامي، فلا بد من قتلكم على كلام الزور والنفاق، فلما انتهى من هذا المقال التقاه ابو زيد مثل سبع الآجام وضربه على رأسه بالحسام فقتله في الحال وأورثه الخبال ثم هجم على باقي العبيد وتيعه مرعي ويحيى ويونس الفرسان الصناديد، ولم تكن إلاّ لحظة من الزمان حتى انزلوا بهم الهوان، ومسحوهم بالسيف الهندوان، وبعد ذلك جمع أبو زيد سادات القبيلة والوجوه الكبار، وقال لهم: ها قد قتلت هذا العبد الغدار وجماعته الأشرار، لأنهم قد طغوا وتجبروا فلا رحم الله العبد اللئيم والوغد الذميم، لأن مرادي استخلاص المملكة من مغامس اليتيم، وأخذ ابنه عمه شاة الريم، فمرادي الآن أن أقيمه أميرا مقام أبيه فما هو رأيكم وماذا تقولون فيه: قالوا هو ابن مولانا وقد رضيناه علينا أميرا ونح عبيده وطوع يديه ولا نبخل بأرواحنا عليه، فعند ذلك ركب أبو زيد الحصان وركبت معه الأبطال والفرسان والسادات والأعيان، وقصدوا الأمير مغامس ومعهم الطبول والزمور، حتى وصلوا اليه فسلموا عليه وتمثلوا بين يديه، وأعلمه أبو زيد بواقعة الحال وكيف أنه قتل ذلك العبد المحتال، ففرح مغامس بهذا الخبر وزال عنه القلق والضجر، ثم أحضره الى الحلة مع أمه بموكب عظيم وزفوا عليه ابنة عمه شاة الريم، واجلسه على الكرسي مكان أبيه وصارت العرب تمدحه وتهاديه، لأنه تخلص من أيدي اولئك العبيد الأوباش، فشكروا أبو زيد ومرعي ويونس على ذلك الصنيع واراد ان يمنعهم عن السفر الى تونس، وان يبقوا عنده فيزيد فرحه ويستانس بهم. فقال أبو زيد ثلاثة ايام في فرح وسرور وغبطة وحبور، وبعد ذلك ودع الأمير مغامس وسار مرعي ويحيى ويونس، قاصدين مدينة تونس وهم يجدون في قطع الروابي والتلال، فوصلوا الى مكة المشرفة وقلوبهم على زيارة المصطفى متلهفة، وبعد ان زاروا المقام وادوا واجبات الوقار والاحترام، اجتمعوا في بيت شكر الشريف بن هاشم وهو زوج الجازية اخت الأمير حسن، واعلموهم بخروجهم من الوطن فترحب بهم وأكرمهم بمشاهدة أبو زيد ومرعي ويحيى ويونس، ثم أنهم ركبوا وساروا يقطون البراري والآكام حتى اشرفوا الى بلاد العجم، فدخلوا عليها وداروا في اسواقها وبعد ذلك رحلوا من تلك الديار، وواصلوا سير الليل بسير النهار حتى وصلوا الى بلاد التركمان، فدخلوا على ملكها الغضبان ومدحوه بالقصائد الحسان، فاكرمهم غاية الاكرام واجازهم بنفائس الانعام، ثم ركبوا الخيول وجدوا في قطع البراري والسهول الى ان وصلوا الى عند السلام الخفاجي عامر حاكم بلاد العراق، فدخلوا وسلموا عليه فرد السلام عليهم واكرمهم غاية الاكرام ثم ان أبو زيد أخذ يمدح الخفاجي عامر، وطلب ان يمن عليه بانعامه.فلما انتهى أبو زيد من شعره ونظامه وفهم الخفاجي عامر فحوى كلامه، اجازهم بالجوائز الحسان ثم قدم لهم الطعام، فشكروه على هذا الاهتمام واقاموا عنده ثلاثة ايام في عز واكرام ثم ودعوه وجدوا في قطع البراري والآكام الى ان وصلوا الى الشهباء، وكانوا قد تعبوا من السفر، فنزلوا عن خيولهم واستظلوا تحت اغصان الشجر، وكان أمير المدينة رجلا عالي المقام اسمه الأمير بدريس وله وزير عاقل خبير اسمع الخزاعي، وهو صاحب رأي وتدبير فاتفق انه خرج في جماعة من القوم قاصدا الصيد والقنص، فرأى أبو زيد ومن معه فسلم عليه وسالهم عن احوالهم فنهض أبو زيد وحياه، وانشده فاكرمه الأمير واعطاه.فلما انتهى أبو زيد من هذا الشعر والنظام شكره الخزاعي وقال لهم اعلموا يا شعار العرب واصحاب الفضل والادب، اني الخزاعي وزير بدريس أمير حلب فاقصدوني الى المدينة وانا اخلع عليكم الخلع الثمينة، فيزول عنكم العنا وتنالوا القصد والمنى، ثم تركهم وسار فارسل أبو زيد الأمير يونس الى البلد لياتيهم بالماكل والمشرب لأنهم كانوا في غاية الجوع، فسار بالعجل وجعل يدور فيها ويتامل في اسواقها وحسن مبانيها ثم رجع واخذ يشرح لأبي زيد عن حسن المدينة وعما شاهد فيها من القلاع الحصينة، وبعد ذلك ركب مع جماعته مرعي ويحيى ويونس وجدوا في قطع البراري والآكام ومروا بحماة وحمص وطرابلس حتى اشرفوا على مدينة الشام، وكان الحاكم عليها في ذلك الزمان ملك عظيم الشأن إسمه شبيب التبعي ابن مالك حسان، وساروا ولو كان أجنحة لطاروا الى ان وصلوا الى القدس الشريف، فاقاموا بها يومين ومنها ساروا الى غزة ودخلوا على حاكمها الشركسي ابن نازب، فمدحوه بنفائس الأشعار واعتبرهم غاية الإعتبار، واقاموا عنده عشرة ايام، ثم جدوا في السير حتى وصلوا الى مصر العدية وتلك الأراضي البهية، فقصدوا الفرمند بن متوج ودخلوا عليه ومدحوه بنفائس الأشعار فالتقاهم بالترحيب والوقار، واقاموا عنده ثلاثة ايام وساروا قاصدين بلاد الصعيد وبلاد المغارب حتى وصلوا الى عند القاضي بن مقرب، ودخلوا عليه ومدحوه بالأشعار فاعتبرهم غاية الاعتبار وقاموا عنده في اعزاز واكرام، وكان هذا الرجل من اعلى الناس بكرم الضيوفويجود بالالوف وهو الذي ذكره المؤرخ الشهير ابن خلدون في كتابه العبر، ثم تأهب أبو زيد للسفر فودع الماضي وسار مع جماعته.
واتفق ان جماعة من الشعراء العربان كانوا قصدوا بلاد نجد ومدحوا الأمير حسن بن سرحان بالأشعار الحسان كما جرت
العادة في ذلك الزمان، فاجازهم بالعطايا الجميلة والمواهب الجزيلة، وكانت من جملتها جارية من بنات الحي تسمى مي،
فشكروه على هذا الجميل والاحسان ثم ساروا قاصدين بلاد العرب وتلك الأوطان، حتى وصلوا الى تونس الخضراء ومدحوا
الزناتي خليفة والوزراء، فاحسنوا اليهم وانعموا عليهم ثم باعوا تلك الجارية الظريفة الى سعدة بنت الزناتي خليفة، وكانت
سعدة من اجمل البنات، لطيفة الذات، قد اتصفت بالأنس والمحاسن، وشاع ذكرها في جميع الأماكن، تجالس الأدباء وتنادم
الملوك والأمراء ذات أدب وفضل لها معرفة بضرب الرمل، فاتفق انها سالت تلك الجارية ذات يوم عن سبب وقوعها في
ايدي اولئك القوم، فاخبرتها بالقصة وكيف أن الأمير حسن اوهبها لهم على سبيل الهدية، فقالت وهل يوجد نظيري بين نساء
العرب في الحسن والأدب؟ فقالت لها يا صاحبة الجود والكرم انه يوجد بين الأمم من يشبهك في الظرف والجمال ومكارم
الشيم وحسن الخصال، وهو بطل الأبطال وزينة الرجال الأمير مرعي ابن مولاي حسن أمير بني هلال، فلما سمعت سعداء
هذا الكلام تعلق قلبها بمرعي وهام، لأن الإنسان قد يعشق بسمع الآذان قبل المشاهدة والعيان، فقالت سعدة: اذا كان
كلامك هو حقيق فاوصفيه لي على التحقيق فاشارت مي تقول:
لو تنظري يا ست مرعي بنظرة
فنظرة في مرعي تزيل المصايب
له وجه مثل البدر عند اكتماله
وخدود تشبه ساطعات الكواكب
له خد احمر والعيون نواعس
وكالسيف ماضي قفلة الحواجب
وطوله كعود الزان ان كان مايل
خلى نار قلبي تزيد اللهايب
فقالت لها سعداء قومي بنا الى البستان وانا اضرب هناك الرمل، وانظر احوال الذين ذكرتهم الآن، فان قلبي تعلق بهم غاية
التعليق ومرادي ان اعرف اخبارهم على التحقيق، ثم اخذتها معها الى البستان وكان من احسن النزهات فضربت الرمل
وولدت البنات من الأمهات، فتاكد لها ذلك الخبر وعرفت الأمورالتي سوف تجري، وبينما هما في الحديث اقبل عليهما العلام
ابن الزناتي خليفة ونائبه في معاطاة الأحكام، صاحب معرفة وفضل وعقل من خبر الناس في ضرب الرمل، وكان يتردد
على سعدة في اغلب الأيام لأنه من جملة الأهل و بني الأعمام،فسلم عليها فردت السلام واستقبلته بالترحاب والاكرام، فجلس
بقربها وكان قد عرف ما في قلبها لأنه ضرب الرمل في ذلك النهار وظهرت له الأخبار، فاعلمها بافكاره وكشف لها اسراره
فطلبت منه ان يكتم ذلك الخبر ولا يبيح به لأحد من البشر، خوفا عليها من الضرر وقالت له اريد منك يا ابن عمي ان تعلمني
متى حضر هؤلاء القوم لأني بانتظارهم، فاجابها الى ذلك الطلب ووعدها بالمساعدة على بلوغ الأرب، ودعها وسار طالب
الصيد والقنص.
السادات الكرام، فانهم كانوا قد جدوا في قطع الروابي والآكام، مدة عشرة أيام حتى وصلوا الى تونس وقت الظلام، فباتوا
خارج المدينة وفي اليوم التالي صاروا يتأملون في مبانيها فوجدوها متينة وأبراجها حصينة كثيرة القلاع قوية الدفاع،
وانهارها غزيرة وخيراتها كثيرة، فجعلوا يدورون حواليها يتبصرون كيف يكون الهجوم عليها، ثم دخلوا الى بستان واستمروا
تحت أغصان الشجر وكانوا يقطفون ويأكلون الثمر، فبينما هم على تلك الحال إذا اقبل عليهم جماعة من الأبطال أرسلهم
الزناتي ليقبضوا عليهم
يتبع
( الجزء الثاني من تغريبة بني هلال )
يقول الحجازي والحجازي سلامة
ارى الدهر بندر بالملوك الفاضل
يا حيف اهل العز ول زمانهم
ومن بعدهم حكمت اولاد الرذال
يا لهف قلبي على ملوك قد مضوا
حكم بعدهم في الناس خدام عاطل
انا ناصر الايتام بالسيف والقنا
وطاعن الاعادي فوق ظهر الصايل
انا منصف المظلوم جابر خاطره
انا فارس الفرسان ارد الجحافل
انا زوج الزينات لابناء عمهم
وابعد عنهم كل خبيث مماطل
فلا خير في عبد علا فوق سيده
ولا خير في من يغدر اهل الفضائل
فلا تحسب ان الدهر يصفو لظالم
ولا بد ما اريك طعن الذوابل
( قال الراوي ):
فلما انتهى ابو زيد من هذه القصة اغتاظ منه سعيد وقال له: ما هذا الكلام الغليظ الشديد، يا اخس العبيد، فلولا سواد لونك
كنت قطعت راسك، واخمدت انفاسك، فاجلس مكانك واكفنا شرك ولسانك، ودع غيرك يطربنا يا ابن اللئام، فعند ذلك التفت
مرعي وقال له: لا تؤاخذه ولا تغضب عليه، فنه من جملة العبيد الذين لايعرفون مقام الملوك ولا لهم خبرة بحسن التصرف والسلوك،
فان كنت تريد غنيتك الان بقصيد يستحق الانعام ومزيد الاكرام فتزيل اكدارك وتربح افكارك فقال سعيد هات ما عنك فانشد شعرا اسوا من شعر ابو زيد فلما فرغ من كلامه وشعره ونظامه اغتاظ سعيد الغيظ الشديد، وصاح على الجلاد ان يقطع راسه ويخمد انفاسه فمنذ ذلك اعتذر اليه يحى امام الحاضرين وكبار السادات المقدمين، وقال لا تؤاخذهما من هذا القبيل ايها الملك الجليل، فانهما من اناس بهاليل لا يعرفون مضمون الكلام ولا يميزون بين النور والظلام فانا امدحك بابيات حسان ما سمعها احد الا وزال عنه الهم والاحزان لانها تشرح الصدور وتجلب السرور، فقال هات ما عندك لعن الله اباك وجدك فاجاب يحيى بشعر اسوأ من شعر مرعي، فلما فرغ يحيى من شعره ونظامه وفهم سعيد فحوى كلامه، زاد عليه الحال واستعظم المقال وصاح على الجلاد ان يقطع رأس الثلاثة قصاصا لهم على ذلك الإفتراء، فنهض يونس على الأقدام واعتذر اليه بالكلام، وقال ان هؤلاء الشعراء من اوباش العربان لأنهم تكلموا بحضرتك بما لايليق من الكلام، فان اردت انشدك ابياتا ما سمعها قط انسان الا استحسنها، فقال بارك الله فيك انشد وخذ مني ما يرضيك، فان صدري ضاق وقلبي يحدثني بالفراق فاتشد يونس شعرا اسوا من شعر يحيى. فلما فرغ يونس من شعره ونظامه وفهم سعيد فحوى كلامه، عظم عليه الامر وتوقد قلبه بلهيب الجمر وقال لهم لهم احضرناكم يا لئام. حتى تطربونا بالشعر والنظام وتاخذون الجوائز والانعام، ولكنكم اساتم الادب وخرجتم عن سنة العرب، وتكلمتم بما لا يليق امامس ولا اعتبرتم قدري ومقامي، فلا بد من قتلكم على كلام الزور والنفاق، فلما انتهى من هذا المقال التقاه ابو زيد مثل سبع الآجام وضربه على رأسه بالحسام فقتله في الحال وأورثه الخبال ثم هجم على باقي العبيد وتيعه مرعي ويحيى ويونس الفرسان الصناديد، ولم تكن إلاّ لحظة من الزمان حتى انزلوا بهم الهوان، ومسحوهم بالسيف الهندوان، وبعد ذلك جمع أبو زيد سادات القبيلة والوجوه الكبار، وقال لهم: ها قد قتلت هذا العبد الغدار وجماعته الأشرار، لأنهم قد طغوا وتجبروا فلا رحم الله العبد اللئيم والوغد الذميم، لأن مرادي استخلاص المملكة من مغامس اليتيم، وأخذ ابنه عمه شاة الريم، فمرادي الآن أن أقيمه أميرا مقام أبيه فما هو رأيكم وماذا تقولون فيه: قالوا هو ابن مولانا وقد رضيناه علينا أميرا ونح عبيده وطوع يديه ولا نبخل بأرواحنا عليه، فعند ذلك ركب أبو زيد الحصان وركبت معه الأبطال والفرسان والسادات والأعيان، وقصدوا الأمير مغامس ومعهم الطبول والزمور، حتى وصلوا اليه فسلموا عليه وتمثلوا بين يديه، وأعلمه أبو زيد بواقعة الحال وكيف أنه قتل ذلك العبد المحتال، ففرح مغامس بهذا الخبر وزال عنه القلق والضجر، ثم أحضره الى الحلة مع أمه بموكب عظيم وزفوا عليه ابنة عمه شاة الريم، واجلسه على الكرسي مكان أبيه وصارت العرب تمدحه وتهاديه، لأنه تخلص من أيدي اولئك العبيد الأوباش، فشكروا أبو زيد ومرعي ويونس على ذلك الصنيع واراد ان يمنعهم عن السفر الى تونس، وان يبقوا عنده فيزيد فرحه ويستانس بهم. فقال أبو زيد ثلاثة ايام في فرح وسرور وغبطة وحبور، وبعد ذلك ودع الأمير مغامس وسار مرعي ويحيى ويونس، قاصدين مدينة تونس وهم يجدون في قطع الروابي والتلال، فوصلوا الى مكة المشرفة وقلوبهم على زيارة المصطفى متلهفة، وبعد ان زاروا المقام وادوا واجبات الوقار والاحترام، اجتمعوا في بيت شكر الشريف بن هاشم وهو زوج الجازية اخت الأمير حسن، واعلموهم بخروجهم من الوطن فترحب بهم وأكرمهم بمشاهدة أبو زيد ومرعي ويحيى ويونس، ثم أنهم ركبوا وساروا يقطون البراري والآكام حتى اشرفوا الى بلاد العجم، فدخلوا عليها وداروا في اسواقها وبعد ذلك رحلوا من تلك الديار، وواصلوا سير الليل بسير النهار حتى وصلوا الى بلاد التركمان، فدخلوا على ملكها الغضبان ومدحوه بالقصائد الحسان، فاكرمهم غاية الاكرام واجازهم بنفائس الانعام، ثم ركبوا الخيول وجدوا في قطع البراري والسهول الى ان وصلوا الى عند السلام الخفاجي عامر حاكم بلاد العراق، فدخلوا وسلموا عليه فرد السلام عليهم واكرمهم غاية الاكرام ثم ان أبو زيد أخذ يمدح الخفاجي عامر، وطلب ان يمن عليه بانعامه.فلما انتهى أبو زيد من شعره ونظامه وفهم الخفاجي عامر فحوى كلامه، اجازهم بالجوائز الحسان ثم قدم لهم الطعام، فشكروه على هذا الاهتمام واقاموا عنده ثلاثة ايام في عز واكرام ثم ودعوه وجدوا في قطع البراري والآكام الى ان وصلوا الى الشهباء، وكانوا قد تعبوا من السفر، فنزلوا عن خيولهم واستظلوا تحت اغصان الشجر، وكان أمير المدينة رجلا عالي المقام اسمه الأمير بدريس وله وزير عاقل خبير اسمع الخزاعي، وهو صاحب رأي وتدبير فاتفق انه خرج في جماعة من القوم قاصدا الصيد والقنص، فرأى أبو زيد ومن معه فسلم عليه وسالهم عن احوالهم فنهض أبو زيد وحياه، وانشده فاكرمه الأمير واعطاه.فلما انتهى أبو زيد من هذا الشعر والنظام شكره الخزاعي وقال لهم اعلموا يا شعار العرب واصحاب الفضل والادب، اني الخزاعي وزير بدريس أمير حلب فاقصدوني الى المدينة وانا اخلع عليكم الخلع الثمينة، فيزول عنكم العنا وتنالوا القصد والمنى، ثم تركهم وسار فارسل أبو زيد الأمير يونس الى البلد لياتيهم بالماكل والمشرب لأنهم كانوا في غاية الجوع، فسار بالعجل وجعل يدور فيها ويتامل في اسواقها وحسن مبانيها ثم رجع واخذ يشرح لأبي زيد عن حسن المدينة وعما شاهد فيها من القلاع الحصينة، وبعد ذلك ركب مع جماعته مرعي ويحيى ويونس وجدوا في قطع البراري والآكام ومروا بحماة وحمص وطرابلس حتى اشرفوا على مدينة الشام، وكان الحاكم عليها في ذلك الزمان ملك عظيم الشأن إسمه شبيب التبعي ابن مالك حسان، وساروا ولو كان أجنحة لطاروا الى ان وصلوا الى القدس الشريف، فاقاموا بها يومين ومنها ساروا الى غزة ودخلوا على حاكمها الشركسي ابن نازب، فمدحوه بنفائس الأشعار واعتبرهم غاية الإعتبار، واقاموا عنده عشرة ايام، ثم جدوا في السير حتى وصلوا الى مصر العدية وتلك الأراضي البهية، فقصدوا الفرمند بن متوج ودخلوا عليه ومدحوه بنفائس الأشعار فالتقاهم بالترحيب والوقار، واقاموا عنده ثلاثة ايام وساروا قاصدين بلاد الصعيد وبلاد المغارب حتى وصلوا الى عند القاضي بن مقرب، ودخلوا عليه ومدحوه بالأشعار فاعتبرهم غاية الاعتبار وقاموا عنده في اعزاز واكرام، وكان هذا الرجل من اعلى الناس بكرم الضيوفويجود بالالوف وهو الذي ذكره المؤرخ الشهير ابن خلدون في كتابه العبر، ثم تأهب أبو زيد للسفر فودع الماضي وسار مع جماعته.
( قال الراوي ):
واتفق ان جماعة من الشعراء العربان كانوا قصدوا بلاد نجد ومدحوا الأمير حسن بن سرحان بالأشعار الحسان كما جرت
العادة في ذلك الزمان، فاجازهم بالعطايا الجميلة والمواهب الجزيلة، وكانت من جملتها جارية من بنات الحي تسمى مي،
فشكروه على هذا الجميل والاحسان ثم ساروا قاصدين بلاد العرب وتلك الأوطان، حتى وصلوا الى تونس الخضراء ومدحوا
الزناتي خليفة والوزراء، فاحسنوا اليهم وانعموا عليهم ثم باعوا تلك الجارية الظريفة الى سعدة بنت الزناتي خليفة، وكانت
سعدة من اجمل البنات، لطيفة الذات، قد اتصفت بالأنس والمحاسن، وشاع ذكرها في جميع الأماكن، تجالس الأدباء وتنادم
الملوك والأمراء ذات أدب وفضل لها معرفة بضرب الرمل، فاتفق انها سالت تلك الجارية ذات يوم عن سبب وقوعها في
ايدي اولئك القوم، فاخبرتها بالقصة وكيف أن الأمير حسن اوهبها لهم على سبيل الهدية، فقالت وهل يوجد نظيري بين نساء
العرب في الحسن والأدب؟ فقالت لها يا صاحبة الجود والكرم انه يوجد بين الأمم من يشبهك في الظرف والجمال ومكارم
الشيم وحسن الخصال، وهو بطل الأبطال وزينة الرجال الأمير مرعي ابن مولاي حسن أمير بني هلال، فلما سمعت سعداء
هذا الكلام تعلق قلبها بمرعي وهام، لأن الإنسان قد يعشق بسمع الآذان قبل المشاهدة والعيان، فقالت سعدة: اذا كان
كلامك هو حقيق فاوصفيه لي على التحقيق فاشارت مي تقول:
لو تنظري يا ست مرعي بنظرة
فنظرة في مرعي تزيل المصايب
له وجه مثل البدر عند اكتماله
وخدود تشبه ساطعات الكواكب
له خد احمر والعيون نواعس
وكالسيف ماضي قفلة الحواجب
وطوله كعود الزان ان كان مايل
خلى نار قلبي تزيد اللهايب
فقالت لها سعداء قومي بنا الى البستان وانا اضرب هناك الرمل، وانظر احوال الذين ذكرتهم الآن، فان قلبي تعلق بهم غاية
التعليق ومرادي ان اعرف اخبارهم على التحقيق، ثم اخذتها معها الى البستان وكان من احسن النزهات فضربت الرمل
وولدت البنات من الأمهات، فتاكد لها ذلك الخبر وعرفت الأمورالتي سوف تجري، وبينما هما في الحديث اقبل عليهما العلام
ابن الزناتي خليفة ونائبه في معاطاة الأحكام، صاحب معرفة وفضل وعقل من خبر الناس في ضرب الرمل، وكان يتردد
على سعدة في اغلب الأيام لأنه من جملة الأهل و بني الأعمام،فسلم عليها فردت السلام واستقبلته بالترحاب والاكرام، فجلس
بقربها وكان قد عرف ما في قلبها لأنه ضرب الرمل في ذلك النهار وظهرت له الأخبار، فاعلمها بافكاره وكشف لها اسراره
فطلبت منه ان يكتم ذلك الخبر ولا يبيح به لأحد من البشر، خوفا عليها من الضرر وقالت له اريد منك يا ابن عمي ان تعلمني
متى حضر هؤلاء القوم لأني بانتظارهم، فاجابها الى ذلك الطلب ووعدها بالمساعدة على بلوغ الأرب، ودعها وسار طالب
الصيد والقنص.
( قال الراوي ):
هذا ما كان من سعدة وابن عمها العلام، واما ما كان من البطل الهمام والأسد الدرغام أبو زيد فارس الصدام ومن معه من
السادات الكرام، فانهم كانوا قد جدوا في قطع الروابي والآكام، مدة عشرة أيام حتى وصلوا الى تونس وقت الظلام، فباتوا
خارج المدينة وفي اليوم التالي صاروا يتأملون في مبانيها فوجدوها متينة وأبراجها حصينة كثيرة القلاع قوية الدفاع،
وانهارها غزيرة وخيراتها كثيرة، فجعلوا يدورون حواليها يتبصرون كيف يكون الهجوم عليها، ثم دخلوا الى بستان واستمروا
تحت أغصان الشجر وكانوا يقطفون ويأكلون الثمر، فبينما هم على تلك الحال إذا اقبل عليهم جماعة من الأبطال أرسلهم
الزناتي ليقبضوا عليهم
يتبع