إيمـ حرف منسي ــــان
عضو جديد
الأمم لها آجال أيضا
قال تعالى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) [الأعراف/34]
جَعَلَ اللهُ تَعَالَى لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلاً وَمِيقَاتاً قَدَّرَهُ لِهَلاكِهِمْ . فَإِذَا جَاءَ الأَجَلُ الذِي حَدَّدَهُ اللهُ لِهَلاَكِهِمْ ، وَحُلُولِ العِقَابِ بِهِمْ ، أَخَذَهُمْ فَلا يَسْتَطِعُونَ إِبْطَاءً وَلاَ تَعَجُّلاً وَلَوْ سَاعَةً وَاحِدَةً .
"إنها حقيقة أساسية من حقائق هذه العقيدة ، يوقع بها السياق على أوتار القلوب الغافلة - غير الذاكرة ولا الشاكرة - لتستيقظ ، فلا يغرها امتداد الحياة!
والأجل المضروب إما أجل كل جيل من الناس بالموت المعروف الذي يقطع الحياة. وإما أجل كل أمة من الأمم بمعنى الأمد المقدر لقوتها في الأرض واستخلافها .. وسواء هذا الأجل أو ذاك فإنه مرسوم لا يتقدمون عنه ولا يستأخرون."[1]
لقد عني المنهج القرآني بمشاهد القيامة .. البعث والحساب ، والنعيم والعذاب .. عناية واضحة. فلم يعد ذلك العالم الذي وعده اللّه الناس ، بعد هذا العالم الحاضر ، موصوفا فحسب ، بل عاد مصورا محسوسا ، وحيا متحركا ، وبارزا شاخصا .. وعاش المسلمون في ذلك العالم عيشة كاملة. رأوا مشاهده وتأثروا بها ، وخفقت قلوبهم تارة ، واقشعرت جلودهم تارة ، وسرى في نفوسهم الفزع مرة ، وعاودهم الاطمئنان أخرى ، ولاح لهم من بعيد لفح النار ، ورفت إليهم من الجنة أنسام! ومن ثم باتوا يعرفون ذلك العالم تمام المعرفة قبل اليوم الموعود .. والذي يراجع كلماتهم ومشاعرهم عن ذلك العالم يحس أنهم كانوا يعيشون فيه عيشة أعمق وأصدق من حياتهم في هذه الدار الدنيا وكانوا ينتقلون بحسهم كله إليه ، كما ينتقل الإنسان من دار إلى دار ، ومن أرض إلى أرض ، في هذه الحياة المشهودة المحسوسة .. ولم يكن ذلك العالم مستقبلا موعودا في حسهم ، وإنما كان واقعا مشهودا ..
وربما كانت هذه المشاهد - المعروضة هنا - أطول مشاهد القيامة في القرآن ، وأحفلها بالحركة ، وبالمناظر المتتابعة ، وبالحوار المتنوع ، في حيوية فائضة يعجب الإنسان كيف تنقلها الألفاظ ، حيث لا ينقلها للحس هكذا إلا المشاهدة! وهي تجيء في السورة - كما أسلفنا - تعقيبا على قصة آدم ، وخروجه من الجنة هو وزوجه بإغواء الشيطان لهما ، وتحذير اللّه لبني آدم أن يفتنهم الشيطان كما أخرج أبويهم من الجنة ، وتحذيرهم من اتباع عدوهم القديم فيما يوحي به إليهم ويوسوس ، وتهديدهم بتولية الشيطان لهم إن هم اختاروا اتباعه على اتباع ما سيرسل به الرسل إليهم من الهدى والشريعة .. ثم يأخذ في عرض مشهد الاحتضار ، ومشاهد القيامة - وكأنها تالية له بلا فاصل من الزمان! - فإذا الذي يقع فيها مصداق ما ينبئ به هؤلاء الرسل ، وإذا الذين يطيعون الشيطان قد حرموا العودة إلى الجنة ، وفتنوا عنها كما أخرج أبويهم منها. وإذا الذين خالفوا الشيطان فأطاعوا اللّه ، قد ردوا إلى الجنة ، ونودوا من الملأ الأعلى : «أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. فكأنما هي أوبة المهاجرين ، وعودة المغتربين ، إلى دار النعيم! وفي هذا التناسق بين القصة السابقة والتعقيبات عليها ، ومشاهد القيامة اللاحقة من مبدئها إلى منتهاها من الجمال ما فيه. فهي قصة تبدأ في الملأ الأعلى ، على مشهد من الملائكة - يوم أن خلق اللّه آدم وزوجه وأسكنهما الجنة ، فدلاهما الشيطان عن مرتبة الطاعة والعبودية الكاملة الخالصة ، وأخرجهما من الجنة - وتنتهي كذلك في الملأ الأعلى على مشهد من الملائكة .. فيتصل البدء بالنهاية. ويضمان بينهما فترة الحياة الدنيا ومشهد الاحتضار في نهايتها. وهو يتسق في الوسط مع البدء والنهاية كل الاتساق.
والآن نأخذ في استعراض هذه المشاهد العجيبة :
ها نحن أولاء أمام مشهد الاحتضار. احتضار الذين افتروا على اللّه الكذب ، فزعموا أن ما ورثوه عن آبائهم من التصورات والشعائر ، وما شرعوه هم لأنفسهم من التقاليد والأحكام ، أمرهم به اللّه ، والذين كذبوا بآيات اللّه التي جاءهم بها الرسل - وهي شرع اللّه المستيقن - وآثروا الظن والخرص على اليقين والعلم. وقد نالوا نصيبهم من متاع الدنيا الذي كتب لهم ، ومن فترة الابتلاء التي قدرها اللّه ، كما نالوا نصيبهم من آيات اللّه التي أرسل بها رسله وأبلغهم الرسل نصيبهم من الكتاب : «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ؟ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ ، حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ، قالُوا : أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قالُوا : ضَلُّوا عَنَّا ، وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ» ..
ها نحن أولاء أمام مشهد هؤلاء الذين افتروا على اللّه كذبا أو كذبوا بآياته وقد جاءتهم رسل ربهم من الملائكة يتوفونهم ، ويقبضون أرواحهم. فدار بين هؤلاء وهؤلاء حوار : «قالُوا : أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟» ..
أين دعاويكم التي افتريتم على اللّه؟ وأين آلهتكم التي توليتم في الدنيا ، وفتنتم بها عما جاءكم من اللّه على لسان الرسل؟ أين هي الآن في اللحظة الحاسمة التي تسلب منكم فيها الحياة فلا تجدون لكم عاصما من الموت يؤخركم ساعة عن الميقات الذي أجله اللّه؟
ويكون الجواب هو الجواب الوحيد ، الذي لا معدى عنه ، ولا مغالطة فيه : «قالُوا : ضَلُّوا عَنَّا»! غابوا عنا وتاهوا! فلا نحن نعرف لهم مقرا ، ولا هم يسلكون إلينا طريقا! .. فما أضيع عبادا لا تهتدي إليهم آلهتهم ، ولا تسعفهم في مثل هذه اللحظة الحاسمة! وما أخيب آلهة لا تهتدي إلى عبادها. في مثل هذا الأوان!
«وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ» ..وكذلك شهدناهم من قبل في سياق السورة عند ما جاءهم بأس اللّه في الدنيا : «فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا : إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ»! فإذا انتهى مشهد الاحتضار ، فنحن أمام المشهد التالي ، وهؤلاء المحتضرون في النار! .. [2]
وقال تعالى : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) [يونس/48-53]
وَيُمْعِنُ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ فِي تَكْذِيبِهِمْ بِاليَوْمِ الآخِرِ ، فَيَسْتَعْجِلُونَ بِهِ سَاخِرِينَ مُتَهَكِّمِينَ ، وَيَقُولُونَ : مَتَى يَكُونُ هَذا الَّذِي تَعِدُنَا بِهِ مِنَ العَذَابِ ، إِنْ كُنْتَ يِا مُحَمَّدُ وَأَصْحَابُكَ صَادِقِينَ فِيمَا تَعِدُونَنَا بِهِ مِنْ حَشْرٍ وَحِسَابٍ وَجَزَاءٍ؟
قُلْ لِهَؤُلاَءِ المُسْتَعْجِلِينَ بِالعَذَابِ : إِنِّي بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً ، وَلاَ أَمْلِكُ إِنْزَالَ العَذَابِ بِالكُفَّارِ المُعَانِدِينَ ، وَلاَ تَحْقِيقِ النَّصْرِ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَالقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ ، يُحَقِّقُهُ مَتَى شَاءَ ، وَلِكُلِّ أَمَّةٍ أَجَلٌ ، فَإَذَا جَاءَ الأَجَلُ فَلاَ يَمْلِكُ أَحَدٌ أَنْ يُقَدِّمَهُ أَوْ يُؤَخِّرَهُ سَاعَةً عَنِ الوَقْتِ الذِي حَدَّدَهُ اللهُ لَهَا .
قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ الكَرِيمُ لِهَؤُلاَءِ المُسْتَعْجِلِينَ بِالعَذَابِ : أَخْبِرُونِي عَنْ حَالِكُمْ ، وَمَا يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَفْعَلُوهُ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ الذِي تَسْتَعْجِلُونَهُ ، فِي وَقْتِ مَبِيتِكُمْ بِاللَّيْلِ ، أَوْ وَقتِ اشْتِغَالِكُمْ بِلَهْوِكُمْ وَلَعِبِكُمْ وَأُمُورِ مَعَايِشِكُمْ نَهَاراً؟ وَأَيَّ عَذَابٍ يَسْتَعْجِلُ بِهِ هَؤُلاَءِ المُجْرِمُونَ المُكَذِّبُونَ؟ أَهُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا أَمْ عَذَابُ يَوْمِ القِيَامَةِ؟ وَاسْتِعْجَالِهِمْ بِالعَذَابِ أَيّاً كَانَ فَهُو جَهَالَةٌ .وَحِينَ يَقَعُ العَذَابُ يُعْلِنُونَ إِيمَانَهُمْ ، وَيَقُولُونَ : رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا ، كَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى .وَيُقَرِّعُهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَسْلَكِهِمْ هَذَا فَيَقُولُ لَهُمْ : أآمَنْتُمْ بِهِ الآنَ حِينَمَا وَقَعَ ، وَكُنْتُمْ قَبْلاً تُكَذِّبُونَ بِهِ ، وَتَسْخَرُونَ مِنْهُ ، وَتَسْتَعْجِلُونَ بِهِ؟
وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُقَالُ لِهَؤُلاَءِ الذِينَ رَأَوا العَذَابَ فَآمَنُوا : ذُوقُوا عَذَاباً تَخْلُدُونَ فِيهِ ، وَهُوَ جَزَاءٌ وِفَاقٌ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرونَ ، وَتَكْسِبُونَ مِنْ ظُلْمٍ ، وَفَسَادٍ فِي الأَرْضِ .
وَيَسْتَخْبِرُكَ الكَافِرُونَ الذِينَ تَعِدُهُمْ بِالعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَأَنَّ اللهَ سَيَبْعَثُ مَنْ فِي القُبُورِ مِنَ الأَمْوَاتِ لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ ، أَحَقّاً سَيَقَعُ ذَلِكَ ، أَمْ أَنَّهُ إِرْهَابٌ وَتَخْوِيفٌ؟ وَهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الإِنْكَارِ وَالاسْتِهْزَاءِ ، فَقُلْ لَهُمْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌ ، وَلَيْسَ فِي صَيْرُورَتِكُمْ تُرَاباً مَا يُعْجِزُ اللهُ عَنْ إِعَادَتِكُمْ كَمَا بَدَأَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنَ العَدَمِ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ البَعْثِ مَا يُعْجِزُ اللهَ .[3]
"إن أمر هذا اليوم لا يعلمه إلا اللّه .. وهو سبحانه وحده الذي يملك الكشف عنه ، وليس للنبىّ ولا لغيره سلطان إلى جانب سلطان اللّه ، ولا تقدير مع تقديره ..
فالنبىّ ، لا يملك لخاصّة نفسه شيئا .. إنه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ضرّا ، أو يجلب لها خيرا إلا ما شاء اللّه وأراد له ، من دفع الضرّ عنه ، وجلب الخير له ..فكيف يكون له سلطان فى مصائر النّاس ، ومقادير العباد ؟ « لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ » عند اللّه « إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ » التقوا بهذا اليوم الموعود الذي يسألون عنه الآن سؤال المنكر : « متى هو ؟ ». . « فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ » بل يمضى فيهم قدر اللّه ، وتنفذ فيهم مشيئته فى الوقت المقدور ، إذ لا مبدّل لكلماته ، ولا معوّق ولا معطل لمشيئته .. تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
وفى قوله تعالى : « قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً » ـ فى هذا ما يسأل عنه ، وهو : إذا كان الإنسان يملك النفع لنفسه ، بما يعمل فى سبيل ما يعود بالنفع عليه والخير له .. فكيف يملك الضرّ لنفسه ، ويسوقه إليها ؟
وهل هذا مما يكون من إنسان ، فضلا عن النبي الكريم ؟
والجواب ـ واللّه أعلم ـ أن ذلك للدلالة على سلطان اللّه سبحانه وتعالى فى عباده ، وأنه ليس لأحد منهم شىء مع سلطان اللّه القائم عليه ، فى ذات نفسه ، حتى لو أراد ـ متعمدا ـ أن يسوق إلى نفسه شرا ، أو يوردها مورد الهلاك ، فإن ذلك ليس إلى يده ، وإنّما هو للّه سبحانه وتعالى ..
والضرّ لا يتكلّف له الإنسان جهدا ، ولا يبذل له مالا ، وحسبه أن يقف موقفا سلبيّا من الحياة ، وعند ذلك يجد الضّرّ يزحف عليه من كل جهة .. على خلاف النفع ، فإنه لا يحصّل إلا بجهد ، ولا ينال إلا ببذل وعمل .. ومن هنا كان عجز الإنسان عن أن يملك لنفسه ضرّا ـ أبلغ وأظهر فى الدلالة على ضعف الإنسان وعجزه ، وأنه إذا عجز عن أن يملك لنفسه ضرّا ، فإنه أعجز من أن يملك لها نفعا ..قوله تعالى : « قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ».
الضمير فى قوله تعالى : « عذابه » يعود إلى « الوعد » فى قوله تعالى : «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » وهو يوم القيامة .. الذي يسأل عنه المجرمون هذا السؤال الإنكارى : متى هو ؟ . حتى لكأنهم قد عملوا له ، واستعدّوا للقائه ، فاستعجلوا الجزاء الحسن الذي ينتظرهم فيه!!
وفى قوله تعالى : « بَياتاً أَوْ نَهاراً » إشارة إلى أن هذا اليوم لا يأتى على موعد معلوم للناس ، بل إنه سيأتيهم فجأة ، وعلى حين غفلة .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها .. قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي .. لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ .. لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً » (187 : الأعراف).
وفى قوله سبحانه : « ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ » إشارة إلى أن هذا اليوم هو بلاء وويل للمشركين والضالين .. وكل ما فيه هو شرّ واقع بهم ..فماذا يستعجلون من هذا الشرّ ، وذلك العذاب ؟ إن المجرم لا يستعجل قطف ثمار ما زرع من شرّ ، ولكن هؤلاء المجرمين .. حمقى جهلاء ، لا يدرون ما هو واقع بهم فى هذا اليوم العصيب ، فهم لذلك يستعجلونه استعجال الجزاء الحسن المحبوب.
قوله تعالى : « أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ؟ ».« أثمّ » الهمزة للاستفهام ، وثمّ حرف عطف ، عطف ما بعده على كلام سابق محذوف ، تقديره : أتستعجلون هذا اليوم ، ثم إذا ما وقع آمنتم به ؟
إن ذلك الإيمان لا ينفعكم شيئا ، ولا يدفع عنكم عذاب اللّه الواقع بكم .. فهلّا آمنتم به الآن فى هذا الوقت ، وأنتم فى سعة من أمركم ، قبل أن يلقاكم هذا اليوم ، وينزل بكم فيه البلاء ، ويحلّ عليكم العذاب ؟
وفى قوله تعالى : « آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ » استفهام إنكارىّ لإيمانهم بهذا اليوم ، يوم يقع بهم. وقد كانوا فى دنياهم ينكرونه ، ويبالغون فى إنكاره ، ويستعجلون مجيئه ، إمعانا فى الإنكار والاستهزاء ، بقولهم :« متى هو ؟ ».و« آلآن » أصله « الآن » أي الحال والوقت ، ثم دخلت عليه همزة الاستفهام. فصار « أالآن » ثم صارت الهمزتان همزة مدّ ، أي : آلآن تؤمنون به بعد أن وقع ؟ ."[4]
" وإذا كان الرسول - r - لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، فهو لا يملك لهم الضر والنفع بطبيعة الحال. (و قد قدم ذكر الضر هنا ، وإن كان مأمورا أن يتحدث عن نفسه ، لأنهم هم يستعجلون الضر ، فمن باب التناسق قدم ذكر الضر. أما في موضع آخر في سورة الأعراف فقدم النفع في مثل هذا التعبير ، لأنه الأنسب أن يطلبه لنفسه وهو يقول : ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسي السوء).
«قُلْ : لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً .. إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ..».فالأمر إذن للّه يحقق وعيده في الوقت الذي يشاؤه. وسنة اللّه لا تتخلف ، وأجله الذي أجله لا يستعجل :«لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ، إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» ..
والأجل قد ينتهي بالهلاك الحسي. هلاك الاستئصال كما وقع لبعض الأمم الخالية. وقد ينتهي بالهلاك المعنوي. هلاك الهزيمة والضياع. وهو ما يقع للأمم ، إما لفترة تعود بعدها للحياة ، وإما دائما فتضمحل وتنمحي شخصيتها وتنتهي إلى اندثارها كأمة ، وإن بقيت كأفراد .. وكل أولئك وفق سنة اللّه التي لا تتبدل ، لا مصادفة ولا جزافا ولا ظلما ولا محاباة. فالأمم التي تأخذ بأسباب الحياة تحيا والأمم التي تنحرف عنها تضعف أو تضمحل أو تموت بحسب انحرافها. والأمة الإسلامية منصوص على أن حياتها في اتباع رسولها ، والرسول يدعوها لما يحييها. لا بمجرد الاعتقاد ، ولكن بالعمل الذي تنص عليه العقيدة في شتى مرافق الحياة. وبالحياة وفق المنهج الذي شرعه اللّه لها ، والشريعة التي أنزلها ، والقيم التي قررها. وإلا جاءها الأجل وفق سنة اللّه ..
ثم يبادرهم السياق بلمسة وجدانية تنقلهم من موقف السائل المستهزئ المتحدي ، إلى موقف المهدّد الذي قد يفاجئه المحظور في كل لحظة من الليل أو النهار : «قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ، ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ؟» ..لا يجديكم في رده الصحو .. ما الذي يستعجل منه المجرمون؟ وهو عذاب لا خير لهم في استعجاله على كل حال.
وبينما هم في مفاجأة السؤال الذي ينقل مشاعرهم إلى تصور الخطر وتوقعه ، تفجؤهم الآية التالية بوقوعه فعلا .. وهو لم يقع بعد .. ولكن التصور القرآني يرسمه واقعا ، ويغمر به المشاعر ، ويلمس به الوجدان : «أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ؟ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ؟!».
فكأنما قد وقع. وكأنما قد آمنوا به ، وكأنما يخاطبون بهذا التبكيت في مشهد حاضر يشهدونه الآن! وتتمة المشهد الحاضر :«ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا : ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ. هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ؟» ..
وهكذا نجدنا مع السياق في ساحة الحساب والعذاب ، وقد كنا منذ لحظات وفقرات في الدنيا نشهد خطاب اللّه لرسوله عن هذا المصير!!
وختام هذه الجولة ، هو استنباء القوم للرسول : إن كان هذا الوعيد حقا. فهم مزلزلون من الداخل تجاهه يريدون أن يستوثقوا وليس بهم من يقين. والجواب بالإيجاب حاسم مؤكد بيمين : «وَيَسْتَنْبِئُونَكَ : أَحَقٌّ هُوَ؟ قُلْ : إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» .. «إِي وَرَبِّي» ..الذي أعرف قيمة ربوبيته فلا أقسم به حانثا ، ولا أقسم به إلا في جد وفي يقين ..«إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» ..ما أنتم بمعجزين أن يأتي بكم ، وما أنتم بمعجزين أن يحاسبكم ، وأن يجازيكم."[5]
_____________
[1] - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1285)
[2] - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1288)
[3] - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1413)
[4] - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 1026)
[5] - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع
منقول
- (3 / 1797)قال تعالى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) [الأعراف/34]
جَعَلَ اللهُ تَعَالَى لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلاً وَمِيقَاتاً قَدَّرَهُ لِهَلاكِهِمْ . فَإِذَا جَاءَ الأَجَلُ الذِي حَدَّدَهُ اللهُ لِهَلاَكِهِمْ ، وَحُلُولِ العِقَابِ بِهِمْ ، أَخَذَهُمْ فَلا يَسْتَطِعُونَ إِبْطَاءً وَلاَ تَعَجُّلاً وَلَوْ سَاعَةً وَاحِدَةً .
"إنها حقيقة أساسية من حقائق هذه العقيدة ، يوقع بها السياق على أوتار القلوب الغافلة - غير الذاكرة ولا الشاكرة - لتستيقظ ، فلا يغرها امتداد الحياة!
والأجل المضروب إما أجل كل جيل من الناس بالموت المعروف الذي يقطع الحياة. وإما أجل كل أمة من الأمم بمعنى الأمد المقدر لقوتها في الأرض واستخلافها .. وسواء هذا الأجل أو ذاك فإنه مرسوم لا يتقدمون عنه ولا يستأخرون."[1]
لقد عني المنهج القرآني بمشاهد القيامة .. البعث والحساب ، والنعيم والعذاب .. عناية واضحة. فلم يعد ذلك العالم الذي وعده اللّه الناس ، بعد هذا العالم الحاضر ، موصوفا فحسب ، بل عاد مصورا محسوسا ، وحيا متحركا ، وبارزا شاخصا .. وعاش المسلمون في ذلك العالم عيشة كاملة. رأوا مشاهده وتأثروا بها ، وخفقت قلوبهم تارة ، واقشعرت جلودهم تارة ، وسرى في نفوسهم الفزع مرة ، وعاودهم الاطمئنان أخرى ، ولاح لهم من بعيد لفح النار ، ورفت إليهم من الجنة أنسام! ومن ثم باتوا يعرفون ذلك العالم تمام المعرفة قبل اليوم الموعود .. والذي يراجع كلماتهم ومشاعرهم عن ذلك العالم يحس أنهم كانوا يعيشون فيه عيشة أعمق وأصدق من حياتهم في هذه الدار الدنيا وكانوا ينتقلون بحسهم كله إليه ، كما ينتقل الإنسان من دار إلى دار ، ومن أرض إلى أرض ، في هذه الحياة المشهودة المحسوسة .. ولم يكن ذلك العالم مستقبلا موعودا في حسهم ، وإنما كان واقعا مشهودا ..
وربما كانت هذه المشاهد - المعروضة هنا - أطول مشاهد القيامة في القرآن ، وأحفلها بالحركة ، وبالمناظر المتتابعة ، وبالحوار المتنوع ، في حيوية فائضة يعجب الإنسان كيف تنقلها الألفاظ ، حيث لا ينقلها للحس هكذا إلا المشاهدة! وهي تجيء في السورة - كما أسلفنا - تعقيبا على قصة آدم ، وخروجه من الجنة هو وزوجه بإغواء الشيطان لهما ، وتحذير اللّه لبني آدم أن يفتنهم الشيطان كما أخرج أبويهم من الجنة ، وتحذيرهم من اتباع عدوهم القديم فيما يوحي به إليهم ويوسوس ، وتهديدهم بتولية الشيطان لهم إن هم اختاروا اتباعه على اتباع ما سيرسل به الرسل إليهم من الهدى والشريعة .. ثم يأخذ في عرض مشهد الاحتضار ، ومشاهد القيامة - وكأنها تالية له بلا فاصل من الزمان! - فإذا الذي يقع فيها مصداق ما ينبئ به هؤلاء الرسل ، وإذا الذين يطيعون الشيطان قد حرموا العودة إلى الجنة ، وفتنوا عنها كما أخرج أبويهم منها. وإذا الذين خالفوا الشيطان فأطاعوا اللّه ، قد ردوا إلى الجنة ، ونودوا من الملأ الأعلى : «أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. فكأنما هي أوبة المهاجرين ، وعودة المغتربين ، إلى دار النعيم! وفي هذا التناسق بين القصة السابقة والتعقيبات عليها ، ومشاهد القيامة اللاحقة من مبدئها إلى منتهاها من الجمال ما فيه. فهي قصة تبدأ في الملأ الأعلى ، على مشهد من الملائكة - يوم أن خلق اللّه آدم وزوجه وأسكنهما الجنة ، فدلاهما الشيطان عن مرتبة الطاعة والعبودية الكاملة الخالصة ، وأخرجهما من الجنة - وتنتهي كذلك في الملأ الأعلى على مشهد من الملائكة .. فيتصل البدء بالنهاية. ويضمان بينهما فترة الحياة الدنيا ومشهد الاحتضار في نهايتها. وهو يتسق في الوسط مع البدء والنهاية كل الاتساق.
والآن نأخذ في استعراض هذه المشاهد العجيبة :
ها نحن أولاء أمام مشهد الاحتضار. احتضار الذين افتروا على اللّه الكذب ، فزعموا أن ما ورثوه عن آبائهم من التصورات والشعائر ، وما شرعوه هم لأنفسهم من التقاليد والأحكام ، أمرهم به اللّه ، والذين كذبوا بآيات اللّه التي جاءهم بها الرسل - وهي شرع اللّه المستيقن - وآثروا الظن والخرص على اليقين والعلم. وقد نالوا نصيبهم من متاع الدنيا الذي كتب لهم ، ومن فترة الابتلاء التي قدرها اللّه ، كما نالوا نصيبهم من آيات اللّه التي أرسل بها رسله وأبلغهم الرسل نصيبهم من الكتاب : «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ؟ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ ، حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ، قالُوا : أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قالُوا : ضَلُّوا عَنَّا ، وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ» ..
ها نحن أولاء أمام مشهد هؤلاء الذين افتروا على اللّه كذبا أو كذبوا بآياته وقد جاءتهم رسل ربهم من الملائكة يتوفونهم ، ويقبضون أرواحهم. فدار بين هؤلاء وهؤلاء حوار : «قالُوا : أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟» ..
أين دعاويكم التي افتريتم على اللّه؟ وأين آلهتكم التي توليتم في الدنيا ، وفتنتم بها عما جاءكم من اللّه على لسان الرسل؟ أين هي الآن في اللحظة الحاسمة التي تسلب منكم فيها الحياة فلا تجدون لكم عاصما من الموت يؤخركم ساعة عن الميقات الذي أجله اللّه؟
ويكون الجواب هو الجواب الوحيد ، الذي لا معدى عنه ، ولا مغالطة فيه : «قالُوا : ضَلُّوا عَنَّا»! غابوا عنا وتاهوا! فلا نحن نعرف لهم مقرا ، ولا هم يسلكون إلينا طريقا! .. فما أضيع عبادا لا تهتدي إليهم آلهتهم ، ولا تسعفهم في مثل هذه اللحظة الحاسمة! وما أخيب آلهة لا تهتدي إلى عبادها. في مثل هذا الأوان!
«وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ» ..وكذلك شهدناهم من قبل في سياق السورة عند ما جاءهم بأس اللّه في الدنيا : «فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا : إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ»! فإذا انتهى مشهد الاحتضار ، فنحن أمام المشهد التالي ، وهؤلاء المحتضرون في النار! .. [2]
وقال تعالى : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) [يونس/48-53]
وَيُمْعِنُ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ فِي تَكْذِيبِهِمْ بِاليَوْمِ الآخِرِ ، فَيَسْتَعْجِلُونَ بِهِ سَاخِرِينَ مُتَهَكِّمِينَ ، وَيَقُولُونَ : مَتَى يَكُونُ هَذا الَّذِي تَعِدُنَا بِهِ مِنَ العَذَابِ ، إِنْ كُنْتَ يِا مُحَمَّدُ وَأَصْحَابُكَ صَادِقِينَ فِيمَا تَعِدُونَنَا بِهِ مِنْ حَشْرٍ وَحِسَابٍ وَجَزَاءٍ؟
قُلْ لِهَؤُلاَءِ المُسْتَعْجِلِينَ بِالعَذَابِ : إِنِّي بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً ، وَلاَ أَمْلِكُ إِنْزَالَ العَذَابِ بِالكُفَّارِ المُعَانِدِينَ ، وَلاَ تَحْقِيقِ النَّصْرِ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَالقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ ، يُحَقِّقُهُ مَتَى شَاءَ ، وَلِكُلِّ أَمَّةٍ أَجَلٌ ، فَإَذَا جَاءَ الأَجَلُ فَلاَ يَمْلِكُ أَحَدٌ أَنْ يُقَدِّمَهُ أَوْ يُؤَخِّرَهُ سَاعَةً عَنِ الوَقْتِ الذِي حَدَّدَهُ اللهُ لَهَا .
قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ الكَرِيمُ لِهَؤُلاَءِ المُسْتَعْجِلِينَ بِالعَذَابِ : أَخْبِرُونِي عَنْ حَالِكُمْ ، وَمَا يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَفْعَلُوهُ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ الذِي تَسْتَعْجِلُونَهُ ، فِي وَقْتِ مَبِيتِكُمْ بِاللَّيْلِ ، أَوْ وَقتِ اشْتِغَالِكُمْ بِلَهْوِكُمْ وَلَعِبِكُمْ وَأُمُورِ مَعَايِشِكُمْ نَهَاراً؟ وَأَيَّ عَذَابٍ يَسْتَعْجِلُ بِهِ هَؤُلاَءِ المُجْرِمُونَ المُكَذِّبُونَ؟ أَهُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا أَمْ عَذَابُ يَوْمِ القِيَامَةِ؟ وَاسْتِعْجَالِهِمْ بِالعَذَابِ أَيّاً كَانَ فَهُو جَهَالَةٌ .وَحِينَ يَقَعُ العَذَابُ يُعْلِنُونَ إِيمَانَهُمْ ، وَيَقُولُونَ : رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا ، كَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى .وَيُقَرِّعُهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَسْلَكِهِمْ هَذَا فَيَقُولُ لَهُمْ : أآمَنْتُمْ بِهِ الآنَ حِينَمَا وَقَعَ ، وَكُنْتُمْ قَبْلاً تُكَذِّبُونَ بِهِ ، وَتَسْخَرُونَ مِنْهُ ، وَتَسْتَعْجِلُونَ بِهِ؟
وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُقَالُ لِهَؤُلاَءِ الذِينَ رَأَوا العَذَابَ فَآمَنُوا : ذُوقُوا عَذَاباً تَخْلُدُونَ فِيهِ ، وَهُوَ جَزَاءٌ وِفَاقٌ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرونَ ، وَتَكْسِبُونَ مِنْ ظُلْمٍ ، وَفَسَادٍ فِي الأَرْضِ .
وَيَسْتَخْبِرُكَ الكَافِرُونَ الذِينَ تَعِدُهُمْ بِالعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَأَنَّ اللهَ سَيَبْعَثُ مَنْ فِي القُبُورِ مِنَ الأَمْوَاتِ لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ ، أَحَقّاً سَيَقَعُ ذَلِكَ ، أَمْ أَنَّهُ إِرْهَابٌ وَتَخْوِيفٌ؟ وَهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الإِنْكَارِ وَالاسْتِهْزَاءِ ، فَقُلْ لَهُمْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌ ، وَلَيْسَ فِي صَيْرُورَتِكُمْ تُرَاباً مَا يُعْجِزُ اللهُ عَنْ إِعَادَتِكُمْ كَمَا بَدَأَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنَ العَدَمِ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ البَعْثِ مَا يُعْجِزُ اللهَ .[3]
"إن أمر هذا اليوم لا يعلمه إلا اللّه .. وهو سبحانه وحده الذي يملك الكشف عنه ، وليس للنبىّ ولا لغيره سلطان إلى جانب سلطان اللّه ، ولا تقدير مع تقديره ..
فالنبىّ ، لا يملك لخاصّة نفسه شيئا .. إنه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ضرّا ، أو يجلب لها خيرا إلا ما شاء اللّه وأراد له ، من دفع الضرّ عنه ، وجلب الخير له ..فكيف يكون له سلطان فى مصائر النّاس ، ومقادير العباد ؟ « لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ » عند اللّه « إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ » التقوا بهذا اليوم الموعود الذي يسألون عنه الآن سؤال المنكر : « متى هو ؟ ». . « فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ » بل يمضى فيهم قدر اللّه ، وتنفذ فيهم مشيئته فى الوقت المقدور ، إذ لا مبدّل لكلماته ، ولا معوّق ولا معطل لمشيئته .. تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
وفى قوله تعالى : « قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً » ـ فى هذا ما يسأل عنه ، وهو : إذا كان الإنسان يملك النفع لنفسه ، بما يعمل فى سبيل ما يعود بالنفع عليه والخير له .. فكيف يملك الضرّ لنفسه ، ويسوقه إليها ؟
وهل هذا مما يكون من إنسان ، فضلا عن النبي الكريم ؟
والجواب ـ واللّه أعلم ـ أن ذلك للدلالة على سلطان اللّه سبحانه وتعالى فى عباده ، وأنه ليس لأحد منهم شىء مع سلطان اللّه القائم عليه ، فى ذات نفسه ، حتى لو أراد ـ متعمدا ـ أن يسوق إلى نفسه شرا ، أو يوردها مورد الهلاك ، فإن ذلك ليس إلى يده ، وإنّما هو للّه سبحانه وتعالى ..
والضرّ لا يتكلّف له الإنسان جهدا ، ولا يبذل له مالا ، وحسبه أن يقف موقفا سلبيّا من الحياة ، وعند ذلك يجد الضّرّ يزحف عليه من كل جهة .. على خلاف النفع ، فإنه لا يحصّل إلا بجهد ، ولا ينال إلا ببذل وعمل .. ومن هنا كان عجز الإنسان عن أن يملك لنفسه ضرّا ـ أبلغ وأظهر فى الدلالة على ضعف الإنسان وعجزه ، وأنه إذا عجز عن أن يملك لنفسه ضرّا ، فإنه أعجز من أن يملك لها نفعا ..قوله تعالى : « قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ».
الضمير فى قوله تعالى : « عذابه » يعود إلى « الوعد » فى قوله تعالى : «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » وهو يوم القيامة .. الذي يسأل عنه المجرمون هذا السؤال الإنكارى : متى هو ؟ . حتى لكأنهم قد عملوا له ، واستعدّوا للقائه ، فاستعجلوا الجزاء الحسن الذي ينتظرهم فيه!!
وفى قوله تعالى : « بَياتاً أَوْ نَهاراً » إشارة إلى أن هذا اليوم لا يأتى على موعد معلوم للناس ، بل إنه سيأتيهم فجأة ، وعلى حين غفلة .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها .. قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي .. لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ .. لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً » (187 : الأعراف).
وفى قوله سبحانه : « ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ » إشارة إلى أن هذا اليوم هو بلاء وويل للمشركين والضالين .. وكل ما فيه هو شرّ واقع بهم ..فماذا يستعجلون من هذا الشرّ ، وذلك العذاب ؟ إن المجرم لا يستعجل قطف ثمار ما زرع من شرّ ، ولكن هؤلاء المجرمين .. حمقى جهلاء ، لا يدرون ما هو واقع بهم فى هذا اليوم العصيب ، فهم لذلك يستعجلونه استعجال الجزاء الحسن المحبوب.
قوله تعالى : « أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ؟ ».« أثمّ » الهمزة للاستفهام ، وثمّ حرف عطف ، عطف ما بعده على كلام سابق محذوف ، تقديره : أتستعجلون هذا اليوم ، ثم إذا ما وقع آمنتم به ؟
إن ذلك الإيمان لا ينفعكم شيئا ، ولا يدفع عنكم عذاب اللّه الواقع بكم .. فهلّا آمنتم به الآن فى هذا الوقت ، وأنتم فى سعة من أمركم ، قبل أن يلقاكم هذا اليوم ، وينزل بكم فيه البلاء ، ويحلّ عليكم العذاب ؟
وفى قوله تعالى : « آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ » استفهام إنكارىّ لإيمانهم بهذا اليوم ، يوم يقع بهم. وقد كانوا فى دنياهم ينكرونه ، ويبالغون فى إنكاره ، ويستعجلون مجيئه ، إمعانا فى الإنكار والاستهزاء ، بقولهم :« متى هو ؟ ».و« آلآن » أصله « الآن » أي الحال والوقت ، ثم دخلت عليه همزة الاستفهام. فصار « أالآن » ثم صارت الهمزتان همزة مدّ ، أي : آلآن تؤمنون به بعد أن وقع ؟ ."[4]
" وإذا كان الرسول - r - لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، فهو لا يملك لهم الضر والنفع بطبيعة الحال. (و قد قدم ذكر الضر هنا ، وإن كان مأمورا أن يتحدث عن نفسه ، لأنهم هم يستعجلون الضر ، فمن باب التناسق قدم ذكر الضر. أما في موضع آخر في سورة الأعراف فقدم النفع في مثل هذا التعبير ، لأنه الأنسب أن يطلبه لنفسه وهو يقول : ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسي السوء).
«قُلْ : لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً .. إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ..».فالأمر إذن للّه يحقق وعيده في الوقت الذي يشاؤه. وسنة اللّه لا تتخلف ، وأجله الذي أجله لا يستعجل :«لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ، إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» ..
والأجل قد ينتهي بالهلاك الحسي. هلاك الاستئصال كما وقع لبعض الأمم الخالية. وقد ينتهي بالهلاك المعنوي. هلاك الهزيمة والضياع. وهو ما يقع للأمم ، إما لفترة تعود بعدها للحياة ، وإما دائما فتضمحل وتنمحي شخصيتها وتنتهي إلى اندثارها كأمة ، وإن بقيت كأفراد .. وكل أولئك وفق سنة اللّه التي لا تتبدل ، لا مصادفة ولا جزافا ولا ظلما ولا محاباة. فالأمم التي تأخذ بأسباب الحياة تحيا والأمم التي تنحرف عنها تضعف أو تضمحل أو تموت بحسب انحرافها. والأمة الإسلامية منصوص على أن حياتها في اتباع رسولها ، والرسول يدعوها لما يحييها. لا بمجرد الاعتقاد ، ولكن بالعمل الذي تنص عليه العقيدة في شتى مرافق الحياة. وبالحياة وفق المنهج الذي شرعه اللّه لها ، والشريعة التي أنزلها ، والقيم التي قررها. وإلا جاءها الأجل وفق سنة اللّه ..
ثم يبادرهم السياق بلمسة وجدانية تنقلهم من موقف السائل المستهزئ المتحدي ، إلى موقف المهدّد الذي قد يفاجئه المحظور في كل لحظة من الليل أو النهار : «قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ، ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ؟» ..لا يجديكم في رده الصحو .. ما الذي يستعجل منه المجرمون؟ وهو عذاب لا خير لهم في استعجاله على كل حال.
وبينما هم في مفاجأة السؤال الذي ينقل مشاعرهم إلى تصور الخطر وتوقعه ، تفجؤهم الآية التالية بوقوعه فعلا .. وهو لم يقع بعد .. ولكن التصور القرآني يرسمه واقعا ، ويغمر به المشاعر ، ويلمس به الوجدان : «أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ؟ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ؟!».
فكأنما قد وقع. وكأنما قد آمنوا به ، وكأنما يخاطبون بهذا التبكيت في مشهد حاضر يشهدونه الآن! وتتمة المشهد الحاضر :«ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا : ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ. هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ؟» ..
وهكذا نجدنا مع السياق في ساحة الحساب والعذاب ، وقد كنا منذ لحظات وفقرات في الدنيا نشهد خطاب اللّه لرسوله عن هذا المصير!!
وختام هذه الجولة ، هو استنباء القوم للرسول : إن كان هذا الوعيد حقا. فهم مزلزلون من الداخل تجاهه يريدون أن يستوثقوا وليس بهم من يقين. والجواب بالإيجاب حاسم مؤكد بيمين : «وَيَسْتَنْبِئُونَكَ : أَحَقٌّ هُوَ؟ قُلْ : إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» .. «إِي وَرَبِّي» ..الذي أعرف قيمة ربوبيته فلا أقسم به حانثا ، ولا أقسم به إلا في جد وفي يقين ..«إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» ..ما أنتم بمعجزين أن يأتي بكم ، وما أنتم بمعجزين أن يحاسبكم ، وأن يجازيكم."[5]
_____________
[1] - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1285)
[2] - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1288)
[3] - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1413)
[4] - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 1026)
[5] - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع
منقول