إيمـ حرف منسي ــــان
عضو جديد
التماسك النصي في قصيدة المثقب العبدي:
شغلت قضية الوحدة الموضوعيّة والوحدة العضويّة في الشعر الجاهلي فكر النقاد قديماً وحديثاً , وكانت آراؤهم حول هاتين القضيتين متباينة . فمنهم من يزعم أنّ القصيدة الجاهليّة مفكّكة مهلهلة , ومنهم من يعتقد غير ذلك , فيذهب إلى أنّها متماسكة مترابطة . وكلّ يجتهد في تقديم الأدلة ليثبت ما يذهب إليه .
وفي هذه الورقة يسعى الباحث إلى رصد ملامح التماسك النصيّ , من خلال السبك (التماسك الشكليّ), والحبك(التماسك الدلاليّ) , آملاً في تقديم صورة واضحة حول الوحدة الموضوعية والوحدة العضويّة في القصيدة الجاهليّة . وفي سبيل ذلك وقع اختياري على قصيدة المثقّب العبدي ( أفاطم قبل بينك متعيني ) , بوصفها من روائع الشعر الجاهلي , بل العربي , لتكون مادة الدراسة .
إنّ القراءة الأولى للقصيدة ستولّد انطباعاً عامّا لدى القارئ , يرى فيه تعدّد موضوعات القصيدة , وأنّها في صورتها الخارجية لا تشكّل حالة من الانسجام والتماسك النصيّ . ويبقى هذا الانطباع مسوّغًا عند هذه المرحلة , ولكنّه يصبح غير مسوّغ إذا أعدنا قراءة النصّ غير مرّة قراءةً واعية , فيها قدر عالٍ من التأمّل والتفكير .
يُعرّف النصيّون التماسك النصيّ بأنّه العلاقات أو الأدوات الشكليّة والدلاليّة التي تسهم في الربط بين عناصر النص الداخلية , وبين النص والبيئة المحيطة من ناحية أخرى [1].وأهم أدوات التماسك النصيّ : الأدوات الدلاليّة كالسياق والإحالة الخارجية , والأدوات الشكليّة كالروابط النحوية والأسلوبيّة [2].
وقصيدة المثقّب تتألف من خمسة وأربعين بيتاً حسب رواية المفضليات , ويمكن للدارس أن يقسمها إلى أربع وحدات دلاليّة : الوحدة الأولى علاقته بفاطمة , وتشكّل الأبيات الأربعة الأولى . والوحدة الثانية وصف رحلة الظعائن, وتتكون من الأبيات الخمسة عشرة التالية . والوحدة الثالثة وصف الناقة , وتتألف من الأبيات الحادية والعشرين التالية . والوحدة الرابعة علاقته بعمرو بن هند الملك , وتشكّل الأبيات الخمسة الأخيرة .
ويظهر لي أنّ الوقوف على القصيدة عن كثب هو ما أطلق الاتهامات على القصيدة الجاهلية بالتفكّك . إننا الآن بتقنيات (نحو النص) سننظر إلى القصيدة بمنهجية تفسح لنا أن نرى القصيدة بطريقة تلغي المرحلة البرزخية بين المَشَاهد , وتُعمّقُ الروابط الشكلية والدلالية بينها , على نحو يثبت حالة التماهي والتواشج بين أجزاء القصيدة .
بداية دعونا نعرض لأسلوب النداء الذي يستهلّ به الشاعر قصيدته , ذلك بأنّ الاستهلال يحتلّ مكانة بارزة من حيث أهميته من ناحية , ومن حيث علاقته ببقيّة أجزاء النصّ من ناحية أخرى , وتحكُّمُه كذلك في هذه الأجزاء [3].
تظهر أهميّة النداء ( أفاطمُ ) من حيث أداة النداء الهمزة التي تُسْتعمَل لنداء القريب , سواء أكان القرب مكاني أم قلبي , وهما واردان في القصيدة , فهي قريبة , لأنها في منازله . وهي قريبة , لأنّها محبوبته . والأهمية الثانية استعماله الاسم ( فاطمة) , وهنا يلحّ علينا سؤالان :
الأول هل هذا الاسم على الحقيقة , أم أنّه رمز للحالة التي بات عليها الشاعر مع محبوبته , خاصّة وأنّ الشاعر يستعمل اسماً أخر في غير هذه القصيدة , فيقول[4] :
ألا إنّ هنداً أمسِ رثّ جديدها وضنّت وما كان المتاع يؤودها
والسؤال الثاني :هل فاطمة امرأة حقيقية أم أنّها رمز ومدخل للقصيدة الجاهلية, تتماهى في أزمتها مع عمرو بن هند؟
إذأً (فاطمة) اسم مكثّف يختزن الحالة الانفعاليّة والتفاعليّة مع المحبوبة . وإذا رجعنا إلى المعجم اللغوي سيكشف لنا البعد الدلالي لهذا الاسم . فالفطم : القطع , وفطم يفطمه : قطعه [5].وفي ضوء ذلك يمكن أن نفهم القصيدة من خلال الطاقة الدلاليّة الكامنة في هذا الاسم الذي يترادف دلاليّا مع ( قطعتها ) و( ما وصلت بها) و(صرمتُ) و (اطّرحني) .
إنّ هذه الكلمة( فاطمة) تشكّل حلقة وصل بين خارج النص , فهي تحيل إلى شخص المحبوبة (إحالة خارجيّة ) , وداخل النص عبر الربط الدلالي بينها وبين الكلمات المترادفة معها . وعليه, فإننا ندرك القيمة الفعلية للكلمة المفتاحيّة أو الجملة المفتاحيّة في بناء النّص ,فالمرسل يركز كل جهوده في هذه الكلمة ؛ إذ يكون ما بعدها غالبا تفسيرا لها . وتمثل كذلك المحور الذي يدور عليه النص [6].
يبدو المَشْهد الأول من القصيدة متوتراً , فالشاعر يطلب من محبوبته أن تمتعه قبل رحيلها , وفي هذا الطلب شيء من الانفعال والتوتر , إذ يتساوى عنده الرفض والرحيل ( ومنعك ما سألتُ كأن تبيني ) . وإذا امعنّا النظر في مرجعيّة البيت , نجد أنّها مرجعيّة خارجيّة ( إحالة إلى ذات الشاعر دون ذكره في البيت ) , ( متعيني – سألتُ ) . ومرجعيّة داخليّة قبليّة ( بينك – متعيني – منعك – تبيني) إحالة داخليّة قبليّة على ( فاطمة) .
ويمكن أن نحلّل المرجعيّة في المشهد الأوّل على النحو الآتي :
البيتين (1-2) : ثلاثة ضمائر للشاعر ( إحالة خارجيّة) , و خمسة للمحبوبة ( إحالة داخليّة قبليّة ) , وضمير يعود على المواعد ( جزء من سلوك المحبوبة) .
البيتين (3-4) :تسعة ضمائر للشاعر ( إحالة خارجية) , وواحد للمحبوبة ( إحالة داخليّة قبليّة ), وثلاثة ليَدِهِ ( الشمال واليمين) إحالة داخليّة قبليّة .
فالمشهد إذاً حافل بالندّيّة وردّ الفعل المنفعل , القائم على مبدأ المعاملة بالمثل( كذلك أجتوي من يجتويني) . فهو ينشد الصدق والإخلاص في المعاملة , فيتكشّف له الأمر في حالة من المصارحة ( فلا تعدي مواعد كاذبات) , فيأخذ موقفاً حاسماً ( إذاً لقطعتها ولقلتُ بيني).
ولما كانت المحبوبة قد عزمت على الرحيل , وهو رحيل بطبيعته جماعي , يمثل حركة الحياة في المجتمع البدوي , بحثاً عن الكلأ والماء . فقد عزم الشاعر على متابعة الرحلة انقياداً لمشاعره الجياشة تجاه المحبوبة التي كانت جزءاً من رحلة الظعائن . ولا ندري هل هي حالة من الضعف أمام قوة العاطفة , أم هي حالة من التحدّي والإصرار على العلاقة التي قامت على الصبر على ( المواعد الكاذبات) .
وعلى الرغم من الحذف الذي يظهر لنا بين المشهد الأول والثاني الذي يعبر عن حالة التجهّز للرحيل والانطلاق في الرحلة , إلا أننا ندرك ذلك من خلال الاستفهام الاستهلالي في المشهد الثاني الذي يوحي بلفت الانتباه إلى الرحلة , والمراقبة الدقيقة للرحلة ( لمن ظعن تطالع من ضبيب), ويمثل الاستفهام رابطا بين المشهدين ( حسن التخلص).
ويمكن أن نصف التماسك النصي بين المشهدين على النحو الآتي :
التجهّز للرحلة توتر العلاقة انطلاق الرحلة ملاحقة المحبوبة
ويمكن أن تكون مرجعيّة الضمائر على النساء في الهوادج , أو على الظعائن . وإن كنتُ في غالب الأحيان أميل إلى الأول ؛ فهو أقرب إلى مقصد الشاعر , ويمكن أن نوضح المرجعيّة على الشكل الآتي :
5 -8 : الظعائن مرجعية داخلية :تطالع , خرجت , مررن , نكّبن , هنّ , قطعن , حمولهن , يشبهن , هنّ
9 -17 : النساء في الهوادج مرجعية خارجية : هنّ , كغزلان , خذلن , ظهرن , سدلن ,ثقبن , هنّ , أرين , كننّ , علون , هبطن , يرجعن
إنّ تكثيف الشاعر لاستعمال الأفعال يبرز أمرين : المتابعة التصويريّة لمشهد الرحلة , والتأثير النفسي لهؤلاء النسوة ( الجمالي : أرين محاسنا , وكننّ أخرى ) و (العاطفي : إذا ما فتنه يوما برهن يعزّ عليه لم يرجع بحين ) . ويبدو هذا التصوير هو جانب من التغني بمحاسن المحبوبة , فهي تتفوق على أترابها في الحسن والجمال ، فيقول :
بتلهية أريش بها سهامي تبذّ المرشقات من القطين
وعلى هذا النحو يتجدد عود الضمير على المحبوبة ( فاطمة) في ( تبذّ ) , والشاعر( أريش , سهامي )
أما عن نوع الضمير العائد , فهو ضمير الغائب الذي يشي بالمراقبة عن بُعْد , لكنها لم تمنع الجانب التصوير التفصيلي , فهو يصف الرحلة والنساء كأنّه جزء منها.
18- 19 : الشاعر مرجعية خارجية : قلتُ , رحلي , نصبتُ , جبيني , مني , أكون, مصحبتي, قروني المحبوبة بعضهنّ , لعلكِ , صرمتِ
يمكن ملاحظة أنّ المشهد الأول ما زال يشكل رافدا أساسيا في تشكّل القصيدة , إذ نجد مشهد الرحلة يفصل بين المشهد الأول المتوتر وحالة الانفصال بين الشاعر ومحبوبته في البيتين ( 18-19), وهذا يؤكد أنّ الوحدة الكبرى ليست للبيت , بل للنّص بكل تجلّياته , فمشاهد القصيدة تسهم في توصيف الحالة الإنفعاليّة لدى الشاعر .
وفي مشهد وصف الناقة يتحول التوتر من الشاعر والمحبوبة إلى الشاعر والناقة , وهو توتر يتبلور مع الرحلة الطويلة التي قضاها على ظهرها , إذ نلاحظ الشاعر يسقط على ناقته أوصافا عظيمة , تجعل منها مطيّة قادرة على اجتياز المفازة , بعد أن تحوّل عن ملاحقة الظعائن , واتخذ مسارا آخر في البيتين التاسع عشر و العشرين :
لعلكِ إن صرمتِ الحبل منّي كذاك أكون مصحبتي قروني
فسلّ الهمّ عنكَ بذات لوث عذافرة كمطرقة القيون
يتشكل مسار التحوّل عند الشاعر على النحو الآتي :
يتلهى بذكر محاسن محبوبته في مشهد الظعائن يتسلى عن محبوبته بالسفر في مشهد وصف الناقة
إذاً يمثل المشهد الثالث امتدادا طبيعيا بوصفه نتيجة لحالة القطيعة الكاملة بينه وبين محبوبته . ويظهر التوتر في هذا المشهد على أنّه استنزاف لطاقة الناقة التي انهكها الشاعر بفعل التوتر في المشهدين السابقين .
إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين
تقول إذا درأت لها وضيني أهذا دينه أبدا وديني
وعلى مستوى الضمير يسيطر ضمير الناقة ( إحالة داخلية قبليّة) على المشهد , ويظهر ضمير الشاعر ( إحالة خارجية) على صورة الفعل وردّ الفعل على النحو الآتي :
فألقيتُ لها الزمام فنامتْ
إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة
إذا درأت لها وضيني أهذا دينه أبدا وديني
يتحول الضمير في البيتين ( 39-40) تحولا جذريّا , إذ ينتقل الشاعر من دور المنفعل , إلى دور الفاعل الذي يظهر مقصده من الرحلة , فينطلق بالناقة إلى حسم العلاقة بينه وبين عمرو بن هند من خلال ( ثنيتُ لها – ووضعتُ رحلي – رفدتُ بها - فرحتُ بها ) , وهي أفعال القصد منها التوجه ( إلى عمرو ) .
وهنا نحن أمام سؤالين : هل فاطمة في مقدمة القصيدة شخصية حقيقيّة تتشابه مع عمرو بن هند في علاقتها بالشاعر ؟ أم أنّها تمثل مدخلا للقصيدة على عادة الشعراء الجاهليين ,أَسْقَطَ عليها الشاعر أزمته مع عمرو بن هند ؟
تتجلى الندّية في هذا المشهد باستعراض ضمائر الأفعال التي تعيدنا إلى المربع الأول من القصيدة , إذ تتأجج مشاعر الإنفعال لدى الشاعر راغباّ في تحديد وتأطير العلاقة بينه وبين عمرو , والخروج من الموقف الضبابي . وفي سبيل ذلك يعمد الشاعر إلى توظيف ( إمّا) التفصيليّة بوصفها أداة ربط في تحقيق هذا الموقف وترسيخه .
ويمكن ملاحظة ذلك( الضمائر + إمّا ) على النحو الآتي :
إما أن تكون أخي فأعرف منك غثي أو سميني
وإلا فاطرحني واتخذني عدوا أتقيك وتتقيني
لقد سعى الشاعر في هذه القصيدة إلى تحقيق مبدئه الذي ينشده , وهو المصارحة والوضوح في الموقف والبعد عن المماطلة . ولعلّه يرنو إلى تشخيص العلاقات الاجتماعيّة , ووضع فلسفة مثاليّة أخلاقيّة أساسها الوفاء بالوعد , والمكاشفة والمصارحة في الموقف ( أخي – عدوّي ) .
ويختم قصيدته بالتعبير عن خلاصة تجربته الشخصيّة , فيظهر ضمير (الأنا) الذي يسلط الضوء على جهل الإنسان بالغيب , على نحو يستجمع فيه المشاهد الأربعة السابقة , بلغة فلسفيّة تؤكد صدقه في مقصده ( أألخير الذي أنا أبتغيه ).
وإذا أخذنا بالرواية الأخرى التي تضيف بيتا إلى آخر النص , سوف يظهر مدى تماسك القصيدة آخره بأولها , إذ يعود الشاعر في آخر القصيدة إلى فاطمه , بقوله :
دعي ما علمتُ سأتقيه ولكن بالمغيب نبّئيني
وأما معجم الشاعر , فتشيع فيه ألفاظ القطيعة , مثل : بينك , تبيني , قطعتها , ما وصلتُ , قطعن , قواتل ,صرمتُ , يجذّ , اطّرحني , اتخذني عدّوا .
بقلم حسان الزبيدي للامانة
[1]- د . صبحي الفقي : علم اللغة النصي ص96
[2] - المصدر نفسه ص 120
[3] - المصدر نفسه ص 64
[4]- المفضل الضبي : المفضليات ص149
[5]- القاموس ( ف ط م)
[6] صبحي الفقي : علم اللغة النصي ص65
شغلت قضية الوحدة الموضوعيّة والوحدة العضويّة في الشعر الجاهلي فكر النقاد قديماً وحديثاً , وكانت آراؤهم حول هاتين القضيتين متباينة . فمنهم من يزعم أنّ القصيدة الجاهليّة مفكّكة مهلهلة , ومنهم من يعتقد غير ذلك , فيذهب إلى أنّها متماسكة مترابطة . وكلّ يجتهد في تقديم الأدلة ليثبت ما يذهب إليه .
وفي هذه الورقة يسعى الباحث إلى رصد ملامح التماسك النصيّ , من خلال السبك (التماسك الشكليّ), والحبك(التماسك الدلاليّ) , آملاً في تقديم صورة واضحة حول الوحدة الموضوعية والوحدة العضويّة في القصيدة الجاهليّة . وفي سبيل ذلك وقع اختياري على قصيدة المثقّب العبدي ( أفاطم قبل بينك متعيني ) , بوصفها من روائع الشعر الجاهلي , بل العربي , لتكون مادة الدراسة .
إنّ القراءة الأولى للقصيدة ستولّد انطباعاً عامّا لدى القارئ , يرى فيه تعدّد موضوعات القصيدة , وأنّها في صورتها الخارجية لا تشكّل حالة من الانسجام والتماسك النصيّ . ويبقى هذا الانطباع مسوّغًا عند هذه المرحلة , ولكنّه يصبح غير مسوّغ إذا أعدنا قراءة النصّ غير مرّة قراءةً واعية , فيها قدر عالٍ من التأمّل والتفكير .
يُعرّف النصيّون التماسك النصيّ بأنّه العلاقات أو الأدوات الشكليّة والدلاليّة التي تسهم في الربط بين عناصر النص الداخلية , وبين النص والبيئة المحيطة من ناحية أخرى [1].وأهم أدوات التماسك النصيّ : الأدوات الدلاليّة كالسياق والإحالة الخارجية , والأدوات الشكليّة كالروابط النحوية والأسلوبيّة [2].
وقصيدة المثقّب تتألف من خمسة وأربعين بيتاً حسب رواية المفضليات , ويمكن للدارس أن يقسمها إلى أربع وحدات دلاليّة : الوحدة الأولى علاقته بفاطمة , وتشكّل الأبيات الأربعة الأولى . والوحدة الثانية وصف رحلة الظعائن, وتتكون من الأبيات الخمسة عشرة التالية . والوحدة الثالثة وصف الناقة , وتتألف من الأبيات الحادية والعشرين التالية . والوحدة الرابعة علاقته بعمرو بن هند الملك , وتشكّل الأبيات الخمسة الأخيرة .
ويظهر لي أنّ الوقوف على القصيدة عن كثب هو ما أطلق الاتهامات على القصيدة الجاهلية بالتفكّك . إننا الآن بتقنيات (نحو النص) سننظر إلى القصيدة بمنهجية تفسح لنا أن نرى القصيدة بطريقة تلغي المرحلة البرزخية بين المَشَاهد , وتُعمّقُ الروابط الشكلية والدلالية بينها , على نحو يثبت حالة التماهي والتواشج بين أجزاء القصيدة .
بداية دعونا نعرض لأسلوب النداء الذي يستهلّ به الشاعر قصيدته , ذلك بأنّ الاستهلال يحتلّ مكانة بارزة من حيث أهميته من ناحية , ومن حيث علاقته ببقيّة أجزاء النصّ من ناحية أخرى , وتحكُّمُه كذلك في هذه الأجزاء [3].
تظهر أهميّة النداء ( أفاطمُ ) من حيث أداة النداء الهمزة التي تُسْتعمَل لنداء القريب , سواء أكان القرب مكاني أم قلبي , وهما واردان في القصيدة , فهي قريبة , لأنها في منازله . وهي قريبة , لأنّها محبوبته . والأهمية الثانية استعماله الاسم ( فاطمة) , وهنا يلحّ علينا سؤالان :
الأول هل هذا الاسم على الحقيقة , أم أنّه رمز للحالة التي بات عليها الشاعر مع محبوبته , خاصّة وأنّ الشاعر يستعمل اسماً أخر في غير هذه القصيدة , فيقول[4] :
ألا إنّ هنداً أمسِ رثّ جديدها وضنّت وما كان المتاع يؤودها
والسؤال الثاني :هل فاطمة امرأة حقيقية أم أنّها رمز ومدخل للقصيدة الجاهلية, تتماهى في أزمتها مع عمرو بن هند؟
إذأً (فاطمة) اسم مكثّف يختزن الحالة الانفعاليّة والتفاعليّة مع المحبوبة . وإذا رجعنا إلى المعجم اللغوي سيكشف لنا البعد الدلالي لهذا الاسم . فالفطم : القطع , وفطم يفطمه : قطعه [5].وفي ضوء ذلك يمكن أن نفهم القصيدة من خلال الطاقة الدلاليّة الكامنة في هذا الاسم الذي يترادف دلاليّا مع ( قطعتها ) و( ما وصلت بها) و(صرمتُ) و (اطّرحني) .
إنّ هذه الكلمة( فاطمة) تشكّل حلقة وصل بين خارج النص , فهي تحيل إلى شخص المحبوبة (إحالة خارجيّة ) , وداخل النص عبر الربط الدلالي بينها وبين الكلمات المترادفة معها . وعليه, فإننا ندرك القيمة الفعلية للكلمة المفتاحيّة أو الجملة المفتاحيّة في بناء النّص ,فالمرسل يركز كل جهوده في هذه الكلمة ؛ إذ يكون ما بعدها غالبا تفسيرا لها . وتمثل كذلك المحور الذي يدور عليه النص [6].
يبدو المَشْهد الأول من القصيدة متوتراً , فالشاعر يطلب من محبوبته أن تمتعه قبل رحيلها , وفي هذا الطلب شيء من الانفعال والتوتر , إذ يتساوى عنده الرفض والرحيل ( ومنعك ما سألتُ كأن تبيني ) . وإذا امعنّا النظر في مرجعيّة البيت , نجد أنّها مرجعيّة خارجيّة ( إحالة إلى ذات الشاعر دون ذكره في البيت ) , ( متعيني – سألتُ ) . ومرجعيّة داخليّة قبليّة ( بينك – متعيني – منعك – تبيني) إحالة داخليّة قبليّة على ( فاطمة) .
ويمكن أن نحلّل المرجعيّة في المشهد الأوّل على النحو الآتي :
البيتين (1-2) : ثلاثة ضمائر للشاعر ( إحالة خارجيّة) , و خمسة للمحبوبة ( إحالة داخليّة قبليّة ) , وضمير يعود على المواعد ( جزء من سلوك المحبوبة) .
البيتين (3-4) :تسعة ضمائر للشاعر ( إحالة خارجية) , وواحد للمحبوبة ( إحالة داخليّة قبليّة ), وثلاثة ليَدِهِ ( الشمال واليمين) إحالة داخليّة قبليّة .
فالمشهد إذاً حافل بالندّيّة وردّ الفعل المنفعل , القائم على مبدأ المعاملة بالمثل( كذلك أجتوي من يجتويني) . فهو ينشد الصدق والإخلاص في المعاملة , فيتكشّف له الأمر في حالة من المصارحة ( فلا تعدي مواعد كاذبات) , فيأخذ موقفاً حاسماً ( إذاً لقطعتها ولقلتُ بيني).
ولما كانت المحبوبة قد عزمت على الرحيل , وهو رحيل بطبيعته جماعي , يمثل حركة الحياة في المجتمع البدوي , بحثاً عن الكلأ والماء . فقد عزم الشاعر على متابعة الرحلة انقياداً لمشاعره الجياشة تجاه المحبوبة التي كانت جزءاً من رحلة الظعائن . ولا ندري هل هي حالة من الضعف أمام قوة العاطفة , أم هي حالة من التحدّي والإصرار على العلاقة التي قامت على الصبر على ( المواعد الكاذبات) .
وعلى الرغم من الحذف الذي يظهر لنا بين المشهد الأول والثاني الذي يعبر عن حالة التجهّز للرحيل والانطلاق في الرحلة , إلا أننا ندرك ذلك من خلال الاستفهام الاستهلالي في المشهد الثاني الذي يوحي بلفت الانتباه إلى الرحلة , والمراقبة الدقيقة للرحلة ( لمن ظعن تطالع من ضبيب), ويمثل الاستفهام رابطا بين المشهدين ( حسن التخلص).
ويمكن أن نصف التماسك النصي بين المشهدين على النحو الآتي :
التجهّز للرحلة توتر العلاقة انطلاق الرحلة ملاحقة المحبوبة
ويمكن أن تكون مرجعيّة الضمائر على النساء في الهوادج , أو على الظعائن . وإن كنتُ في غالب الأحيان أميل إلى الأول ؛ فهو أقرب إلى مقصد الشاعر , ويمكن أن نوضح المرجعيّة على الشكل الآتي :
5 -8 : الظعائن مرجعية داخلية :تطالع , خرجت , مررن , نكّبن , هنّ , قطعن , حمولهن , يشبهن , هنّ
9 -17 : النساء في الهوادج مرجعية خارجية : هنّ , كغزلان , خذلن , ظهرن , سدلن ,ثقبن , هنّ , أرين , كننّ , علون , هبطن , يرجعن
إنّ تكثيف الشاعر لاستعمال الأفعال يبرز أمرين : المتابعة التصويريّة لمشهد الرحلة , والتأثير النفسي لهؤلاء النسوة ( الجمالي : أرين محاسنا , وكننّ أخرى ) و (العاطفي : إذا ما فتنه يوما برهن يعزّ عليه لم يرجع بحين ) . ويبدو هذا التصوير هو جانب من التغني بمحاسن المحبوبة , فهي تتفوق على أترابها في الحسن والجمال ، فيقول :
بتلهية أريش بها سهامي تبذّ المرشقات من القطين
وعلى هذا النحو يتجدد عود الضمير على المحبوبة ( فاطمة) في ( تبذّ ) , والشاعر( أريش , سهامي )
أما عن نوع الضمير العائد , فهو ضمير الغائب الذي يشي بالمراقبة عن بُعْد , لكنها لم تمنع الجانب التصوير التفصيلي , فهو يصف الرحلة والنساء كأنّه جزء منها.
18- 19 : الشاعر مرجعية خارجية : قلتُ , رحلي , نصبتُ , جبيني , مني , أكون, مصحبتي, قروني المحبوبة بعضهنّ , لعلكِ , صرمتِ
يمكن ملاحظة أنّ المشهد الأول ما زال يشكل رافدا أساسيا في تشكّل القصيدة , إذ نجد مشهد الرحلة يفصل بين المشهد الأول المتوتر وحالة الانفصال بين الشاعر ومحبوبته في البيتين ( 18-19), وهذا يؤكد أنّ الوحدة الكبرى ليست للبيت , بل للنّص بكل تجلّياته , فمشاهد القصيدة تسهم في توصيف الحالة الإنفعاليّة لدى الشاعر .
وفي مشهد وصف الناقة يتحول التوتر من الشاعر والمحبوبة إلى الشاعر والناقة , وهو توتر يتبلور مع الرحلة الطويلة التي قضاها على ظهرها , إذ نلاحظ الشاعر يسقط على ناقته أوصافا عظيمة , تجعل منها مطيّة قادرة على اجتياز المفازة , بعد أن تحوّل عن ملاحقة الظعائن , واتخذ مسارا آخر في البيتين التاسع عشر و العشرين :
لعلكِ إن صرمتِ الحبل منّي كذاك أكون مصحبتي قروني
فسلّ الهمّ عنكَ بذات لوث عذافرة كمطرقة القيون
يتشكل مسار التحوّل عند الشاعر على النحو الآتي :
يتلهى بذكر محاسن محبوبته في مشهد الظعائن يتسلى عن محبوبته بالسفر في مشهد وصف الناقة
إذاً يمثل المشهد الثالث امتدادا طبيعيا بوصفه نتيجة لحالة القطيعة الكاملة بينه وبين محبوبته . ويظهر التوتر في هذا المشهد على أنّه استنزاف لطاقة الناقة التي انهكها الشاعر بفعل التوتر في المشهدين السابقين .
إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين
تقول إذا درأت لها وضيني أهذا دينه أبدا وديني
وعلى مستوى الضمير يسيطر ضمير الناقة ( إحالة داخلية قبليّة) على المشهد , ويظهر ضمير الشاعر ( إحالة خارجية) على صورة الفعل وردّ الفعل على النحو الآتي :
فألقيتُ لها الزمام فنامتْ
إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة
إذا درأت لها وضيني أهذا دينه أبدا وديني
يتحول الضمير في البيتين ( 39-40) تحولا جذريّا , إذ ينتقل الشاعر من دور المنفعل , إلى دور الفاعل الذي يظهر مقصده من الرحلة , فينطلق بالناقة إلى حسم العلاقة بينه وبين عمرو بن هند من خلال ( ثنيتُ لها – ووضعتُ رحلي – رفدتُ بها - فرحتُ بها ) , وهي أفعال القصد منها التوجه ( إلى عمرو ) .
وهنا نحن أمام سؤالين : هل فاطمة في مقدمة القصيدة شخصية حقيقيّة تتشابه مع عمرو بن هند في علاقتها بالشاعر ؟ أم أنّها تمثل مدخلا للقصيدة على عادة الشعراء الجاهليين ,أَسْقَطَ عليها الشاعر أزمته مع عمرو بن هند ؟
تتجلى الندّية في هذا المشهد باستعراض ضمائر الأفعال التي تعيدنا إلى المربع الأول من القصيدة , إذ تتأجج مشاعر الإنفعال لدى الشاعر راغباّ في تحديد وتأطير العلاقة بينه وبين عمرو , والخروج من الموقف الضبابي . وفي سبيل ذلك يعمد الشاعر إلى توظيف ( إمّا) التفصيليّة بوصفها أداة ربط في تحقيق هذا الموقف وترسيخه .
ويمكن ملاحظة ذلك( الضمائر + إمّا ) على النحو الآتي :
إما أن تكون أخي فأعرف منك غثي أو سميني
وإلا فاطرحني واتخذني عدوا أتقيك وتتقيني
لقد سعى الشاعر في هذه القصيدة إلى تحقيق مبدئه الذي ينشده , وهو المصارحة والوضوح في الموقف والبعد عن المماطلة . ولعلّه يرنو إلى تشخيص العلاقات الاجتماعيّة , ووضع فلسفة مثاليّة أخلاقيّة أساسها الوفاء بالوعد , والمكاشفة والمصارحة في الموقف ( أخي – عدوّي ) .
ويختم قصيدته بالتعبير عن خلاصة تجربته الشخصيّة , فيظهر ضمير (الأنا) الذي يسلط الضوء على جهل الإنسان بالغيب , على نحو يستجمع فيه المشاهد الأربعة السابقة , بلغة فلسفيّة تؤكد صدقه في مقصده ( أألخير الذي أنا أبتغيه ).
وإذا أخذنا بالرواية الأخرى التي تضيف بيتا إلى آخر النص , سوف يظهر مدى تماسك القصيدة آخره بأولها , إذ يعود الشاعر في آخر القصيدة إلى فاطمه , بقوله :
دعي ما علمتُ سأتقيه ولكن بالمغيب نبّئيني
وأما معجم الشاعر , فتشيع فيه ألفاظ القطيعة , مثل : بينك , تبيني , قطعتها , ما وصلتُ , قطعن , قواتل ,صرمتُ , يجذّ , اطّرحني , اتخذني عدّوا .
بقلم حسان الزبيدي للامانة
[1]- د . صبحي الفقي : علم اللغة النصي ص96
[2] - المصدر نفسه ص 120
[3] - المصدر نفسه ص 64
[4]- المفضل الضبي : المفضليات ص149
[5]- القاموس ( ف ط م)
[6] صبحي الفقي : علم اللغة النصي ص65