قطر الندى
عضو جديد
-
- إنضم
- 23 نوفمبر 2009
-
- المشاركات
- 10,563
-
- مستوى التفاعل
- 74
-
- النقاط
- 48
" أصول وضوابط في دراسة السيرة النبوية الشريفة "1
"عبد اللَّطيف بن محمَّد الحسن"
يكفي دلالةً على القناعةِ بأهميةِ دراسةِ السِّيرة تلك الكتاباتُ المتكاثرة التي تُحاول الإفادةَ من السِّيرة بأكثر من صورةٍ. ولِمَا لمنهج الكاتبِ من تأثيرٍ في كتاباتِهِ؛ فإنَّ مِن المهمِّ السعيَ إلى تحديدِ أُطُرٍ منهجيةٍ ضابطةٍ للدِّراسةِ والكتابةِ. وهذه محاولةٌ لرسمِ بعضِ المعالمِ والضَّوابطِ أرجُو بها النَّفعَ، وأنْ تتبعَها دراساتٌ أكثرُ نُضجاً من ذَوي الاهتمامِ والاختصاصِ2 .
أولاً: فهم حقيقة الإسلام ومنهجه المتكامل:
يكتسب هذا القيد مكانته من جهة عجز مَن يفتقده عن قراءة أحداث السِّيرة قراءةً موضوعية تمكنه من سلامة فهم الأحداث، وتقصِّي أسبابها، ومعرفة دوافعها، وتفسيرها بما يتفق مع رُوح الإسلام.
فمن المهم ( أن يُعنى بالجانب التشريعيِّ الذي يحتكم إليه المجتمعُ، وتُوضَّح الضوابطُ الخلقية والقانونية التي تحكم حركةَ الأفراد والمجتمعات، ولا يُمكن الفصلُ بين الجانبِ السياسيِّ والعسكريِّ، والجانب الخلقيِّ والتشريعيِّ، خاصة في القرونِ الأولى من تاريخ الإسلام ؛ حيث تتشابك العلاقاتُ الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية بالعقيدة تشابكاً وثيقاً بحيثُ يصعبُ فهم حركة التَّاريخ في تلك المرحلةِ دُونَ فهمِ رُوحِ الإسلامِ ومبادئِهِ ) 3 .
إزاء هذا الضابط نرى أنفسنا أمام خطرين اثنين:
أولهما: افتقاد بعض الباحثين والدارسين إلى المرجعية الشرعية.
وثانيهما: قراءة السِّيرة بأنظمة معرفية أخرى: رأسمالية، واشتراكية، وعلمانية، وقومية من الخارج، ومحاولة تقطيعها والانتقاء من أحداثِها، وفصلها عن نسقها المعرفي وسياقها ومناسباته4.
ونظير هذا: قراءة السِّيرة بخلفيةٍ بدعيةٍ صُوفيةٍ أو رافضيةٍ.. ونحوها؛ فالرَّافضةُ مثلاً: يُحللون أحداث السِّيرة تحليلاً يتسقُ مع انحرافاتِهم العَقَدية !
ثانياً: ترك المنطقِ التَّسويغيِّ:
ينبغي أن تنطلق دراسة السِّيرة من اليقين بعزة الإسلام وأحقيته في الحُكْمِ والسِّيادةِ، وأنَّ الله لا يقبلُ ديناً سواه، وأنه لا يُفهم إلا من خلال دراسة السِّيرة.
ولذا وجب البُعدُ عن الرُّوحِ الانهزاميةِ في تحرير السِّيرة وتحليلها، وخاصة في الجهاد.
ومن المواضيع التي ينهزم أمامها التسويغيون ولا يجدون لها مُسوِّغاً على حدِّ زعمهم مسألة قتل يهود بني قُريظة لمَّا قبلوا حُكْمَ سعد بن معاذ فيهم وكان حليفَهم في الجاهلية, فَحَكَمَ فيهم بحُكْمِ اللهِ: أنْ يُقتلَ رجالُهم، وتُسبى نساؤهم وذراريهم. هنا يصعب الموقفُ على مَن في قلبِهِ انهزاميةٌ، فيسعى للتشكيكِ في ثبوت القصة.
وهي ثابتةٌ بلا شك5.
ثالثاً: اعتبار القرآن الكريم مصدراً أولاً في تلقي السِّيرة وفهمها:
لدراسة السِّيرة من خلال كتاب الله ميزاتٌ عدة، منها:
- أنَّ مُدارسته عبادة عظيمة.
- اشتمالُ القُرآنِ على إشاراتٍ تفصيليةٍ لا تُوجدُ في مصدرٍ آخر، كما في أحداث زواج زينب -رضي الله عنها-.
- دِقَّةُ وصفِهِ للأحداثِ والشُّخوصِ، حتَّى يُصوِّر نبضات القلب، وتقاسيم الوجه، وخلجات الفؤاد، وهذه خصيصةٌ تنقلُ القارئَ إلى جَوِّ الحَدَثِ ليعيشَ فيه.
- تركيزُهُ على خصائصِ سيرةِ النَّبيّ - صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- , مثل: كونِهِ بَشَرَاً،وأنَّ رسالته عامةٌ، وأنَّهُ خاتمُ النَّبيّين. ومنها: ربطه بين قصة الحدث وسيره وبين العقيدة والإيمان والقضاء والقدر.
- بيانه حِكْمَةَ الحَدَثِ ونتائجَهُ وحِكْمَةَ اللهِ في تقديره، وهو الدَّرسُ التربويُّ المطلوب6.
وبدراسة السِّيرة من القرآنِ يتحولُ الحَدَثُ من قصةٍ في زمانٍ ومكانٍ مُعينين إلى درسٍ كبيرٍ مُتكاملٍ يتعدَّى ظُروفهما.. يُتلى إلى قيامِ السَّاعةِ7.
إنَّ مَن يعيشُ السِّيرة من خلال القُرآنِ وصحيحِ السُّنةِ لا تعود السِّيرة في حسِّه مجرد أحداث ووقائع، وإنما تصيرُ شيئاً تتنامى معه مشاعرُهُ الإيمانية تجاه الجماعةِ المؤمنةِ، ووعيه الإيماني بالسُّنن الرَّبانيةِ8. ومع أهميةِ هذا النَّوعِ مِن الدِّراسةِ فإنَّهُ لم يلقَ بعدُ اهتماماً يتناسبُ معه9.
رابعاً: تمحيص الصَّحيحِ من الأخبار فيما يتعلَّقُ بالعقيدةِ والشَّريعةِ:
النَّاسُ في اشتراطِ تمييز الصَّحيحِ من الضَّعيفِ في رُواياتِ السِّيرة على قولينِ مشهورينِ:
الأول: مَنْ لم يشترط التمحيصَ وأجاز إيرادَ كلِّ مروياتِ السِّيرة، واحتجَّ بأنَّ كَتَبَة السِّيرة لم يعتمدوه ولم يحرصُوا عليه. واستدلُّوا بما اشتُهِر عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنه قال: ( ثلاثةُ كتبٍ ليس لها أصولٌ: المغازي، والملاحم، والتفسير )10. ويمكن نقاش دليلهم
واستدلالُهم من أوجهٍ11:
أ- أنَّ ثبوتَ هذه المقولةِ عن الإمام أحمد موضعُ نظرٍ12 ، ومَن ذا الذي يقول: إنه لا يثبتُ شيءٌ في مغازي المسلمين ؟ فأينَ ما في الصِّحاحِ والسُّنن، وأينَ ما ذكره الإمامُ أحمدُ نفسُه في مسندِهِ ؟
ب - وفي حالِ ثبوت الرِّواية فإنَّهُ لم يقلْ: لم يَصِحَّ فيها شيءٌ، ولكن قالَ: ليس لها أصولٌ. وقوله: ثلاثة كُتُبٍ يدل على أنَّ مرادَهُ: ( كتب مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة غير معتمد عليها، ولا موثوق بصحتها؛ لسوء أحوال مُصنفيها، وعدم عدالةِ ناقليها، وزيادات القُصَّاص فيها)13.
ج - أنه حتَّى لو نَفَى الصِّحَّة عنها فإنَّ نفيَها لا ينفي الحُسْن، ولا يستلزمُ الضَّعفَ أو الوضعَ.
د - يحملُ قولُهُ على الحال الغالب ؛ فإنَّ هذه الفنونَ غالبُ رواياتِها ليس لها أسانيدُ متصلةٌ14.
أما القول الثاني: فيُمثله د. أكرم العمري ؛ حيثُ يقولُ: ( المطلوبُ اعتمادُ الرِّواياتِ الصَّحيحةِ وتقديمها، ثم الحَسَنةُ، ثم ما يُعتضد من الضَّعيفِ لبناء الصُّورة التَّاريخيةِ لأحداث المجتمعِ الإسلاميِّ في عصرِ صدرِ الإسلامِ... وعند التعارضِ يُقدَّمُ الأقوى دائِماً.. أمَّا الرِّواياتُ الضَّعيفةُ التي لا تقوى أو تُعتضد فيُمكن الإفادةُ منها في إكمالِ الفراغ الذي لا تسدُّهُ الرِّواياتُ الصحيحةُ والحسنةُ على ألا تتعلق بجانبٍ عقديٍّ أو شرعيٍّ ؛ لأنَّ القاعدةَ: ( التشدد فيما يتعلَّقُ بالعقيدة أو الشريعة )15. ولا يخفى أنَّ عصرَ السِّيرة النَّبَويَّة والخلافة الراشدة مليءٌ بالسَّوابقِ الفقهية، والخلفاء الراشدون كانوا يجتهدون في تسيير دفة الحياة وفق تعاليم الإسلام؛ فَهُمْ موضع اقتداءٍ ومُتابعةٍ فيما استنبطُوا من أحكامٍ ونُظُمٍ لأقضيةٍ استجدتْ بعد توسع الدولةِ الإسلاميةِ على إثر الفتوحِ.
أما الرِّواياتُ التَّاريخيةُ المتعلقةُ بالعمران: كتخطيطِ المدن، وزيادة الأبنية، وشق الترع.. أو المتعلقة بوصف ميادين القتال وأخبار المجاهدين الدالة على شجاعتهم وتضحيتهم فلا بأسَ من التساهلِ فيها )16.
وهذا هو المنهجُ المعتبرُ عند الأئمةِ المحققين، يشهد به صنيعُ الذَّهبيّ في (تاريخ الإسلام)، وابنِ سيدِ النَّاسِ في (عُيون الأثر)17، وابنِ حَجَرٍ في (الفتح)18، وكذلك ابن القيم وابن كثير.
أمَّا ما يُؤخذ من الرِّواياتِ التَّاريخية فهو ما اتفقَ عليه الإخباريون 19.أمَّا اشتراطُ الصِّحَّة في كلِّ خبرٍ تاريخيٍّ والذي مشى عليه بعضُ المُؤلِّفين في السِّيرة فاختزلوا كثيراً من أحداثِها فإنَّ ذلك يترتبُ عليه تضييع ثروة علمية كبرى، وإهدار الاستفادة منها في مجالاتٍ تربويةٍ وإداريةٍ.. ونحوها ؛ حيث تضعفُ الثِّقةُ في كلِّ ما استُنبط منه20.
يبقى: كيف تدوّن السِّيرة على ضوء المنهج السابق: هل تذكر كل الأحاديث بنصوصها أم يجمع بين الروايات في سياق واحد ؟ الظاهر: هو الطريق الثاني ؛ تحاشياً لتشوش القارئ، وتشتت ذهنه بانقطاع الأحداث، وتكرر بعضها، وعدم وضوح صورة متسلسلة متكاملة للسيرة، ثم إنه صنيع الزهري في روايته لحادثة الإفك التي رواها مسلم عنه 21.
خامساً: معرفةُ حدودِ العقلِ في قبولِ النُّصوصِ وردها:
يرى العديدُ من الدَّارسين وخاصة من المستشرقين أنَّ عُلماء المسلمين أهملوا نقدَ المتون، وأنَّ ذلك لغياب عقليتهم النقدية. وهذا مردود، وهذه بعض أمثلة لمحاكمات تاريخية مستندة إلى نقد المتن:
1- رفض ابنُ حزم العددَ المذكور عن عدد جند المسلمين في أُحُدٍ ؛ بناءً على محاكمة المتن وفق أقيسةٍ عقليةٍ بحتةٍ.
2- قدَّم مُوسى بن عُقبة غزوةَ بني المصطلق إلى السَّنةِ الرَّابعةِ خِلافاً للأكثرين الذين جعلُوها في السنة السادسة ؛ لاشتراك سعدِ بن مُعاذ فيها، وهو مُتوفَّى عقب بني قريظة وهي في السنة الرابعة. وتابعَهُ على تقديمِ تاريخِها ابنُ القيم والذَّهبيّ.
3- أخَّر البُخاريّ غزوةَ ذات الرقاع إلى ما بعد خيبر ؛ نظراً لاشتراك أبي مُوسى الأشعري وأبي هُريرة فيها، وقد قَدِما بعد خيبر، وتابعه على تأخيرِها ابنُ القيم وابنُ كثير وابنُ حجرٍ، خِلافاً لرأي ابنِ إسحاق والواقديّ في تقديمِها.
4- الخلافُ حولَ تشريعِ صلاةِ الخوفِ معظمه مبنيٌّ على محاكمةِ المتنِ. الأمثلة كثيرة ؛ ولكن من المهم أن يُقالَ: إنَّ حفظ الروايات قد استنفدَ طاقة الأوائل، وأتى بعدهم من لخَّص وذيَّل عليها وانتقى منها، وهذا عملٌ نقديٌّ. وفي مؤلَّفاتٍ مُتأخِّرةٍ تَبْرُزُ محاكماتٌ دقيقةٌ للمتون، كما في: البداية والنهاية، وفتح الباري، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية,
قال ابنُ تيمية -رحمه الله-: ( الأحاديث التي ينقلها كثيرٌ من الجُهَّالِ لا ضابطَ لها، لكن منها ما يُعرف كذبُهُ بالعقل، ومنها ما يُعرف كذبُهُ بالعادةِ، ومنها ما يُعرف كذبُهُ بأنه خلافُ ما عُلِمَ بالنَّقلِ الصَّحيحِ، ومنها ما يُعرفُ كذبُهُ بطرقٍ أُخرى ) 22.
كما يحسب في عداد تقويم العقلية النقدية لدى المسلمين خدمتهم لنصوص أحاديث الأحكام خدمة بالغة، وجهودهم في كتب أصول الفقه التي تُنبئ عن عقلية فذة. وإذا علمنا أنَّ للمُؤرِّخين القُدامى كتباً في فنون أخرى لم يجزْ لنا أنْ نتهمهم بإهمال المتون، كما يجبُ مُراعاةُ عنصر الزمن، فلا تقوَّم جهودُهم بمقاييس أنجزها التقدمُ العلميُّ اليوم ؛ لئلا يُغمطوا حقَّهم.
على أنَّ علمَ مصطلح الحديث قد اشتملَ على مباحثَ تُشكِّلُ الجانبَ النَّظريَّ لنقد المتون، ولكن القصور حصلَ في تطبيق ذلك على الرِّواية التَّاريخيةِ، فلم تحظَ بما حَظِيتْ به الأحاديثُ النَّبَويَّة من العنايةِ 23.
لقد انزلق المطالبون بنقد المتون؛ حيث أجروا أحكامَ العقل في المتون الثابتةِ، وجعلُوا ذلك أساساً للردِّ والقبولِ، وذلك أمرٌ تتفاوتُ فيه العقولُ، وإنما يجيءُ الإشكالُ من جهةِ قُصُورِ العقلِ عن إدراكِ الخطابِ للتوفيقِ بينه وبين النُّصوصِ الأُخرى.
وربما يُثبت مَن لم يلتزمْ منهجَ المحدِّثين حديثاً واهياً لصحة معناه، وقد يردُّ رواية الشيخين لظنه تعارضها مع مبادئ الإسلام وقواعده، وهذا تحكيمٌ ضعيفٌ للعقل 24.
ومما وقعوا فيه خلالَ دراسةِ السِّيرة نفيُ المعجزات الثابتة بالنَّقل الصحيح، وهو في حقيقتِهِ انصياعٌ للفكر الماديِّ والفلسفات الوضعيةِ، مع أنَّ المسلمَ لابُدَّ له من الاعتزازِ الذي يُحقق له الاستقلالَ التام في النَّظرِ والبحثِ العلميِّ 25.
سادساً: فهمُ العربيةِ ومعرفةُ أساليبِها:
(امتازَ التأليفُ في العُصُورِ الأُولى بقوةِ الأسلوبِ وفُحُولةِ المعاني وجَزَالةِ الألفاظِ وإشراق الدِّيباجةِ والتزام أساليب العربِ ومذاهبهم في البيان)26 فدعتِ الحاجةُ لدارسِ السِّيرة إلى حُسنِ فهمِ العربيةِ وأساليبِها ؛ ليحسن التعامل مع رواياتِ السِّيرة ؛ إذِ المطلوبُ في فهمِها والاستنباط منها أنْ يتمَّ وفقَ قواعد العربيةِ وأساليبِها دُونَ تعسفٍ أو تمحُّلٍ في التفسيرِ 27.
سابعاً: الالتزام بالمصطلحات الشرعية:
قَسَّمَ اللهُ -تبارك وتعالى- النَّاسَ ثلاثةَ أقسامٍ: مؤمناً، وكافراً، ومنافقاً كما في صدر سورة البقرة, وجعلهم حزبينِ: أولياء الرَّحمن، وأولياء الشَّيطان، فالواجبُ الالتزام بهذه التسميات، وعدمُ العدولِ عنها إلى مثل: يميني، يساري 28، ليبرالي... إلا عند الحاجةِ للتعريف باتجاهاتِ بعض الأفراد الذين يترتب على معرفةِ ذلك منهم مصلحةٌ، مع الحرص على التحديدِ ما أمكن. وفائدةُ التحديدِ في تقليلِ التمييعِ والتضليلِ الذي يسعى إليه المُفسدون وأشياعُهم ؛ حيث يحرصُون على التعميةِ وتجاهلِ الأسماءِ الشَّرعيةِ التي يترتبُ عليها أحكامٌ، وتستلزم ولاءً أو براءً.
ثامناً: صدق العاطفة:
من أُسسِ الكتابة في السِّيرة ودراستها توفرُ المحبةِ الصادقةِ لصاحبِها -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- والعاطفة الحية التي تُشعِرُ بمدى الارتباطِ الحقيقيِّ قَلْباً وقَالباً، والتفاعل الحقيقي مع أحداث سيرته29.
ولقد عبَّر الشيخُ محمد الغزالي عن عاطفتِهِ الجيَّاشة, فقالَ في مُقَدِّمَة "فقه السِّيرة" 30: ( إنني أكتبُ في السِّيرة كما يكتبُ جنديٌّ عن قائدِهِ، أو تابعٌ عن سيدِهِ، أو تلميذٌ عن أستاذِهِ، ولستُ- كما قلتُ- مُؤرِّخاً مُحايداً مبتوتَ الصِّلةِ بمن يكتبُ عنه). ودِراسةُ السِّيرة تعبُّداً للهِ وتقرباً إليه تُنمِّي ذلكَ الحُبَّ، وتسقي تلك العاطفةَ.
تاسعاً:الوفاء بحقوق المصطفى -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- دون غُلوٍّ ولا جفاء:
ينأى عن سنةِ النَّبيّ- صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- ومنهج سَلَفِ الأمةِ في دراسة السِّيرة فريقان 31:
1 - قومٌ قصَّرُوا في حقِّ النَّبيّ- صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- وما يجبُ له من الإجلالِ والتَّوقيرِ والتعظيمِ، فدرسوا سيرتَهُ كما يدرسون سائرَ الشَّخصياتِ الأُخرى، فنظرُوا لجوانبِ العظمةِ البشريةِ والقيادةِ والعبقريةِ والبُطولةِ والملك والإصلاحِ الاجتماعيِّ، مُغفلينَ الجانبَ الأعلى في حياتِهِ، وهو تشرفه بوحي اللهِ- عَزَّ وجَلَّ- وختم النبوةِ والرِّسالةِ. ولهؤلاء يحسنُ سياقُ خبرِ أبي سُفيان يومَ فتحِ مكَّةَ ؛ حيثُ قالَ للعبَّاسِ لمَّا رأى كتائبَ الصَّحابة -رضي الله عنهم-: واللهِ, لقد أصبحَ مُلكُ ابنِ أخيكَ اليومَ لعظيماً، فقال العبَّاسُ: ويحك يا أبا سفيان، إنَّها النُّبوةُ، قال: فنعم إذا 32.
2 - وآخرون بالغُوا في التعظيمِ وغلوا في منزلةِ الرَّسُول - صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-، فلم يَرُقْ لهم وصفُهُ بالبشريةِ، بلْ رُبَّما خَطَرَ لبعضِهم أنَّهُ ضَرْبٌ من الجفاءِ ! مع أنَّ كونَهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- بَشَراً عبداً لله -عَزَّ و جَلَّ- من مُسلَّماتِ العقيدةِ، وخِلافُهُ ضَرْبٌ من الضَّلالِ ؛ فقدْ قالَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-: ( لا تُطروني كما أطرتِ النَّصارى ابنَ مريمَ ؛ فإنَّما أنا عبدٌ، فقُولُوا: عبدُ اللهِ ورسولُهُ )33.
فالحقُّ وَسَطٌ بينَ الطَّرفينِ ؛ ولدراسةِ السِّيرة انطلاقاً من ذلك أثرٌ كبيرٌ في العقيدةِ والعبادةِ والسُّلوكِ والدَّعوةِ والتَّأسِّي والاقتداء.
عاشراً: تحديد هدف الكتابة والشريحة المخاطبة بها:
على كاتب السِّيرة معرفةُ الشَّريحةِ المرادِ مخاطبتُها، وفهمُ الأسلوبِ المناسبِ الذي تُؤدَّى به. وعليه كذلكَ أنْ يُعيِّنَ غرضَهُ من الكتابةِ، وماذا يُريد مِن: معالجةٍ جديدةٍ، أو طرحٍ للأحداثِ بأسلوبٍ جديدٍ، أو تعليلٍ لقضايا منغلقةٍ، أو تركيزٍ على أحداثٍ أغفلَها الكُتَّابُ 34.
فمثلاً المرحلةُ المكيةُ مرحلةٌ تربويةٌ خَصبةٌ كُتبتْ فيها كثيرٌ من الكتاباتِ، ولا تزالُ بحاجةٍ إلى بسطٍ في بعضِ جوانبِها وزواياها، ومِنْ ذلكَ:
1- موقفُ الجاهليةِ من الدَّعوةِ والمؤمنين بها ؛ فأعداء الدَّعوةِ ليسُوا قريشاً وحدَهُم، بل كل الجاهلية.. ثقيف وهوازن وغيرهما. وإنَّما برزتْ قريشٌ ؛ لأنهم عشيرته -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-الأقربون، ولكن تخصيصُهم بالحديثِ يوحي بمحليةِ الدَّعوةِ، وهو خطأٌ جَسِيمٌ.
2- موقفُ المؤمنينَ مِن الاضطهادِ، بالمقارنةِ بينَ حالهِم قبلَ الإسلامِ وبعده، وكيفَ صنعُهم الإسلامِ حتَّى هانَ على المؤمنينَ من العُقُوباتِ ما كان أخفه هو غايةُ التهديدِ في الجاهليةِ كالطَّردِ من القبيلةِ مثلاً.
3 - الدَّورُ التَّربويُّ العظيم لدارِ الأرقمِ مدرسة المؤمنين السابقين الأولين، والمؤسف أن الأخبار عنها قليلة، مع أنها تميزت بإعطاء منهجٍ تربويٍّ متكاملٍ 35. ولعلَّ من الكتب المفيدة في دراسةِ المرحلةِ المكيةِ: في ظِلال القُرآن، لسيد قطب -رحمه الله- 36.
حادي عشر: العناية بتحليل الأحداث والتعليق والموازنة:
بذل العلماءُ المتقدِّمُون جُهُوداً مُضنيةً في حفظِ العلمِ وروايتِهِ أشغلتهم في بعضِ الأحيانِ عن العنايةِ بتحليلِ الأخبارِ ودراستِها والنَّظرِ في أسبابِ الأحداثِ ومُلابساتِها.
وفي عصورِ الضَّعفِ لم يأخذْ جانبُ التَّحليلِ والدِّراسةِ حقَّهُ ؛ ( بسبب النَّظرةِ التجزيئيةِ للقَضَايا، والسَّطحيةِ في التَّعاملِ مع الرِّواياتِ، وعدمِ وضوحِ التصورِ الإسلاميِّ لحركةِ التَّاريخ ودُورِ الفردِ والجماعةِ، والعلاقةِ الجدلية بين القدرِ والحريةِ وقانون السَّببيةِ في الرَّبطِ بين المقدماتِ والنَّتائجِ. فضلاً عن أنَّ الكتبَ التَّاريخية القديمة لا تُمدنا بمنحى واضحٍ في التَّحليلِ والتصورِ الكليِّ ؛ بسببِ اعتمادِها على سَرْدِ الرِّواياتِ فقط ؛ إذْ قلَّما يُشيرُ المُؤرِّخ الإسلاميُّ القديمُ إلى السُّنن والنَّواميسِ والقوانين الاجتماعيةِ التي تحكم حركةَ التَّاريخ، رغم أنَّ القُرآنَ الكريمَ لفتَ نظرَ المسلمين إلى ذلك كلِّه بوضوحٍ، بل إنَّ أحداً مِن مُؤرِّخي الإسلامِ لم يحاولْ إعادةَ صياغةِ النَّظرةِ القُرآنيةِ للتَّاريخِ وتقديم الوقائع والتطبيقات والشَّواهد القرآنية عليها بشكلِ نظرياتٍ كُلِّيةٍ حتَّى وقت متأخر عندما كتبَ ابنُ خَلْدُون مُقدمتَهُ ) 37.
ولغيابِ النَّظرةِ التحليليةِ في دِراسة السِّيرة فقد غلب عليها الطَّابعُ التسجيليُّ السَّرديُّ الذي يُحاولُ إثباتَ الوقائعِ ووصف تطورِ الأحداثِ وتقرير النتائج دُونَ الالتفاتِ إلى المقدماتِ ومحاولةِ اكتشافِ المنهجِ الذي يُسَيِّرها. ومع أنَّ الدراسات شملتْ وصفاً دقيقاً لكلِّ أحوالِ النَّبيّ- صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- وأفعالِهِ وكلِّ ما يتصلُ به.. إلا أنَّ الحديثَ عن المعجزاتِ والُمؤيِّداتِ الغيبيةِ كان على حسابِ سُنن عالمِ الشَّهادةِ التي يتحرَّكُ في إطارِها ويصنع الأحداثَ ويحقق النتائج38.
(الحقُّ أنَّ المحدِّثين في باب التحليلِ والتعليقِ والموازنةِ بين المواقفِ قد أرْبَوا على المتقدِّمين، وأكسبُوا السِّيرة جِدَّةً ورُواءً، وقد تفاوتُوا في ذلكَ على حسبِ تفاوتِهم في المراتبِ، وسعةِ العلمِ والأفقِ، والاطلاعِ على سيرِ الآخرين )39. ولكن غالبُ هذه الدِّراساتِ قد ركَّزَ على جانبِ إثباتِ النُّبوةِ، وإبراز الخصائصِ. وهو أمرٌ لهُ مُسوِّغُهُ الظرفيُّ في الصِّراعِ مع المخالفين. واهتمَّ جُزءٌ آخرُ باستخراجِ الأحكامِ والتوجيهاتِ والفوائدِ، واهتمَّ آخرونَ بالتفسيرِ الحركيِّ لتسويغِ بعضِ مواقفِ الحركةِ الإسلاميةِ المعاصرةِ.
ثاني عشر: الاهتمام بتحرير المنهج النبويِّ في سائر المجالات:
بقيت العنايةُ بالمنهج قليلةً، مع أنه بإمكانِ النَّظرةِ الشُّموليةِ لهذه الجهودِ العلميةِ الضَّخمةِ الآنفةِ الذِّكرِ أنْ تستخلصَ البِنيةَ الهيكليةَ العامةَ للمنهجِ النَّبويِّ في نواحيهِ المختلفةِ 40. نعم.. إنَّ استخلاصَ المنهجِ مطلبٌ ضروريٌّ، بيدَ أنه ليس بالأمرِ اليسيرِ، خِلافاً لما قد يتوهمُّهُ بعضُهم حين ظنُّوا أنَّ (المنهج النبويِّ) على طرف الثُّمام، وأنَّ نظرةً عجلى على السِّيرة العطرة، أو جزءٍ من السنة المطهرة، أو انتقاء مقاطع مِن هنا أو هناك كافيةٌ للإحاطةِ بهذا المنهجِ الفذِّ، وبناء حتمياتٍ تاريخيةٍ على تلك الأفهامِ العجلةِ. وتصوُّر بعضٍ أن بالإمكان إعادة إنتاج العهدين المكي والمدني، أو تمثيلهما في أي واقع يُعَدُّ مجازفة كبيرة
إنَّ المنهجَ حين يُطلقُ في إطارٍ معرفيٍّ إنَّما يُرادُ به قانونٌ ناظمٌ ضابطٌ يُقنن الفكرَ ويضبطُ المعرفةَ التي إنْ لم يضبطْها المنهجُ فقد تتحولُ إلى مُجرَّدِ خطراتٍ انتقائيةٍ مهما كانتْ أهميتُها لا يمكنُ تحويلُها إلى ضوابطَ فكريةٍ وقوانينَ معرفيةٍ تنتجُ الأفكارَ وتُولِّدُ المعارفَ وتضبطُ حركاتها وتُميِّزُ بينها ؛ فبالمنهجِ يُمكن أنْ نحُدد طبيعةَ المعرفةِ وقيمتها وحقلَ عملِها واتجاهِها وكيفيةِ البناءِ عليها والتوليدِ منها...
إنَّ أيَّ فكرٍ تتضاربُ مقولاتُهُ وتتناقضُ لا يُعتبرُ فِكْراً منهجياً حتَّى لو تمكَّنَ أصحابُهُ من تقديمِ مختلفِ التأويلاتِ التوفيقيةِ: كالتَّأويلِ، والمقاربةِ، والتلفيقِ، وغيرِها. ولذلكَ فإنَّ إطلاقَ مُصطلحِ: (منهج النَّبيّ- صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-) و (المنهج الإسلامي) على ما يصلُ الباحثون إليهِ باجتهادٍ شخصيٍّ أو فرديٍّ لابُدَّ أنْ يُحتاطَ فيه، كأنْ يُقالَ: على ما نَرَاهُ، أو على ما توصَّلنا إليه... إلخ )41.
مطلوبٌ اليوم أكثرُ مِن أيِّ وقتٍ مَضَى قراءةُ السِّيرة ودراستُها دراسةً استراتيجيةً في مختلفِ الحالاتِ الاجتماعيةِ والتربويةِ والعلميةِ والإداريةِ والسِّياسيةِ والاقتصاديةِ والحركيةِ والأمنيةِ والثقافيةِ.. ففي السِّيرة بيانٌ لجميعِ الحالاتِ أو أصولِها ؛ خِلافاً لصنيعِ بعضِ كُتَّابِ السِّيرة حين يُصورون حياةَ النَّبيّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ على أنها صراع وحروب وغزوات وسرايا، ويغفلون عن الجوانب الأخرى42.
لكن المطلوب: دقة تحليل الواقع المعاش من خلال مُتخصصين، لا مُتحمِّسين فقط، ثم دراسة السِّيرة وتحليلها، ثم تحديد مواقع الاقتداء من مسيرة السِّيرة، أو اكتشاف المرحلة من السِّيرة التي تمثل حالة الاقتداء وكيفيته من خلال ظروف الحال نفسه 43.
ثالث عشر: تحديد هدف الدراسة وهو الاقتداء والتأسِّي:
من العبثِ اعتبارُ سيرةِ النَّبيّ- صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-، لمجرَّدِ التَّسليةِ وإبراز عظمةِ الرِّجال ؛ بل إنَّ سيرتَهُ هدايةٌ للنَّاسِ، وترجمةٌ عمليةٌ لدِّين الله -عَزَّ و جَلَّ- وتصور للإسلامِ يتجسدُ في حياةِ صاحبِ الرِّسالةِ، تطبيقاً للمبادئِ والقواعدِ والأحكامِ النظريةِ 44. ولذا قالَ الزُّهريُّ: ( في عِلْمِ المغازي عِلْمُ الآخرةِ والأُولى ) 45. و لمَّا وعى الصَّحابة وسلفُ الأمةِ هذا الغرضَ اكتسبتِ السِّيرة في حياتِهم مكانةً عِلْميةً تليقُ بها وبهم. قال عليُّ بنُ الحُسين
كنَّا نتعلَّمُ مغازيَ رسولِ اللهِ- صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- كَمَا نتعلَّمُ السُّورةَ مِن القُرآنِ)46؛ لأنه لا غِنى لمن يُريدُ الاقتداءَ به عن معرفةِ سيرتِهِ. والاقتداءُ أساسُ الاهتداءِ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراًالأحزاب: 2147 .
ولكن كيف نتعاملُ مع السِّيرة في هذه المرحلةِ الُمتغيِّرةِ، وكيف يكونُ الاقتداءُ ؟ الواقعُ يتغيَّرُ، ووسائلنا في العمل والاقتداء وقراءة القيم لا تتغير، والسِّيرة اتخذتْ لكلِّ حالةٍ ما يُناسبها، كما قالَ النَّبيّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- لعمَّارِ بنِ ياسرٍ حينَ أكرهه المشركون على سبِّ النَّبيّ- صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- وذكر آلهتِهم بخيرٍ
إنْ عادُوا فَعُدْ)48
آية التأسي نزلت في غزوة الأحزاب لتبين أنَّ تمام الاقتداءِ إنَّما يكونُ في شدةِ البأسِ والضِّيقِ وفَوَاتِ الدُّنيا لمن تعلَّق بالآخرة، فلا يكون الاقتداءُ في اليُسرِ دُونَ العُسرِ، ولا في الحاجياتِ والتحسينياتِ دُونَ الضروريات من مقاصدِ الشَّريعةِ، وليس المقصودُ التقليلَ من شأنِ الاقتداءِ في العاداتِ ؛ فذلك مُهمٌّ في صياغةِ الشَّخصيةِ المتكاملةِ.
نزلت آيةُ الأحزابِ وقد بلغتِ القلوبُ الحناجرَ، وحين استنجدَ الصَّحابة بالرَّسُول- صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- عندما واجهتهم الصخرةُ الكبيرةُ, حاول تفتيتَها بالمِعولِ طبقاً للسُّننِ الجاريةِ مُؤمِّلاً النَّصرَ 49. ( فقيمة الاقتداء وعطاؤه وعظيم ثوابه عندما يكون في العزائم والقضايا الكبيرة التي قد يمتحن صاحبها في صدق إيمانه وقوة يقينه، فتفوته بعض النتائج في الدنيا، ويخسر المعركة، لكن الاقتداء يحميه ويحول بينه وبين السقوط، ويرتفع به من الوقوف عند النتائج القريبة إلى إبصار العواقب والمآلات.. ذلك أن مظنة الارتكاز في الاقتداء هي رجاء الله واليوم الآخر واستمرار الذكر الذي يجلِّي هذه الحقيقة، ويؤكد حضورها واستمرارها: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً الأحزاب: 21 )50.
ولكل مخلص أن يتساءل: ما نصيبُ السِّيرة النَّبَويَّة في المناهجِ التَّربويةِ اليومَ ؟ وما أثرُ معرفتِها في سُلُوكِ العاملينَ في ميادينِ الدَّعوةِ والتَّربيةِ والتَّعليمِ ؟
رابع عشر: معرفة مواضع الاقتداء من فعله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
معرفة أحوال أفعاله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وأقسامها مبحث أصولي يهم دارس السِّيرة.
وفعله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لا يخلو إمَّا أنْ يكونَ صدَرَ منه بمحضِ الجِبِلَّةِ، أو بمحضِ التَّشريعِ، وهذا قد يكونُ عامَّاً للأمة، وقد يكون خاصَّاً به -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-، فهذه ثلاثةُ أقسامٍ:
القسم الأول: الأفعالُ الجِبِلَّيَّةُ: كالقيامِ والقُعودِ والأكلِ والشُّربِ، فهذا القِسمُ مُباحٌ ؛ لأنَّ ذلكَ لم يُقصدْ به التَّشريعُ ولم نُتعبَّدْ به، ولذلك نُسِبَ إلى الجِبِلَّة، وهي الخِلْقةُ.
القسم الثاني: الأفعال الخاصة به -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- التي ثبت بالدَّليلِ اختصاصُهُ بها كالجمعِ بين تِسعِ نسوةٍ ؛ فهذا القِسمُ يحرُمُ فيه التَّأسِّي به.
القسم الثالث: الأفعال البيانية التي يقصد بها البيان والتشريع، كأفعال الصَّلاة والحج، فحكم هذا القسمِ تابعٌ لما بيَّنَهُ ؛ فإنْ كانَ المبيَّنُ واجِباً كانَ الفعلُ المبيِّنُ له واجِباً، وإنْ كانَ مندُوباً فمندوبٌ )51 .
خامس عشر: معرفة كيفية الاستفادة منها في الواقع:
الدِّراسةُ المفيدةُ للسِّيرةِ تحصلُ حينَ تُدرَسُ على أنَّها سُننٌ ربَّانيةٌ يُمكنُ أنْ تتكررَ كلما تكررتْ ظروفُها، ولا تتحققُ أبداً حينَ ننظرُ للسِّيرةِ على أنَّها مُجرَّدُ أحداثٍ مُفردةٍ قائمةٍ بذاتٍها حدثتْ زمنَ البعثةِ النَّبَويَّةِ... بل هيَ آياتٌ وعِبَرٌ في شؤونِ الحياةِ كلِّها، وإلا ضاعَ رصيدُها وقوتُها الدَّافعةُ لأجيالِ المسلمين ؛ فهي تربطُ المسلمُ بالسُّننِ الرَّبانيةِ، وتربطُ قلبَهُ باللهِ –تعالى- 52 .
إنَّ كلَّ حركةِ إصلاحٍ أو تغييرٍ تعجزُ عن الاستفادةِ من السِّيرة في صياغةِ مناهجِها وحلِّ مُشكلاتِها هي بعيدةٌ عن الاقتداءِ ؛ لأنَّ الواجبَ تجريدُ السِّيرة من قيدِ الزَّمانِ والمكانِ لتجيب عن أسئلة الواقع ومشكلاته. وهذا النوع من الدراسات قليل جداً ؛ إذ جلّ الدراسات لا تعبر عن عصر مؤلفها، ولا تخدم احتياجات واقعه، ولا تطرق مشكلاته.
قد تكون المشكلة كامنة أحياناً في غياب المقاصد الحقيقية التي تمثل معاني الخلود عند دارسي السِّيرة أي قدرتها على التعامل مع جميع الظروف مما جعلها عند كثيرين تاريخاً لا مصدراً للاهتداء والتشريع.
وهي لا شك تاريخ، ولكنها تاريخٌ وحاضر ومستقبل: تاريخٌ زماناً ومكاناً، وحاضرٌ عطاءً ومصدراً للتشريع، ومستقبلٌ رؤية ًواستشرافاً. وإذا كان التَّاريخ مصدراً للدرسِ والعبرةِ فالسِّيرة أَوْلى ؛ لأنها فترةٌ مُسددةٌ بالوحي، وحقبةُ بيانٍ عمليٍّ للدِّينِ. لقدْ سببَ غيابُ هذا المنطلقِ إغراقاً في الفقهِ النَّظريِّ سواء الذي يسيرُ خلفَ المجتمعِ، أو البعيد عن واقعِهِ كما سببَ تراجُعاً في الفقهِ التطبيقيِّ (فقه التنزيل), فصارتْ مشكلاتُ المسلمينَ تنشدُ الحلَّ المستوردَ. إنَّ مما يُؤكِّدُ أهميةَ الانطلاقِ من ذلك المنطلقِ حين التعامل مع السِّيرة ما يُشير إليه ترتيبُ سُورِ القُرآنِ وآياتِهِ, والسِّيرة بيانٌ عمليٌّ للقرآنِ فلم يجئْ ترتيبُهُ حسب نزولِهِ زَمَاناً ومَكَاناً ؛ لئلَّا يبقى المتأسِّي أسيرَ الزَّمانِ والمكانِ الماضيينِ، بل ليبقى مُسخِّراً للزَّمنِ مُتحكِّماً فيه يستطيعُ تحديدَ الموقعِ المناسبِ للاقتداءِ من خلالِ قيمِ القُرآنِ الكريمِ ومسيرةِ السِّيرة بحسب الظُّروفِ والإمكاناتِ وطبيعة أقدارِ التدينِ التي تحدد مكان الاقتداء من السِّيرة... هذا وإلا بقيت السِّيرة في خانة التبرك والفخر تصاغ في شكل موالد وموائد تشيع فيها البدعة، وتضيع فيها السنَّة، وتضيع معها الأوقات53. وفي سيرة سلفنا إضاءاتٌ للمستنيرين بنورِها، فهذا أبو بكر الصِّدِّيق -رضي الله عنه- يقاتلُ مانعي الزَّكاةِ، ويقولُ لعمرَ بنِ الخطَّاب لمَّا حاولَ تأجيلَ قتالِهم:
( أجبَّارٌ في الجاهليةِ، وخَوَّارٌ في الإسلامِ ؟ ! إنَّهُ قد انقطعَ الوحيُ، وتَمَّ الدِّين، أَوَ ينقصُ وأنا حيٌّ ؟ ! )54، فلم يتقيَّدْ بقيدِ الزَّمانِ، وهو ما قبل فرضية الزكاة في صدر الدعوة. ولذا فإن من الخطأ أن نريد إعادة مراحل السِّيرة التي كانتْ قبلَ اكتمالِ شرائعِ الإسلامِ، فنكتفي ببعضِها ردْحاً من الزَّمنِ، ونحمل النَّاسَ على شيءٍ من الدِّين في مرحلة من الزَّمنِ55 فذلكَ ( تبسيطٌ شديدٌ للأمورِ من ناحيةٍ، وتجاوزٌ لتحليلِ ومعرفةِ أهـمِّ الأبعادِ التي غابتْ عن محاولاتِ التغييرِ، وأدَّتْ إلى تراجعِها )56.
ولكي يتضحَ جانبُ التبسيطِ فإنَّهُ يُردُّ على مَن أرادَ تقييدَ الإفادةِ من السِّيرة بالزَّمانِ بتقييدِها بالمكانِ ! فهل يُطيقُهُ ؟ ولابُدَّ أنْ نلاحظَ -حالَ الإفادةِ من مُعطياتِ السِّيرةِ- أنَّهُ لا يُمكنُ أنْ تُنتِجَ الوسائلُ والتصرفاتُ التي استعملَها رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- النتائجَ نفسَها إذا استعملَها سِواهُ ؛ لاختصاصِ الرَّسُول -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- بالوحي والتَّسديدِ من اللهِ -عَزَّ و جَلَّ- 57.
ولِذَا، فإنَّهُ تبقى للسيرةِ النَّبَويَّة صفةُ المعياريةِ الخالدةِ في الإطارِ العمليِّ التطبيقيِّ، وليس ذلكَ أبداً لممارساتِ أحدٍ غيرِهِ كائناً مَنْ كانَ، فلا يجوزُ إسقاطُ السِّيرةِ على تصرفاتِ بعضِ الأفرادِ أو الجماعاتِ لتسويغِ بعضِ الممارساتِ وإكسابِها المشروعيةَ، سواء قبلَ التصرفِ أو بعدَهُ، وسواء في ذلكَ القِراءاتُ الحَرَكِيَّةُ أو العسكريةُ أو الأمنيةُ أو الاقتصاديةُ أو التربويةُ ما دامتْ فُصِّلتْ حَوَادِثُها على تصرفاتٍ مُعيَّنةٍ، والتي لا يُمكنُ أبداً أنْ تكونَ مِعْياراً، بل هيَ في الحقيقةِ صفحةٌ من التَّاريخ تُفيدُ الدَّرسَ والعِبْرةَ58.
وفي الختام: لعلَّ فيما سبقَ من الضَّوابطِ محاولةً لرسمِ معالمَ في كتابةِ السِّيرة ودراستِها ؛ والمرجُو أنْ تبعثَ لدى المهتمين المبادرةَ بنقدِها وتقويمِها، والسعيَ لتحريرِ منهجٍ علميٍّ متينٍ في دراسةِ سيرةِ الهادي -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-.
"عبد اللَّطيف بن محمَّد الحسن"
يكفي دلالةً على القناعةِ بأهميةِ دراسةِ السِّيرة تلك الكتاباتُ المتكاثرة التي تُحاول الإفادةَ من السِّيرة بأكثر من صورةٍ. ولِمَا لمنهج الكاتبِ من تأثيرٍ في كتاباتِهِ؛ فإنَّ مِن المهمِّ السعيَ إلى تحديدِ أُطُرٍ منهجيةٍ ضابطةٍ للدِّراسةِ والكتابةِ. وهذه محاولةٌ لرسمِ بعضِ المعالمِ والضَّوابطِ أرجُو بها النَّفعَ، وأنْ تتبعَها دراساتٌ أكثرُ نُضجاً من ذَوي الاهتمامِ والاختصاصِ2 .
أولاً: فهم حقيقة الإسلام ومنهجه المتكامل:
يكتسب هذا القيد مكانته من جهة عجز مَن يفتقده عن قراءة أحداث السِّيرة قراءةً موضوعية تمكنه من سلامة فهم الأحداث، وتقصِّي أسبابها، ومعرفة دوافعها، وتفسيرها بما يتفق مع رُوح الإسلام.
فمن المهم ( أن يُعنى بالجانب التشريعيِّ الذي يحتكم إليه المجتمعُ، وتُوضَّح الضوابطُ الخلقية والقانونية التي تحكم حركةَ الأفراد والمجتمعات، ولا يُمكن الفصلُ بين الجانبِ السياسيِّ والعسكريِّ، والجانب الخلقيِّ والتشريعيِّ، خاصة في القرونِ الأولى من تاريخ الإسلام ؛ حيث تتشابك العلاقاتُ الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية بالعقيدة تشابكاً وثيقاً بحيثُ يصعبُ فهم حركة التَّاريخ في تلك المرحلةِ دُونَ فهمِ رُوحِ الإسلامِ ومبادئِهِ ) 3 .
إزاء هذا الضابط نرى أنفسنا أمام خطرين اثنين:
أولهما: افتقاد بعض الباحثين والدارسين إلى المرجعية الشرعية.
وثانيهما: قراءة السِّيرة بأنظمة معرفية أخرى: رأسمالية، واشتراكية، وعلمانية، وقومية من الخارج، ومحاولة تقطيعها والانتقاء من أحداثِها، وفصلها عن نسقها المعرفي وسياقها ومناسباته4.
ونظير هذا: قراءة السِّيرة بخلفيةٍ بدعيةٍ صُوفيةٍ أو رافضيةٍ.. ونحوها؛ فالرَّافضةُ مثلاً: يُحللون أحداث السِّيرة تحليلاً يتسقُ مع انحرافاتِهم العَقَدية !
ثانياً: ترك المنطقِ التَّسويغيِّ:
ينبغي أن تنطلق دراسة السِّيرة من اليقين بعزة الإسلام وأحقيته في الحُكْمِ والسِّيادةِ، وأنَّ الله لا يقبلُ ديناً سواه، وأنه لا يُفهم إلا من خلال دراسة السِّيرة.
ولذا وجب البُعدُ عن الرُّوحِ الانهزاميةِ في تحرير السِّيرة وتحليلها، وخاصة في الجهاد.
ومن المواضيع التي ينهزم أمامها التسويغيون ولا يجدون لها مُسوِّغاً على حدِّ زعمهم مسألة قتل يهود بني قُريظة لمَّا قبلوا حُكْمَ سعد بن معاذ فيهم وكان حليفَهم في الجاهلية, فَحَكَمَ فيهم بحُكْمِ اللهِ: أنْ يُقتلَ رجالُهم، وتُسبى نساؤهم وذراريهم. هنا يصعب الموقفُ على مَن في قلبِهِ انهزاميةٌ، فيسعى للتشكيكِ في ثبوت القصة.
وهي ثابتةٌ بلا شك5.
ثالثاً: اعتبار القرآن الكريم مصدراً أولاً في تلقي السِّيرة وفهمها:
لدراسة السِّيرة من خلال كتاب الله ميزاتٌ عدة، منها:
- أنَّ مُدارسته عبادة عظيمة.
- اشتمالُ القُرآنِ على إشاراتٍ تفصيليةٍ لا تُوجدُ في مصدرٍ آخر، كما في أحداث زواج زينب -رضي الله عنها-.
- دِقَّةُ وصفِهِ للأحداثِ والشُّخوصِ، حتَّى يُصوِّر نبضات القلب، وتقاسيم الوجه، وخلجات الفؤاد، وهذه خصيصةٌ تنقلُ القارئَ إلى جَوِّ الحَدَثِ ليعيشَ فيه.
- تركيزُهُ على خصائصِ سيرةِ النَّبيّ - صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- , مثل: كونِهِ بَشَرَاً،وأنَّ رسالته عامةٌ، وأنَّهُ خاتمُ النَّبيّين. ومنها: ربطه بين قصة الحدث وسيره وبين العقيدة والإيمان والقضاء والقدر.
- بيانه حِكْمَةَ الحَدَثِ ونتائجَهُ وحِكْمَةَ اللهِ في تقديره، وهو الدَّرسُ التربويُّ المطلوب6.
وبدراسة السِّيرة من القرآنِ يتحولُ الحَدَثُ من قصةٍ في زمانٍ ومكانٍ مُعينين إلى درسٍ كبيرٍ مُتكاملٍ يتعدَّى ظُروفهما.. يُتلى إلى قيامِ السَّاعةِ7.
إنَّ مَن يعيشُ السِّيرة من خلال القُرآنِ وصحيحِ السُّنةِ لا تعود السِّيرة في حسِّه مجرد أحداث ووقائع، وإنما تصيرُ شيئاً تتنامى معه مشاعرُهُ الإيمانية تجاه الجماعةِ المؤمنةِ، ووعيه الإيماني بالسُّنن الرَّبانيةِ8. ومع أهميةِ هذا النَّوعِ مِن الدِّراسةِ فإنَّهُ لم يلقَ بعدُ اهتماماً يتناسبُ معه9.
رابعاً: تمحيص الصَّحيحِ من الأخبار فيما يتعلَّقُ بالعقيدةِ والشَّريعةِ:
النَّاسُ في اشتراطِ تمييز الصَّحيحِ من الضَّعيفِ في رُواياتِ السِّيرة على قولينِ مشهورينِ:
الأول: مَنْ لم يشترط التمحيصَ وأجاز إيرادَ كلِّ مروياتِ السِّيرة، واحتجَّ بأنَّ كَتَبَة السِّيرة لم يعتمدوه ولم يحرصُوا عليه. واستدلُّوا بما اشتُهِر عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنه قال: ( ثلاثةُ كتبٍ ليس لها أصولٌ: المغازي، والملاحم، والتفسير )10. ويمكن نقاش دليلهم
واستدلالُهم من أوجهٍ11:
أ- أنَّ ثبوتَ هذه المقولةِ عن الإمام أحمد موضعُ نظرٍ12 ، ومَن ذا الذي يقول: إنه لا يثبتُ شيءٌ في مغازي المسلمين ؟ فأينَ ما في الصِّحاحِ والسُّنن، وأينَ ما ذكره الإمامُ أحمدُ نفسُه في مسندِهِ ؟
ب - وفي حالِ ثبوت الرِّواية فإنَّهُ لم يقلْ: لم يَصِحَّ فيها شيءٌ، ولكن قالَ: ليس لها أصولٌ. وقوله: ثلاثة كُتُبٍ يدل على أنَّ مرادَهُ: ( كتب مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة غير معتمد عليها، ولا موثوق بصحتها؛ لسوء أحوال مُصنفيها، وعدم عدالةِ ناقليها، وزيادات القُصَّاص فيها)13.
ج - أنه حتَّى لو نَفَى الصِّحَّة عنها فإنَّ نفيَها لا ينفي الحُسْن، ولا يستلزمُ الضَّعفَ أو الوضعَ.
د - يحملُ قولُهُ على الحال الغالب ؛ فإنَّ هذه الفنونَ غالبُ رواياتِها ليس لها أسانيدُ متصلةٌ14.
أما القول الثاني: فيُمثله د. أكرم العمري ؛ حيثُ يقولُ: ( المطلوبُ اعتمادُ الرِّواياتِ الصَّحيحةِ وتقديمها، ثم الحَسَنةُ، ثم ما يُعتضد من الضَّعيفِ لبناء الصُّورة التَّاريخيةِ لأحداث المجتمعِ الإسلاميِّ في عصرِ صدرِ الإسلامِ... وعند التعارضِ يُقدَّمُ الأقوى دائِماً.. أمَّا الرِّواياتُ الضَّعيفةُ التي لا تقوى أو تُعتضد فيُمكن الإفادةُ منها في إكمالِ الفراغ الذي لا تسدُّهُ الرِّواياتُ الصحيحةُ والحسنةُ على ألا تتعلق بجانبٍ عقديٍّ أو شرعيٍّ ؛ لأنَّ القاعدةَ: ( التشدد فيما يتعلَّقُ بالعقيدة أو الشريعة )15. ولا يخفى أنَّ عصرَ السِّيرة النَّبَويَّة والخلافة الراشدة مليءٌ بالسَّوابقِ الفقهية، والخلفاء الراشدون كانوا يجتهدون في تسيير دفة الحياة وفق تعاليم الإسلام؛ فَهُمْ موضع اقتداءٍ ومُتابعةٍ فيما استنبطُوا من أحكامٍ ونُظُمٍ لأقضيةٍ استجدتْ بعد توسع الدولةِ الإسلاميةِ على إثر الفتوحِ.
أما الرِّواياتُ التَّاريخيةُ المتعلقةُ بالعمران: كتخطيطِ المدن، وزيادة الأبنية، وشق الترع.. أو المتعلقة بوصف ميادين القتال وأخبار المجاهدين الدالة على شجاعتهم وتضحيتهم فلا بأسَ من التساهلِ فيها )16.
وهذا هو المنهجُ المعتبرُ عند الأئمةِ المحققين، يشهد به صنيعُ الذَّهبيّ في (تاريخ الإسلام)، وابنِ سيدِ النَّاسِ في (عُيون الأثر)17، وابنِ حَجَرٍ في (الفتح)18، وكذلك ابن القيم وابن كثير.
أمَّا ما يُؤخذ من الرِّواياتِ التَّاريخية فهو ما اتفقَ عليه الإخباريون 19.أمَّا اشتراطُ الصِّحَّة في كلِّ خبرٍ تاريخيٍّ والذي مشى عليه بعضُ المُؤلِّفين في السِّيرة فاختزلوا كثيراً من أحداثِها فإنَّ ذلك يترتبُ عليه تضييع ثروة علمية كبرى، وإهدار الاستفادة منها في مجالاتٍ تربويةٍ وإداريةٍ.. ونحوها ؛ حيث تضعفُ الثِّقةُ في كلِّ ما استُنبط منه20.
يبقى: كيف تدوّن السِّيرة على ضوء المنهج السابق: هل تذكر كل الأحاديث بنصوصها أم يجمع بين الروايات في سياق واحد ؟ الظاهر: هو الطريق الثاني ؛ تحاشياً لتشوش القارئ، وتشتت ذهنه بانقطاع الأحداث، وتكرر بعضها، وعدم وضوح صورة متسلسلة متكاملة للسيرة، ثم إنه صنيع الزهري في روايته لحادثة الإفك التي رواها مسلم عنه 21.
خامساً: معرفةُ حدودِ العقلِ في قبولِ النُّصوصِ وردها:
يرى العديدُ من الدَّارسين وخاصة من المستشرقين أنَّ عُلماء المسلمين أهملوا نقدَ المتون، وأنَّ ذلك لغياب عقليتهم النقدية. وهذا مردود، وهذه بعض أمثلة لمحاكمات تاريخية مستندة إلى نقد المتن:
1- رفض ابنُ حزم العددَ المذكور عن عدد جند المسلمين في أُحُدٍ ؛ بناءً على محاكمة المتن وفق أقيسةٍ عقليةٍ بحتةٍ.
2- قدَّم مُوسى بن عُقبة غزوةَ بني المصطلق إلى السَّنةِ الرَّابعةِ خِلافاً للأكثرين الذين جعلُوها في السنة السادسة ؛ لاشتراك سعدِ بن مُعاذ فيها، وهو مُتوفَّى عقب بني قريظة وهي في السنة الرابعة. وتابعَهُ على تقديمِ تاريخِها ابنُ القيم والذَّهبيّ.
3- أخَّر البُخاريّ غزوةَ ذات الرقاع إلى ما بعد خيبر ؛ نظراً لاشتراك أبي مُوسى الأشعري وأبي هُريرة فيها، وقد قَدِما بعد خيبر، وتابعه على تأخيرِها ابنُ القيم وابنُ كثير وابنُ حجرٍ، خِلافاً لرأي ابنِ إسحاق والواقديّ في تقديمِها.
4- الخلافُ حولَ تشريعِ صلاةِ الخوفِ معظمه مبنيٌّ على محاكمةِ المتنِ. الأمثلة كثيرة ؛ ولكن من المهم أن يُقالَ: إنَّ حفظ الروايات قد استنفدَ طاقة الأوائل، وأتى بعدهم من لخَّص وذيَّل عليها وانتقى منها، وهذا عملٌ نقديٌّ. وفي مؤلَّفاتٍ مُتأخِّرةٍ تَبْرُزُ محاكماتٌ دقيقةٌ للمتون، كما في: البداية والنهاية، وفتح الباري، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية,
قال ابنُ تيمية -رحمه الله-: ( الأحاديث التي ينقلها كثيرٌ من الجُهَّالِ لا ضابطَ لها، لكن منها ما يُعرف كذبُهُ بالعقل، ومنها ما يُعرف كذبُهُ بالعادةِ، ومنها ما يُعرف كذبُهُ بأنه خلافُ ما عُلِمَ بالنَّقلِ الصَّحيحِ، ومنها ما يُعرفُ كذبُهُ بطرقٍ أُخرى ) 22.
كما يحسب في عداد تقويم العقلية النقدية لدى المسلمين خدمتهم لنصوص أحاديث الأحكام خدمة بالغة، وجهودهم في كتب أصول الفقه التي تُنبئ عن عقلية فذة. وإذا علمنا أنَّ للمُؤرِّخين القُدامى كتباً في فنون أخرى لم يجزْ لنا أنْ نتهمهم بإهمال المتون، كما يجبُ مُراعاةُ عنصر الزمن، فلا تقوَّم جهودُهم بمقاييس أنجزها التقدمُ العلميُّ اليوم ؛ لئلا يُغمطوا حقَّهم.
على أنَّ علمَ مصطلح الحديث قد اشتملَ على مباحثَ تُشكِّلُ الجانبَ النَّظريَّ لنقد المتون، ولكن القصور حصلَ في تطبيق ذلك على الرِّواية التَّاريخيةِ، فلم تحظَ بما حَظِيتْ به الأحاديثُ النَّبَويَّة من العنايةِ 23.
لقد انزلق المطالبون بنقد المتون؛ حيث أجروا أحكامَ العقل في المتون الثابتةِ، وجعلُوا ذلك أساساً للردِّ والقبولِ، وذلك أمرٌ تتفاوتُ فيه العقولُ، وإنما يجيءُ الإشكالُ من جهةِ قُصُورِ العقلِ عن إدراكِ الخطابِ للتوفيقِ بينه وبين النُّصوصِ الأُخرى.
وربما يُثبت مَن لم يلتزمْ منهجَ المحدِّثين حديثاً واهياً لصحة معناه، وقد يردُّ رواية الشيخين لظنه تعارضها مع مبادئ الإسلام وقواعده، وهذا تحكيمٌ ضعيفٌ للعقل 24.
ومما وقعوا فيه خلالَ دراسةِ السِّيرة نفيُ المعجزات الثابتة بالنَّقل الصحيح، وهو في حقيقتِهِ انصياعٌ للفكر الماديِّ والفلسفات الوضعيةِ، مع أنَّ المسلمَ لابُدَّ له من الاعتزازِ الذي يُحقق له الاستقلالَ التام في النَّظرِ والبحثِ العلميِّ 25.
سادساً: فهمُ العربيةِ ومعرفةُ أساليبِها:
(امتازَ التأليفُ في العُصُورِ الأُولى بقوةِ الأسلوبِ وفُحُولةِ المعاني وجَزَالةِ الألفاظِ وإشراق الدِّيباجةِ والتزام أساليب العربِ ومذاهبهم في البيان)26 فدعتِ الحاجةُ لدارسِ السِّيرة إلى حُسنِ فهمِ العربيةِ وأساليبِها ؛ ليحسن التعامل مع رواياتِ السِّيرة ؛ إذِ المطلوبُ في فهمِها والاستنباط منها أنْ يتمَّ وفقَ قواعد العربيةِ وأساليبِها دُونَ تعسفٍ أو تمحُّلٍ في التفسيرِ 27.
سابعاً: الالتزام بالمصطلحات الشرعية:
قَسَّمَ اللهُ -تبارك وتعالى- النَّاسَ ثلاثةَ أقسامٍ: مؤمناً، وكافراً، ومنافقاً كما في صدر سورة البقرة, وجعلهم حزبينِ: أولياء الرَّحمن، وأولياء الشَّيطان، فالواجبُ الالتزام بهذه التسميات، وعدمُ العدولِ عنها إلى مثل: يميني، يساري 28، ليبرالي... إلا عند الحاجةِ للتعريف باتجاهاتِ بعض الأفراد الذين يترتب على معرفةِ ذلك منهم مصلحةٌ، مع الحرص على التحديدِ ما أمكن. وفائدةُ التحديدِ في تقليلِ التمييعِ والتضليلِ الذي يسعى إليه المُفسدون وأشياعُهم ؛ حيث يحرصُون على التعميةِ وتجاهلِ الأسماءِ الشَّرعيةِ التي يترتبُ عليها أحكامٌ، وتستلزم ولاءً أو براءً.
ثامناً: صدق العاطفة:
من أُسسِ الكتابة في السِّيرة ودراستها توفرُ المحبةِ الصادقةِ لصاحبِها -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- والعاطفة الحية التي تُشعِرُ بمدى الارتباطِ الحقيقيِّ قَلْباً وقَالباً، والتفاعل الحقيقي مع أحداث سيرته29.
ولقد عبَّر الشيخُ محمد الغزالي عن عاطفتِهِ الجيَّاشة, فقالَ في مُقَدِّمَة "فقه السِّيرة" 30: ( إنني أكتبُ في السِّيرة كما يكتبُ جنديٌّ عن قائدِهِ، أو تابعٌ عن سيدِهِ، أو تلميذٌ عن أستاذِهِ، ولستُ- كما قلتُ- مُؤرِّخاً مُحايداً مبتوتَ الصِّلةِ بمن يكتبُ عنه). ودِراسةُ السِّيرة تعبُّداً للهِ وتقرباً إليه تُنمِّي ذلكَ الحُبَّ، وتسقي تلك العاطفةَ.
تاسعاً:الوفاء بحقوق المصطفى -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- دون غُلوٍّ ولا جفاء:
ينأى عن سنةِ النَّبيّ- صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- ومنهج سَلَفِ الأمةِ في دراسة السِّيرة فريقان 31:
1 - قومٌ قصَّرُوا في حقِّ النَّبيّ- صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- وما يجبُ له من الإجلالِ والتَّوقيرِ والتعظيمِ، فدرسوا سيرتَهُ كما يدرسون سائرَ الشَّخصياتِ الأُخرى، فنظرُوا لجوانبِ العظمةِ البشريةِ والقيادةِ والعبقريةِ والبُطولةِ والملك والإصلاحِ الاجتماعيِّ، مُغفلينَ الجانبَ الأعلى في حياتِهِ، وهو تشرفه بوحي اللهِ- عَزَّ وجَلَّ- وختم النبوةِ والرِّسالةِ. ولهؤلاء يحسنُ سياقُ خبرِ أبي سُفيان يومَ فتحِ مكَّةَ ؛ حيثُ قالَ للعبَّاسِ لمَّا رأى كتائبَ الصَّحابة -رضي الله عنهم-: واللهِ, لقد أصبحَ مُلكُ ابنِ أخيكَ اليومَ لعظيماً، فقال العبَّاسُ: ويحك يا أبا سفيان، إنَّها النُّبوةُ، قال: فنعم إذا 32.
2 - وآخرون بالغُوا في التعظيمِ وغلوا في منزلةِ الرَّسُول - صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-، فلم يَرُقْ لهم وصفُهُ بالبشريةِ، بلْ رُبَّما خَطَرَ لبعضِهم أنَّهُ ضَرْبٌ من الجفاءِ ! مع أنَّ كونَهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- بَشَراً عبداً لله -عَزَّ و جَلَّ- من مُسلَّماتِ العقيدةِ، وخِلافُهُ ضَرْبٌ من الضَّلالِ ؛ فقدْ قالَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-: ( لا تُطروني كما أطرتِ النَّصارى ابنَ مريمَ ؛ فإنَّما أنا عبدٌ، فقُولُوا: عبدُ اللهِ ورسولُهُ )33.
فالحقُّ وَسَطٌ بينَ الطَّرفينِ ؛ ولدراسةِ السِّيرة انطلاقاً من ذلك أثرٌ كبيرٌ في العقيدةِ والعبادةِ والسُّلوكِ والدَّعوةِ والتَّأسِّي والاقتداء.
عاشراً: تحديد هدف الكتابة والشريحة المخاطبة بها:
على كاتب السِّيرة معرفةُ الشَّريحةِ المرادِ مخاطبتُها، وفهمُ الأسلوبِ المناسبِ الذي تُؤدَّى به. وعليه كذلكَ أنْ يُعيِّنَ غرضَهُ من الكتابةِ، وماذا يُريد مِن: معالجةٍ جديدةٍ، أو طرحٍ للأحداثِ بأسلوبٍ جديدٍ، أو تعليلٍ لقضايا منغلقةٍ، أو تركيزٍ على أحداثٍ أغفلَها الكُتَّابُ 34.
فمثلاً المرحلةُ المكيةُ مرحلةٌ تربويةٌ خَصبةٌ كُتبتْ فيها كثيرٌ من الكتاباتِ، ولا تزالُ بحاجةٍ إلى بسطٍ في بعضِ جوانبِها وزواياها، ومِنْ ذلكَ:
1- موقفُ الجاهليةِ من الدَّعوةِ والمؤمنين بها ؛ فأعداء الدَّعوةِ ليسُوا قريشاً وحدَهُم، بل كل الجاهلية.. ثقيف وهوازن وغيرهما. وإنَّما برزتْ قريشٌ ؛ لأنهم عشيرته -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-الأقربون، ولكن تخصيصُهم بالحديثِ يوحي بمحليةِ الدَّعوةِ، وهو خطأٌ جَسِيمٌ.
2- موقفُ المؤمنينَ مِن الاضطهادِ، بالمقارنةِ بينَ حالهِم قبلَ الإسلامِ وبعده، وكيفَ صنعُهم الإسلامِ حتَّى هانَ على المؤمنينَ من العُقُوباتِ ما كان أخفه هو غايةُ التهديدِ في الجاهليةِ كالطَّردِ من القبيلةِ مثلاً.
3 - الدَّورُ التَّربويُّ العظيم لدارِ الأرقمِ مدرسة المؤمنين السابقين الأولين، والمؤسف أن الأخبار عنها قليلة، مع أنها تميزت بإعطاء منهجٍ تربويٍّ متكاملٍ 35. ولعلَّ من الكتب المفيدة في دراسةِ المرحلةِ المكيةِ: في ظِلال القُرآن، لسيد قطب -رحمه الله- 36.
حادي عشر: العناية بتحليل الأحداث والتعليق والموازنة:
بذل العلماءُ المتقدِّمُون جُهُوداً مُضنيةً في حفظِ العلمِ وروايتِهِ أشغلتهم في بعضِ الأحيانِ عن العنايةِ بتحليلِ الأخبارِ ودراستِها والنَّظرِ في أسبابِ الأحداثِ ومُلابساتِها.
وفي عصورِ الضَّعفِ لم يأخذْ جانبُ التَّحليلِ والدِّراسةِ حقَّهُ ؛ ( بسبب النَّظرةِ التجزيئيةِ للقَضَايا، والسَّطحيةِ في التَّعاملِ مع الرِّواياتِ، وعدمِ وضوحِ التصورِ الإسلاميِّ لحركةِ التَّاريخ ودُورِ الفردِ والجماعةِ، والعلاقةِ الجدلية بين القدرِ والحريةِ وقانون السَّببيةِ في الرَّبطِ بين المقدماتِ والنَّتائجِ. فضلاً عن أنَّ الكتبَ التَّاريخية القديمة لا تُمدنا بمنحى واضحٍ في التَّحليلِ والتصورِ الكليِّ ؛ بسببِ اعتمادِها على سَرْدِ الرِّواياتِ فقط ؛ إذْ قلَّما يُشيرُ المُؤرِّخ الإسلاميُّ القديمُ إلى السُّنن والنَّواميسِ والقوانين الاجتماعيةِ التي تحكم حركةَ التَّاريخ، رغم أنَّ القُرآنَ الكريمَ لفتَ نظرَ المسلمين إلى ذلك كلِّه بوضوحٍ، بل إنَّ أحداً مِن مُؤرِّخي الإسلامِ لم يحاولْ إعادةَ صياغةِ النَّظرةِ القُرآنيةِ للتَّاريخِ وتقديم الوقائع والتطبيقات والشَّواهد القرآنية عليها بشكلِ نظرياتٍ كُلِّيةٍ حتَّى وقت متأخر عندما كتبَ ابنُ خَلْدُون مُقدمتَهُ ) 37.
ولغيابِ النَّظرةِ التحليليةِ في دِراسة السِّيرة فقد غلب عليها الطَّابعُ التسجيليُّ السَّرديُّ الذي يُحاولُ إثباتَ الوقائعِ ووصف تطورِ الأحداثِ وتقرير النتائج دُونَ الالتفاتِ إلى المقدماتِ ومحاولةِ اكتشافِ المنهجِ الذي يُسَيِّرها. ومع أنَّ الدراسات شملتْ وصفاً دقيقاً لكلِّ أحوالِ النَّبيّ- صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- وأفعالِهِ وكلِّ ما يتصلُ به.. إلا أنَّ الحديثَ عن المعجزاتِ والُمؤيِّداتِ الغيبيةِ كان على حسابِ سُنن عالمِ الشَّهادةِ التي يتحرَّكُ في إطارِها ويصنع الأحداثَ ويحقق النتائج38.
(الحقُّ أنَّ المحدِّثين في باب التحليلِ والتعليقِ والموازنةِ بين المواقفِ قد أرْبَوا على المتقدِّمين، وأكسبُوا السِّيرة جِدَّةً ورُواءً، وقد تفاوتُوا في ذلكَ على حسبِ تفاوتِهم في المراتبِ، وسعةِ العلمِ والأفقِ، والاطلاعِ على سيرِ الآخرين )39. ولكن غالبُ هذه الدِّراساتِ قد ركَّزَ على جانبِ إثباتِ النُّبوةِ، وإبراز الخصائصِ. وهو أمرٌ لهُ مُسوِّغُهُ الظرفيُّ في الصِّراعِ مع المخالفين. واهتمَّ جُزءٌ آخرُ باستخراجِ الأحكامِ والتوجيهاتِ والفوائدِ، واهتمَّ آخرونَ بالتفسيرِ الحركيِّ لتسويغِ بعضِ مواقفِ الحركةِ الإسلاميةِ المعاصرةِ.
ثاني عشر: الاهتمام بتحرير المنهج النبويِّ في سائر المجالات:
بقيت العنايةُ بالمنهج قليلةً، مع أنه بإمكانِ النَّظرةِ الشُّموليةِ لهذه الجهودِ العلميةِ الضَّخمةِ الآنفةِ الذِّكرِ أنْ تستخلصَ البِنيةَ الهيكليةَ العامةَ للمنهجِ النَّبويِّ في نواحيهِ المختلفةِ 40. نعم.. إنَّ استخلاصَ المنهجِ مطلبٌ ضروريٌّ، بيدَ أنه ليس بالأمرِ اليسيرِ، خِلافاً لما قد يتوهمُّهُ بعضُهم حين ظنُّوا أنَّ (المنهج النبويِّ) على طرف الثُّمام، وأنَّ نظرةً عجلى على السِّيرة العطرة، أو جزءٍ من السنة المطهرة، أو انتقاء مقاطع مِن هنا أو هناك كافيةٌ للإحاطةِ بهذا المنهجِ الفذِّ، وبناء حتمياتٍ تاريخيةٍ على تلك الأفهامِ العجلةِ. وتصوُّر بعضٍ أن بالإمكان إعادة إنتاج العهدين المكي والمدني، أو تمثيلهما في أي واقع يُعَدُّ مجازفة كبيرة
إنَّ المنهجَ حين يُطلقُ في إطارٍ معرفيٍّ إنَّما يُرادُ به قانونٌ ناظمٌ ضابطٌ يُقنن الفكرَ ويضبطُ المعرفةَ التي إنْ لم يضبطْها المنهجُ فقد تتحولُ إلى مُجرَّدِ خطراتٍ انتقائيةٍ مهما كانتْ أهميتُها لا يمكنُ تحويلُها إلى ضوابطَ فكريةٍ وقوانينَ معرفيةٍ تنتجُ الأفكارَ وتُولِّدُ المعارفَ وتضبطُ حركاتها وتُميِّزُ بينها ؛ فبالمنهجِ يُمكن أنْ نحُدد طبيعةَ المعرفةِ وقيمتها وحقلَ عملِها واتجاهِها وكيفيةِ البناءِ عليها والتوليدِ منها...
إنَّ أيَّ فكرٍ تتضاربُ مقولاتُهُ وتتناقضُ لا يُعتبرُ فِكْراً منهجياً حتَّى لو تمكَّنَ أصحابُهُ من تقديمِ مختلفِ التأويلاتِ التوفيقيةِ: كالتَّأويلِ، والمقاربةِ، والتلفيقِ، وغيرِها. ولذلكَ فإنَّ إطلاقَ مُصطلحِ: (منهج النَّبيّ- صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-) و (المنهج الإسلامي) على ما يصلُ الباحثون إليهِ باجتهادٍ شخصيٍّ أو فرديٍّ لابُدَّ أنْ يُحتاطَ فيه، كأنْ يُقالَ: على ما نَرَاهُ، أو على ما توصَّلنا إليه... إلخ )41.
مطلوبٌ اليوم أكثرُ مِن أيِّ وقتٍ مَضَى قراءةُ السِّيرة ودراستُها دراسةً استراتيجيةً في مختلفِ الحالاتِ الاجتماعيةِ والتربويةِ والعلميةِ والإداريةِ والسِّياسيةِ والاقتصاديةِ والحركيةِ والأمنيةِ والثقافيةِ.. ففي السِّيرة بيانٌ لجميعِ الحالاتِ أو أصولِها ؛ خِلافاً لصنيعِ بعضِ كُتَّابِ السِّيرة حين يُصورون حياةَ النَّبيّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ على أنها صراع وحروب وغزوات وسرايا، ويغفلون عن الجوانب الأخرى42.
لكن المطلوب: دقة تحليل الواقع المعاش من خلال مُتخصصين، لا مُتحمِّسين فقط، ثم دراسة السِّيرة وتحليلها، ثم تحديد مواقع الاقتداء من مسيرة السِّيرة، أو اكتشاف المرحلة من السِّيرة التي تمثل حالة الاقتداء وكيفيته من خلال ظروف الحال نفسه 43.
ثالث عشر: تحديد هدف الدراسة وهو الاقتداء والتأسِّي:
من العبثِ اعتبارُ سيرةِ النَّبيّ- صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-، لمجرَّدِ التَّسليةِ وإبراز عظمةِ الرِّجال ؛ بل إنَّ سيرتَهُ هدايةٌ للنَّاسِ، وترجمةٌ عمليةٌ لدِّين الله -عَزَّ و جَلَّ- وتصور للإسلامِ يتجسدُ في حياةِ صاحبِ الرِّسالةِ، تطبيقاً للمبادئِ والقواعدِ والأحكامِ النظريةِ 44. ولذا قالَ الزُّهريُّ: ( في عِلْمِ المغازي عِلْمُ الآخرةِ والأُولى ) 45. و لمَّا وعى الصَّحابة وسلفُ الأمةِ هذا الغرضَ اكتسبتِ السِّيرة في حياتِهم مكانةً عِلْميةً تليقُ بها وبهم. قال عليُّ بنُ الحُسين
ولكن كيف نتعاملُ مع السِّيرة في هذه المرحلةِ الُمتغيِّرةِ، وكيف يكونُ الاقتداءُ ؟ الواقعُ يتغيَّرُ، ووسائلنا في العمل والاقتداء وقراءة القيم لا تتغير، والسِّيرة اتخذتْ لكلِّ حالةٍ ما يُناسبها، كما قالَ النَّبيّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- لعمَّارِ بنِ ياسرٍ حينَ أكرهه المشركون على سبِّ النَّبيّ- صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- وذكر آلهتِهم بخيرٍ
آية التأسي نزلت في غزوة الأحزاب لتبين أنَّ تمام الاقتداءِ إنَّما يكونُ في شدةِ البأسِ والضِّيقِ وفَوَاتِ الدُّنيا لمن تعلَّق بالآخرة، فلا يكون الاقتداءُ في اليُسرِ دُونَ العُسرِ، ولا في الحاجياتِ والتحسينياتِ دُونَ الضروريات من مقاصدِ الشَّريعةِ، وليس المقصودُ التقليلَ من شأنِ الاقتداءِ في العاداتِ ؛ فذلك مُهمٌّ في صياغةِ الشَّخصيةِ المتكاملةِ.
نزلت آيةُ الأحزابِ وقد بلغتِ القلوبُ الحناجرَ، وحين استنجدَ الصَّحابة بالرَّسُول- صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- عندما واجهتهم الصخرةُ الكبيرةُ, حاول تفتيتَها بالمِعولِ طبقاً للسُّننِ الجاريةِ مُؤمِّلاً النَّصرَ 49. ( فقيمة الاقتداء وعطاؤه وعظيم ثوابه عندما يكون في العزائم والقضايا الكبيرة التي قد يمتحن صاحبها في صدق إيمانه وقوة يقينه، فتفوته بعض النتائج في الدنيا، ويخسر المعركة، لكن الاقتداء يحميه ويحول بينه وبين السقوط، ويرتفع به من الوقوف عند النتائج القريبة إلى إبصار العواقب والمآلات.. ذلك أن مظنة الارتكاز في الاقتداء هي رجاء الله واليوم الآخر واستمرار الذكر الذي يجلِّي هذه الحقيقة، ويؤكد حضورها واستمرارها: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً الأحزاب: 21 )50.
ولكل مخلص أن يتساءل: ما نصيبُ السِّيرة النَّبَويَّة في المناهجِ التَّربويةِ اليومَ ؟ وما أثرُ معرفتِها في سُلُوكِ العاملينَ في ميادينِ الدَّعوةِ والتَّربيةِ والتَّعليمِ ؟
رابع عشر: معرفة مواضع الاقتداء من فعله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
معرفة أحوال أفعاله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وأقسامها مبحث أصولي يهم دارس السِّيرة.
وفعله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لا يخلو إمَّا أنْ يكونَ صدَرَ منه بمحضِ الجِبِلَّةِ، أو بمحضِ التَّشريعِ، وهذا قد يكونُ عامَّاً للأمة، وقد يكون خاصَّاً به -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-، فهذه ثلاثةُ أقسامٍ:
القسم الأول: الأفعالُ الجِبِلَّيَّةُ: كالقيامِ والقُعودِ والأكلِ والشُّربِ، فهذا القِسمُ مُباحٌ ؛ لأنَّ ذلكَ لم يُقصدْ به التَّشريعُ ولم نُتعبَّدْ به، ولذلك نُسِبَ إلى الجِبِلَّة، وهي الخِلْقةُ.
القسم الثاني: الأفعال الخاصة به -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- التي ثبت بالدَّليلِ اختصاصُهُ بها كالجمعِ بين تِسعِ نسوةٍ ؛ فهذا القِسمُ يحرُمُ فيه التَّأسِّي به.
القسم الثالث: الأفعال البيانية التي يقصد بها البيان والتشريع، كأفعال الصَّلاة والحج، فحكم هذا القسمِ تابعٌ لما بيَّنَهُ ؛ فإنْ كانَ المبيَّنُ واجِباً كانَ الفعلُ المبيِّنُ له واجِباً، وإنْ كانَ مندُوباً فمندوبٌ )51 .
خامس عشر: معرفة كيفية الاستفادة منها في الواقع:
الدِّراسةُ المفيدةُ للسِّيرةِ تحصلُ حينَ تُدرَسُ على أنَّها سُننٌ ربَّانيةٌ يُمكنُ أنْ تتكررَ كلما تكررتْ ظروفُها، ولا تتحققُ أبداً حينَ ننظرُ للسِّيرةِ على أنَّها مُجرَّدُ أحداثٍ مُفردةٍ قائمةٍ بذاتٍها حدثتْ زمنَ البعثةِ النَّبَويَّةِ... بل هيَ آياتٌ وعِبَرٌ في شؤونِ الحياةِ كلِّها، وإلا ضاعَ رصيدُها وقوتُها الدَّافعةُ لأجيالِ المسلمين ؛ فهي تربطُ المسلمُ بالسُّننِ الرَّبانيةِ، وتربطُ قلبَهُ باللهِ –تعالى- 52 .
إنَّ كلَّ حركةِ إصلاحٍ أو تغييرٍ تعجزُ عن الاستفادةِ من السِّيرة في صياغةِ مناهجِها وحلِّ مُشكلاتِها هي بعيدةٌ عن الاقتداءِ ؛ لأنَّ الواجبَ تجريدُ السِّيرة من قيدِ الزَّمانِ والمكانِ لتجيب عن أسئلة الواقع ومشكلاته. وهذا النوع من الدراسات قليل جداً ؛ إذ جلّ الدراسات لا تعبر عن عصر مؤلفها، ولا تخدم احتياجات واقعه، ولا تطرق مشكلاته.
قد تكون المشكلة كامنة أحياناً في غياب المقاصد الحقيقية التي تمثل معاني الخلود عند دارسي السِّيرة أي قدرتها على التعامل مع جميع الظروف مما جعلها عند كثيرين تاريخاً لا مصدراً للاهتداء والتشريع.
وهي لا شك تاريخ، ولكنها تاريخٌ وحاضر ومستقبل: تاريخٌ زماناً ومكاناً، وحاضرٌ عطاءً ومصدراً للتشريع، ومستقبلٌ رؤية ًواستشرافاً. وإذا كان التَّاريخ مصدراً للدرسِ والعبرةِ فالسِّيرة أَوْلى ؛ لأنها فترةٌ مُسددةٌ بالوحي، وحقبةُ بيانٍ عمليٍّ للدِّينِ. لقدْ سببَ غيابُ هذا المنطلقِ إغراقاً في الفقهِ النَّظريِّ سواء الذي يسيرُ خلفَ المجتمعِ، أو البعيد عن واقعِهِ كما سببَ تراجُعاً في الفقهِ التطبيقيِّ (فقه التنزيل), فصارتْ مشكلاتُ المسلمينَ تنشدُ الحلَّ المستوردَ. إنَّ مما يُؤكِّدُ أهميةَ الانطلاقِ من ذلك المنطلقِ حين التعامل مع السِّيرة ما يُشير إليه ترتيبُ سُورِ القُرآنِ وآياتِهِ, والسِّيرة بيانٌ عمليٌّ للقرآنِ فلم يجئْ ترتيبُهُ حسب نزولِهِ زَمَاناً ومَكَاناً ؛ لئلَّا يبقى المتأسِّي أسيرَ الزَّمانِ والمكانِ الماضيينِ، بل ليبقى مُسخِّراً للزَّمنِ مُتحكِّماً فيه يستطيعُ تحديدَ الموقعِ المناسبِ للاقتداءِ من خلالِ قيمِ القُرآنِ الكريمِ ومسيرةِ السِّيرة بحسب الظُّروفِ والإمكاناتِ وطبيعة أقدارِ التدينِ التي تحدد مكان الاقتداء من السِّيرة... هذا وإلا بقيت السِّيرة في خانة التبرك والفخر تصاغ في شكل موالد وموائد تشيع فيها البدعة، وتضيع فيها السنَّة، وتضيع معها الأوقات53. وفي سيرة سلفنا إضاءاتٌ للمستنيرين بنورِها، فهذا أبو بكر الصِّدِّيق -رضي الله عنه- يقاتلُ مانعي الزَّكاةِ، ويقولُ لعمرَ بنِ الخطَّاب لمَّا حاولَ تأجيلَ قتالِهم:
( أجبَّارٌ في الجاهليةِ، وخَوَّارٌ في الإسلامِ ؟ ! إنَّهُ قد انقطعَ الوحيُ، وتَمَّ الدِّين، أَوَ ينقصُ وأنا حيٌّ ؟ ! )54، فلم يتقيَّدْ بقيدِ الزَّمانِ، وهو ما قبل فرضية الزكاة في صدر الدعوة. ولذا فإن من الخطأ أن نريد إعادة مراحل السِّيرة التي كانتْ قبلَ اكتمالِ شرائعِ الإسلامِ، فنكتفي ببعضِها ردْحاً من الزَّمنِ، ونحمل النَّاسَ على شيءٍ من الدِّين في مرحلة من الزَّمنِ55 فذلكَ ( تبسيطٌ شديدٌ للأمورِ من ناحيةٍ، وتجاوزٌ لتحليلِ ومعرفةِ أهـمِّ الأبعادِ التي غابتْ عن محاولاتِ التغييرِ، وأدَّتْ إلى تراجعِها )56.
ولكي يتضحَ جانبُ التبسيطِ فإنَّهُ يُردُّ على مَن أرادَ تقييدَ الإفادةِ من السِّيرة بالزَّمانِ بتقييدِها بالمكانِ ! فهل يُطيقُهُ ؟ ولابُدَّ أنْ نلاحظَ -حالَ الإفادةِ من مُعطياتِ السِّيرةِ- أنَّهُ لا يُمكنُ أنْ تُنتِجَ الوسائلُ والتصرفاتُ التي استعملَها رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- النتائجَ نفسَها إذا استعملَها سِواهُ ؛ لاختصاصِ الرَّسُول -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- بالوحي والتَّسديدِ من اللهِ -عَزَّ و جَلَّ- 57.
ولِذَا، فإنَّهُ تبقى للسيرةِ النَّبَويَّة صفةُ المعياريةِ الخالدةِ في الإطارِ العمليِّ التطبيقيِّ، وليس ذلكَ أبداً لممارساتِ أحدٍ غيرِهِ كائناً مَنْ كانَ، فلا يجوزُ إسقاطُ السِّيرةِ على تصرفاتِ بعضِ الأفرادِ أو الجماعاتِ لتسويغِ بعضِ الممارساتِ وإكسابِها المشروعيةَ، سواء قبلَ التصرفِ أو بعدَهُ، وسواء في ذلكَ القِراءاتُ الحَرَكِيَّةُ أو العسكريةُ أو الأمنيةُ أو الاقتصاديةُ أو التربويةُ ما دامتْ فُصِّلتْ حَوَادِثُها على تصرفاتٍ مُعيَّنةٍ، والتي لا يُمكنُ أبداً أنْ تكونَ مِعْياراً، بل هيَ في الحقيقةِ صفحةٌ من التَّاريخ تُفيدُ الدَّرسَ والعِبْرةَ58.
وفي الختام: لعلَّ فيما سبقَ من الضَّوابطِ محاولةً لرسمِ معالمَ في كتابةِ السِّيرة ودراستِها ؛ والمرجُو أنْ تبعثَ لدى المهتمين المبادرةَ بنقدِها وتقويمِها، والسعيَ لتحريرِ منهجٍ علميٍّ متينٍ في دراسةِ سيرةِ الهادي -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-.