زهره النرجس
عضو جديد
-
- إنضم
- 19 أغسطس 2010
-
- المشاركات
- 14,679
-
- مستوى التفاعل
- 390
-
- النقاط
- 0
استدارت نصف استدارة لتحول اتجاه وجهها للجانب الآخر، وتبحر في بحر دموعها تردد أدعيتها وابتهالاتها بصمت شديد حتى لا يشعر بها "أيمن" في الاتجاه الآخر وكأن كل واحد منهم اقتسم عالمه الخاص به ,وراحت تدعو بصمت شديد ورجاء بعيد وتلح في الدعاء مطبقة ً عيناها بشدة تناسب حرارة الدعاء، ويعلو زفيرها وشهيقها ثم تشعر بعلوه وتحاول أن تقلل من حماسها حتى لا يشعر"أيمن"بما يدور في صدرها .
كانت تتمنى أن يكون هذا الطفل هذه المرة هو ابنها الذي ما زال يعيش في صدرها، وتسترسل أفكارها:
هل كلام "أيمن"صحيح؟
هل بالفعل التهمته النيران ومات على وقع الرصاص؟
ولكن إحساسي يقول: إنه ما زال على قيد الحياة.
أنا متأكدة: إنه مازال على قيد الحياة.نعم متأكدة. ويشق عليها الأمر فتضرب بيدها على الفراش وتتساقط دموعها بحرارة ألمها.
وفي الجانب الآخر "أيمن"يشعر بألمها ويستمع لزفراتها ويحاول التظاهر بالنوم وقلبه يتمزق ألماً عليها ،إلى متى تعذب نفسها هكذا؟
ولكنه يُؤْثر الصمت فهي متمسكة برأيها وأي نقاش يشعل ناراً جديدة بينهما.
ويمر الليل طويلاً ثقيلاً على صدر "أمل"التي تنتظر الصباح بفارغ الصبر تقلب عيناها بشكل مستقيم بين الساعة المعلقة على الحائط والشباك.
وكلها أمل أن تحتضن في الغد حلماً، طالما انتظرته وسعَتْ بكل وسعها لتصل إليه وكلما أوشكت أن تمسك به انفلت من بين يديها وظفر به آخرون!!!
وراحت تسترجع الذكريات وذاك المشهد يمثلُ أمام عينيها، وكأنه يحدث الآن أصوات الرصاص تتردد في أذنيها فتطبق يدها على أذنيها محاولةً صدَّ بعض هذه الأصوات..
وترى النيران تشتعل والأهالي تنزح من البيوت والجميع يفرون ،ترى"أمجد"وسط النيران يتراءى لها بقميصه الأحمر وبنطاله الكحلي وكرته مازالت في يده وهو يصيح :ماما....ماما...
ولكن النيران حالت بينهما وكادت ترمي بنفسها في النار لتنقذه ولكن يد "أيمن" حالت بينهما ,فتغمض عيناها محاولة ً طرد هذه المشاهد التي لا تفارقها ليلَ نهارَ.
وحاولت أن تخفف على نفسها الإحساس بالذنب فهي لم تكتف، يداها كانت صاحبة أروع الأفكار في محاولة البحث عن الأطفال المفقودين في الحرب ومحاولة البحث عن أهاليهم ,وفي كل مرة تتطابق فيه مواصفات طفل مع عُمْر ومواصفات ابنها يحدوها الأمل وتندفع بحماس أكبر فتحول دون فرحتها فحوصات (dna ) أو دليل يصل الطفل بأهله ويقطع الأمل في صدر "أمل" المصرة على البحث عن طفلها.
****
وهاهو ذا الصباح ينشر أنواره في كل مكان فتتظاهر "أمل" بالنوم منتظرةً بكل شوق خروج "أيمن"من البيت لتقفز بكل حماس وترتدي ملابسها لتنطلق لاحتضان طفلها الذي جادت به سنين شحيحة ولم يكُتب لها غيره .
فقدته وهو في الرابعة من عمره - تردد وهي تمشط شعرها- :الرابعة،الخامسة .....الرابعة عشر ة....إنه الآن في منتصف عقده الثاني!
يا إلهي لا بد أنه أصبح أجمل بكثير وتخرج بسرعة خاطفة مغلقة الباب على صمت مطبق آملاً أن تعود بطفل يبدد هذا السكون ويصول في هذا البيت ويجول .
****
عادت "أمل"إلى البيت بقلب كسير ودموع غزار ونفس محطمة فما عاد الصبر يجدي ولا الدموع تخفف ،فتحت الباب فإذا" بأيمن" في البيت ،مسحت دموعها بسرعة خاطفةٍ وتحاشت أن تلتقي عيناهما بنظرة يرى فيها انكسارها فهي هكذا دائماً لا بد أن تكون هي المنتصرة .
رمقها "أيمن"بنظرة عطف وشفقة على حالها، وهو أعلم بما يدور في صدرها ولكن ما عسا ه أن يفعل فهو أحرص منها على نفسها، حريص على حرصها الدائم بأن تكون الأقوى ولا تحب نظرات الشفقة والرحمة في عينيه.
-هاأنا عدت بقلب كسير ولكن"أمجد" لم يمت ...وربما مات ولكن لن أستسلم.
-إلى متى تعذبين نفسك وتعذبينني معك "أمجد" مات وانتهى الأمر.
دار بينهما هذا الحوار بصمت قاتل.
****
وبعد معركة النزيف التي مرت بها "أمل" جلست في المساء تحتسي الشاي بصمت كئيب، وهي تنجرف في إعصار من الأفكار في كل مرة تحاول فيها أن تنهي هذه القصة تعود فتبدأ من جديد.
غيرت مكان إقامتها بعد صراع كبير مع "أيمن" حتى لا ترى ذلك المكان الذي طالما احتضنت ابنها فيه فتعود الذكريات تنهش ما تبقى من قلب عليل . ولكن هيهات هيهات فما زال ذالك المشهد زائراً يومي يجثو بثقل على صدرها ويقتحم عليها أفكارها دون استئذان .
وحينما حاولت أن تشغل أوقات فراغها حتى لا تكون ضحية أفكار لا تفارقها قادت نفسها إلى مصير مجهول ومعارك متكررة، ولم تدرك أنها عندما أنشئت هذه الجمعية ستعود عليها بكل هذه المتاعب كانت تظن أنها تستطيع أن تسيطر على مشاعرها وتسعد الآخرين بعودة أبنائهم، وهي تدرك أن عاطفتها لا يمكن أن تسيطر عليها, ولكن بعد صدمة الأمس لا بد أن تفعل شيئاً تحاول فيه تغيير وقع هذه الحياة الرتيبة لا بد أن تنقذ حياتها وحياة زوجها فهذا الجحيم أصبح لا يطاق ولكن كيف ؟؟!!
وبينما هي على هذا الحال في مواجهة جيش من الأفكار دخل"أيمن" وهو يحاول أن يبدي عدم ملاحظته "لأمل"، وهي تحيط نفسها بعالم الأوهام والأفكار وتجدد نشاطها بعد صدمة الأمس التي تحاول أن تخفيها قدر المستطاع ويحافظ هو الآخر على خصوصياتها ويظهر عدم ملاحظته لكل هذا الانكسار على وجهها .
حولت"أمل" نظرها إلى "أيمن"وابتدأت الحديث قائلة :"أيمن" خطرت ببالي فكرة للتو .
"أيمن"وهو يدعو الله ألا تكون هذه بداية معاناةٍ جديدة :وما هي هذه الفكرة؟!
"أمل" وهي تقفز من مكانها بنشوة مبتسمة - تحاول أن تخفي ألمها -:سأكفل طفلاً.
تنفس الصعداء وقال باستغراب: تكفلين طفلاً.
ردت بصوت عليه نبرات الحزن دون أن تسيطر على نفسها :
نعم سأكفل طفلاً,إلى متى سأظل أركض خلف وهم ؟
قد تكون على صواب.
قد يكون "أمجد"إحدى ضحايا تلك الليلة اللعينة ,لا بد لي أن أرضى بالقدر وأحاول التكيف مع وضعي، وهذه أفضل فكرة خطرت ببالي .
فرح "أيمن"بهذه الفكرة فرحاً شديداً وكان فرحه بتغيير "أمل"بعض أفكارها أكبر من فرحه بفكرتها وراح يشجعها .
ابتسمت "أمل" وبدأ عليها الارتياح وهي ترى الفرحة على وجه "أيمن".
وبدأت تستسلم للواقع قليلاً .
في صباح جديد يطل على هذا البيت الصغير خرجت "أمل"لأحد الملاجئ التي ضمت بعض أطفال الحرب المفقودين ,وبدأت في إجراءات الكفالة ,اختارته ذكراً في نفس عُمْر "أمجد"حتى تشعر بقربه منها .
وعادت بهذا الطفل والدنيا تبتسم لها، وهي في قمة السعادة ,دخلت البيت، وكان "أيمن" في انتظارها رأى وجهها، وهو يتلألأ فرحاً فتهللت أساريره؛كان خائفاً من عدم اقتناعها بهذه الفكرة، ولكن هذه الفرحة على وجهها تدل على سعادتها بهذا الأمر دخلت وأخذت تضم الطفل
أنظر يا"أيمن"إنه يشبه "أمجد"أليس كذلك؟ سأطلق عليه اسم "أمجد" ما رأيك؟
أطرق "أيمن"رأسه وغشته بعض الخيبة - ما زلنا في "أمجد" إذن لم يتغير شيء- ورد عليها: جميل"أمجد"جميل.
****
مرت على وجود "أمجد"في هذا البيت عشرة أعوام من أسعد أيام عمره بين أمٍ حانية وأب ودود.
وما فرحت "أمل" بعد ولادة "أمجد" بفرحة أكبر من دخول"أمجد"هذا البيت فقد بدد ذلك الحزن ونشر السرور والهدوء وأراح قلب "أمل" من نزيف مستمر، فكلما عادت الذكرى تطرق قلبها المحزون فاجأها حب هذا الولد بمخزون من القوة والاحتمال.
****
عادت "أمل" كما عرفها "أيمن" تلك الفتاة المحبة للحياة تلك التي ملأت حياته حبًّا وسرورًا...
تلك المشاكسة التي يشبهها دومًا بخلية نحل لا تسكن أبدًا.
ولكن لم تستمر فرحة "أيمن" طويلاً فقد تعرضت "أمل" لمرض شديد وبدت كأنها تعيش آخر أيامها. كان "أيمن" يحاول أن يفعل المستحيل؛ لكي لا يفقد رفيقة صباه وملهمته معنى الحياة...
****
كان "أمجد" يتخبط في ذلك المنزل خوفًا من نبأ مشئوم .
جلس "أيمن" بجانب "أمل" يتأمل آثار المرض على ذلك الوجه الشفاف فبادرته بالحديث، وهي تحاول تحريك شفتين يعلوهما الجفاف :"أيمن" لديَّ رغبة عارمة أن أرى ما في الصندوق .
"أيمن" :أي صندوق ؟!!
"أمل":الصندوق الذي أحضرته مع "أمجد"عندما عدت من الملجأ.
"أيمن":وما الذي ذكَّرك به الآن.؟!!
"أمل":وهل نسيته كي أتذكره ؟
وهل نسيت "أمجد"ابني الذي ولدته ما بين حياة وموت حتى أتذكره؟
قالت هذه الكلمة وحشرجة عارمة تتراقص مع كلماتها، حتى لا تكاد تُفهم، ودموع غزار تتساقط على وجه مثقل بالألم .
"أيمن":أرجوك.
لا داعي لكل هذا سأحضر الصندوق وأمري لله .
جاء "أيمن" بالصندوق مثقل الخُطى وهو يتمنى ألا تفتحه، فهو لا يريد أن تستمر في تعذيب نفسها حتى في لحظاتها الصعبة هذه.
ولكن"أمل"تصر على فتحه، ويستسلم "أيمن" حتى لا يثير جدال هو في غنًى عنه .
اقترب ووضع الصندوق بين يديها .
فتحته بيدين مرتعشتين مثقلتين، وهي ترتجف كأنها في شتاء قارص .
و"أمجد"يرمقها من بعيد، وكل منهم في نفسه يدور حوار .
-"أمجد": هل ستتغير نظرة أمي تجاهي بعد فتحها الصندوق .
-"أمل": أشعر أن هذه آخر لحظاتي ولن يغير في الأمر شيء ما في الصندوق فحبي "لأمجد " يساوي حبي "لأمجد"ابني تماماً، ولكن هو شعور غريب ورغبة شديدة .
وقطعت صرخت "أمل" كل هذه الحوارات عندما رأت كرة "أمجد"عليها آثار السواد والحروق , وقميصه الأحمر مع بنطاله ألكحلي وعليها آثار نيران نهشتها هنا وهناك .. وأقبل الجميع ليرى مفاجأة ما كانت على الحسبان .
حاولت "أمل"أن تقف على قدميها لتحتضن "أمجد" ولكن المرض كان أقوى منها فجثت على ركبتيها، وهي تشير إليه بالاقتراب ودموعها تتساقط كما تتساقط أوراق الخريف على الأرض وصوت نحيبها يعزف سيمفونية مؤلمة في أنحاء الغرفة. اقترب "أمجد" وهو في ذهول من ما رأى .
احتضنته وهي تردد :""تركت حياتي مركولة في صندوق""،كل هذه السنين .
وقف "أيمن" مذهولًا كأنه قطعة في هذه الغرفة..
لم يقوَ على الحركة ولم يحركه من هذا السكون إلا سقوط "أمل" على الأرض دون حراك.
كانت تتمنى أن يكون هذا الطفل هذه المرة هو ابنها الذي ما زال يعيش في صدرها، وتسترسل أفكارها:
هل كلام "أيمن"صحيح؟
هل بالفعل التهمته النيران ومات على وقع الرصاص؟
ولكن إحساسي يقول: إنه ما زال على قيد الحياة.
أنا متأكدة: إنه مازال على قيد الحياة.نعم متأكدة. ويشق عليها الأمر فتضرب بيدها على الفراش وتتساقط دموعها بحرارة ألمها.
وفي الجانب الآخر "أيمن"يشعر بألمها ويستمع لزفراتها ويحاول التظاهر بالنوم وقلبه يتمزق ألماً عليها ،إلى متى تعذب نفسها هكذا؟
ولكنه يُؤْثر الصمت فهي متمسكة برأيها وأي نقاش يشعل ناراً جديدة بينهما.
ويمر الليل طويلاً ثقيلاً على صدر "أمل"التي تنتظر الصباح بفارغ الصبر تقلب عيناها بشكل مستقيم بين الساعة المعلقة على الحائط والشباك.
وكلها أمل أن تحتضن في الغد حلماً، طالما انتظرته وسعَتْ بكل وسعها لتصل إليه وكلما أوشكت أن تمسك به انفلت من بين يديها وظفر به آخرون!!!
وراحت تسترجع الذكريات وذاك المشهد يمثلُ أمام عينيها، وكأنه يحدث الآن أصوات الرصاص تتردد في أذنيها فتطبق يدها على أذنيها محاولةً صدَّ بعض هذه الأصوات..
وترى النيران تشتعل والأهالي تنزح من البيوت والجميع يفرون ،ترى"أمجد"وسط النيران يتراءى لها بقميصه الأحمر وبنطاله الكحلي وكرته مازالت في يده وهو يصيح :ماما....ماما...
ولكن النيران حالت بينهما وكادت ترمي بنفسها في النار لتنقذه ولكن يد "أيمن" حالت بينهما ,فتغمض عيناها محاولة ً طرد هذه المشاهد التي لا تفارقها ليلَ نهارَ.
وحاولت أن تخفف على نفسها الإحساس بالذنب فهي لم تكتف، يداها كانت صاحبة أروع الأفكار في محاولة البحث عن الأطفال المفقودين في الحرب ومحاولة البحث عن أهاليهم ,وفي كل مرة تتطابق فيه مواصفات طفل مع عُمْر ومواصفات ابنها يحدوها الأمل وتندفع بحماس أكبر فتحول دون فرحتها فحوصات (dna ) أو دليل يصل الطفل بأهله ويقطع الأمل في صدر "أمل" المصرة على البحث عن طفلها.
****
وهاهو ذا الصباح ينشر أنواره في كل مكان فتتظاهر "أمل" بالنوم منتظرةً بكل شوق خروج "أيمن"من البيت لتقفز بكل حماس وترتدي ملابسها لتنطلق لاحتضان طفلها الذي جادت به سنين شحيحة ولم يكُتب لها غيره .
فقدته وهو في الرابعة من عمره - تردد وهي تمشط شعرها- :الرابعة،الخامسة .....الرابعة عشر ة....إنه الآن في منتصف عقده الثاني!
يا إلهي لا بد أنه أصبح أجمل بكثير وتخرج بسرعة خاطفة مغلقة الباب على صمت مطبق آملاً أن تعود بطفل يبدد هذا السكون ويصول في هذا البيت ويجول .
****
عادت "أمل"إلى البيت بقلب كسير ودموع غزار ونفس محطمة فما عاد الصبر يجدي ولا الدموع تخفف ،فتحت الباب فإذا" بأيمن" في البيت ،مسحت دموعها بسرعة خاطفةٍ وتحاشت أن تلتقي عيناهما بنظرة يرى فيها انكسارها فهي هكذا دائماً لا بد أن تكون هي المنتصرة .
رمقها "أيمن"بنظرة عطف وشفقة على حالها، وهو أعلم بما يدور في صدرها ولكن ما عسا ه أن يفعل فهو أحرص منها على نفسها، حريص على حرصها الدائم بأن تكون الأقوى ولا تحب نظرات الشفقة والرحمة في عينيه.
-هاأنا عدت بقلب كسير ولكن"أمجد" لم يمت ...وربما مات ولكن لن أستسلم.
-إلى متى تعذبين نفسك وتعذبينني معك "أمجد" مات وانتهى الأمر.
دار بينهما هذا الحوار بصمت قاتل.
****
وبعد معركة النزيف التي مرت بها "أمل" جلست في المساء تحتسي الشاي بصمت كئيب، وهي تنجرف في إعصار من الأفكار في كل مرة تحاول فيها أن تنهي هذه القصة تعود فتبدأ من جديد.
غيرت مكان إقامتها بعد صراع كبير مع "أيمن" حتى لا ترى ذلك المكان الذي طالما احتضنت ابنها فيه فتعود الذكريات تنهش ما تبقى من قلب عليل . ولكن هيهات هيهات فما زال ذالك المشهد زائراً يومي يجثو بثقل على صدرها ويقتحم عليها أفكارها دون استئذان .
وحينما حاولت أن تشغل أوقات فراغها حتى لا تكون ضحية أفكار لا تفارقها قادت نفسها إلى مصير مجهول ومعارك متكررة، ولم تدرك أنها عندما أنشئت هذه الجمعية ستعود عليها بكل هذه المتاعب كانت تظن أنها تستطيع أن تسيطر على مشاعرها وتسعد الآخرين بعودة أبنائهم، وهي تدرك أن عاطفتها لا يمكن أن تسيطر عليها, ولكن بعد صدمة الأمس لا بد أن تفعل شيئاً تحاول فيه تغيير وقع هذه الحياة الرتيبة لا بد أن تنقذ حياتها وحياة زوجها فهذا الجحيم أصبح لا يطاق ولكن كيف ؟؟!!
وبينما هي على هذا الحال في مواجهة جيش من الأفكار دخل"أيمن" وهو يحاول أن يبدي عدم ملاحظته "لأمل"، وهي تحيط نفسها بعالم الأوهام والأفكار وتجدد نشاطها بعد صدمة الأمس التي تحاول أن تخفيها قدر المستطاع ويحافظ هو الآخر على خصوصياتها ويظهر عدم ملاحظته لكل هذا الانكسار على وجهها .
حولت"أمل" نظرها إلى "أيمن"وابتدأت الحديث قائلة :"أيمن" خطرت ببالي فكرة للتو .
"أيمن"وهو يدعو الله ألا تكون هذه بداية معاناةٍ جديدة :وما هي هذه الفكرة؟!
"أمل" وهي تقفز من مكانها بنشوة مبتسمة - تحاول أن تخفي ألمها -:سأكفل طفلاً.
تنفس الصعداء وقال باستغراب: تكفلين طفلاً.
ردت بصوت عليه نبرات الحزن دون أن تسيطر على نفسها :
نعم سأكفل طفلاً,إلى متى سأظل أركض خلف وهم ؟
قد تكون على صواب.
قد يكون "أمجد"إحدى ضحايا تلك الليلة اللعينة ,لا بد لي أن أرضى بالقدر وأحاول التكيف مع وضعي، وهذه أفضل فكرة خطرت ببالي .
فرح "أيمن"بهذه الفكرة فرحاً شديداً وكان فرحه بتغيير "أمل"بعض أفكارها أكبر من فرحه بفكرتها وراح يشجعها .
ابتسمت "أمل" وبدأ عليها الارتياح وهي ترى الفرحة على وجه "أيمن".
وبدأت تستسلم للواقع قليلاً .
في صباح جديد يطل على هذا البيت الصغير خرجت "أمل"لأحد الملاجئ التي ضمت بعض أطفال الحرب المفقودين ,وبدأت في إجراءات الكفالة ,اختارته ذكراً في نفس عُمْر "أمجد"حتى تشعر بقربه منها .
وعادت بهذا الطفل والدنيا تبتسم لها، وهي في قمة السعادة ,دخلت البيت، وكان "أيمن" في انتظارها رأى وجهها، وهو يتلألأ فرحاً فتهللت أساريره؛كان خائفاً من عدم اقتناعها بهذه الفكرة، ولكن هذه الفرحة على وجهها تدل على سعادتها بهذا الأمر دخلت وأخذت تضم الطفل
أنظر يا"أيمن"إنه يشبه "أمجد"أليس كذلك؟ سأطلق عليه اسم "أمجد" ما رأيك؟
أطرق "أيمن"رأسه وغشته بعض الخيبة - ما زلنا في "أمجد" إذن لم يتغير شيء- ورد عليها: جميل"أمجد"جميل.
****
مرت على وجود "أمجد"في هذا البيت عشرة أعوام من أسعد أيام عمره بين أمٍ حانية وأب ودود.
وما فرحت "أمل" بعد ولادة "أمجد" بفرحة أكبر من دخول"أمجد"هذا البيت فقد بدد ذلك الحزن ونشر السرور والهدوء وأراح قلب "أمل" من نزيف مستمر، فكلما عادت الذكرى تطرق قلبها المحزون فاجأها حب هذا الولد بمخزون من القوة والاحتمال.
****
عادت "أمل" كما عرفها "أيمن" تلك الفتاة المحبة للحياة تلك التي ملأت حياته حبًّا وسرورًا...
تلك المشاكسة التي يشبهها دومًا بخلية نحل لا تسكن أبدًا.
ولكن لم تستمر فرحة "أيمن" طويلاً فقد تعرضت "أمل" لمرض شديد وبدت كأنها تعيش آخر أيامها. كان "أيمن" يحاول أن يفعل المستحيل؛ لكي لا يفقد رفيقة صباه وملهمته معنى الحياة...
****
كان "أمجد" يتخبط في ذلك المنزل خوفًا من نبأ مشئوم .
جلس "أيمن" بجانب "أمل" يتأمل آثار المرض على ذلك الوجه الشفاف فبادرته بالحديث، وهي تحاول تحريك شفتين يعلوهما الجفاف :"أيمن" لديَّ رغبة عارمة أن أرى ما في الصندوق .
"أيمن" :أي صندوق ؟!!
"أمل":الصندوق الذي أحضرته مع "أمجد"عندما عدت من الملجأ.
"أيمن":وما الذي ذكَّرك به الآن.؟!!
"أمل":وهل نسيته كي أتذكره ؟
وهل نسيت "أمجد"ابني الذي ولدته ما بين حياة وموت حتى أتذكره؟
قالت هذه الكلمة وحشرجة عارمة تتراقص مع كلماتها، حتى لا تكاد تُفهم، ودموع غزار تتساقط على وجه مثقل بالألم .
"أيمن":أرجوك.
لا داعي لكل هذا سأحضر الصندوق وأمري لله .
جاء "أيمن" بالصندوق مثقل الخُطى وهو يتمنى ألا تفتحه، فهو لا يريد أن تستمر في تعذيب نفسها حتى في لحظاتها الصعبة هذه.
ولكن"أمل"تصر على فتحه، ويستسلم "أيمن" حتى لا يثير جدال هو في غنًى عنه .
اقترب ووضع الصندوق بين يديها .
فتحته بيدين مرتعشتين مثقلتين، وهي ترتجف كأنها في شتاء قارص .
و"أمجد"يرمقها من بعيد، وكل منهم في نفسه يدور حوار .
-"أمجد": هل ستتغير نظرة أمي تجاهي بعد فتحها الصندوق .
-"أمل": أشعر أن هذه آخر لحظاتي ولن يغير في الأمر شيء ما في الصندوق فحبي "لأمجد " يساوي حبي "لأمجد"ابني تماماً، ولكن هو شعور غريب ورغبة شديدة .
وقطعت صرخت "أمل" كل هذه الحوارات عندما رأت كرة "أمجد"عليها آثار السواد والحروق , وقميصه الأحمر مع بنطاله ألكحلي وعليها آثار نيران نهشتها هنا وهناك .. وأقبل الجميع ليرى مفاجأة ما كانت على الحسبان .
حاولت "أمل"أن تقف على قدميها لتحتضن "أمجد" ولكن المرض كان أقوى منها فجثت على ركبتيها، وهي تشير إليه بالاقتراب ودموعها تتساقط كما تتساقط أوراق الخريف على الأرض وصوت نحيبها يعزف سيمفونية مؤلمة في أنحاء الغرفة. اقترب "أمجد" وهو في ذهول من ما رأى .
احتضنته وهي تردد :""تركت حياتي مركولة في صندوق""،كل هذه السنين .
وقف "أيمن" مذهولًا كأنه قطعة في هذه الغرفة..
لم يقوَ على الحركة ولم يحركه من هذا السكون إلا سقوط "أمل" على الأرض دون حراك.